إعداد محمد أسامة
لا يحلم أكثر المنشغلين بالتجربة الإيمانية والشغوفين بمقارنة المذاهب والنحل، بقطع نصف رحلة الفيلسوف «رينيه جان ماري جوزيف جينو» مع الأديان والنحل، مثلما لا يحلم أصحاب القلوب القلقة والأرواح المغتربة ببلوغ طمأنينة نفس كالتي بلغها. وليس هذا تحيزًا لمن تقلب بين العقائد حتى وجد في كنف الإسلام مستقرًا له، وإن كان ذلك قد زلزل البلاط النخبوي في أوروبا بالفعل. كما أنه ليس انبهارًا سطحيًا بانتقاداته القوية للعالم الحديث والفرق الروحانية التي اختلط بها وعاصرها. فإن رينيه جينو – بحق – وحيد عصره، اطلاعًا وتجردًا وزهدًا. وهو نقطة اتصال استثنائية بين الغرب في سكرته المادية التي تثير ظمأ الروح، والشرق بمنابعه الروحانية الثرية.
نشأ جينو في فترة حرجة من عمر الزمان، أبصر أخطارًا محدقة، وتخبطًا يسيطر على الإنسان، هذا الكائن ذو الجوهر الميتافيزيقي. فانطلق في تجربته الشخصية الصادقة، ملتمسًا الحق في كل طريق يقطعه، حتى بلغ هدفه، واستكانت روحه. وعلى طول هذه الرحلة، دون جينو سفرًا خالدًا من المقالات والدراسات والكتب، بلغة صريحة وصادمة ومحكمة، وقف أمامها مثقفو أوروبا والعالم بإجلال وإكبار.
لا أدل على ما سبق من شهادة «أندريه جيد»، أديب فرنسا الكبير، إذ قال: «إنني حقًا لا أجد شيئًا أعترض به على كتابات جينو، إن ما كتبه لا يتطرق إليه النقض»، كما قال: «حقًا، إن كتب جينو رائعة. وإنه لعلى هدى فيما يخص القلق الذي يسود العالم الغربي وعواقبه الوخيمة». قال ذلك جيد رغم خطورة آراء جينو على كل ما يؤمن به، باعترافه شخصيًا، فهو القائل: «إذا كان جينو على حق، فمن الواضح أن كل آرائي تصبح عديمة القيمة، إنها تنهار انهيارًا تامًا».
الطريق من جينو إلى عبد الواحد
ولد جينو ببلدة بلوا الفرنسية، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1886، لأسرة فرنسة كاثوليكية محافظة، ميسورة الحال. تتلمذ في البداية على أيدي الرهبان اليسوعيين، بناء على رغبة والده المتصوف الصادق، ثم انتقل الفتى النابغ إلى باريس لدراسة الرياضيات. هناك، حيث يقيم الفلاسفة والعلماء والروحانيون والمشعوذون على اختلاف مذاهبهم وتباينها، حيث المتع بجميع صورها في متناول اليد، حسية كانت أم روحية، هناك ترك جينو الدراسة الأكاديمية، كان ذلك في عام 1905.
وبكل ما أوتي الشاب من تفان وصدق وانفتاح، أخذ ينهل من معين الجماعات الروحانية السرية، من تنجيم واتصال بالأرواح وماسونية وغنوصية وثيوصوفية وغيرها، وسرعان ما تدرج في رتبها الكهنوتية وسطع نجمه بين الأعضاء. لكنه اكتشف بانغماسه في هذه السبل زيفًا وزيغًا وسطحية لا يمكن معها لممارس أن يخترق الحجب وينفذ إلى الحق القابع في الما وراء.
خرج جينو من هذه التجرية أشد حكمة وتمييزًا وتصميمًا. فأصدر عام 1909 مجلة باسم «المعرفة»، سيعينه على تحريرها عالم فرنسي يدعى «ليون شمبرونو»، اعتنق الإسلام وتسمى بـ«عبد الحق». كذلك سيعينه مفكر ورسام سويدي يدعى «جان جوستاف أجلي»، اعتنق الإسلام مبكرًا على يد «عبد الرحمن عليش الكبير»، شيخ المالكية بمصر، وتسمى بـ«عبد الهادي». جدير بالذكر أن الشيخ عبد الهادي سبق أن استكتب جينو في مجلة عربية إيطالية شارك في تحريرها، وخصها جينو بمقالات عن شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي تدل على تمكن ونفاذ بصيرة.
أما عن مجلة «المعرفة»، فقد أسهم فيها جينو بالجزء الأكبر من المحتوى المنشور، كان أغلبه أبحاثًا وصفية ونقدية تتناول الإسلام والهندوسية والبوذية وغيرها. إذ نقل جينو اهتمامه من الجماعات الباطنية السرية، إلى المسالك الباطنية في الأديان الكبرى. وبحلول عام 1912، شهدت حياة جينو أحداثًا فاصلة. ففيها سيتزوج فتاة فرنسية. وفيها ستتوقف المجلة عن الصدور. وفيها سيقرر جينو اعتناق الإسلام والتسمي بـ«عبد الواحد يحيى»، بعد اطلاع واسع على التصوف الإسلامي، واتصال نشط بالشيخ عليش، ومصاحبة الشيخ عبد الحق والشيخ عبد الهادي.
هنا تبدأ مرحلة جديدة من حياة جينو/عبد الواحد، تتسم بالحضور الاجتماعي والثقافي، وارتياد محاضرات السوربون التي سيحصل منها على ليسانس الآداب في الفلسفة ثم دبلومة الدراسات العليا. كما ستشيع كتاباته المنشورة في مختلف المجلات، يفضح فيها انحرافات الماسونية والبروتستانتية وسائر الفرق الأخرى التي خالطها حتى خبرها. خلال الفترة نفسها، تنقل الشيخ بين عدد من الوظائف التدريسية، قبل أن يقرر الاستقالة تفرغًا للبحث والكتابة. ونشر له بالفعل خلال هذا العقد عدد من الكتب والمقالات الهامة.
لكن بعد وفاة والديه وزوجته، ولحاق أفراد الأسرة المقربين بهم، رحل الشيخ عبد الواحد إلى القاهرة عام 1930، بناء على طلب دار نشر فرنسية، بهدف الاتصال بالحركة الصوفية وترجمة بعض النصوص، في زيارة قدرت مدتها بثلاثة أشهر. لكنه لن يعود، حتى بعد قرار دار النشر بإلغاء المهمة.
في مصر، التحق الشيخ بالطريقة الشاذلية. وحاول في السنوات الأولى نشر الثقافة الصوفية، عن طريق مجلة لم يكتب لها النجاح، وعكف بعدها على الكتابة لعدد من المجلات العربية والأوروبية المرموقة. كما حرص على التجاوب مع خطابات القراء التي تنهال عليه من جميع أنحاء العالم، تستشكل أو تستفسر عن بعض ما يأتي في كتاباته. دون أن يشغله أي من هذا عن إصدار مزيد من الكتب الهامة. أما عن الحياة الشخصية، فقد تزوج الشيخ في سنوانه الأولى بفاطمة، ابنة الشيخ محمد إبراهيم، الأمية التي لا تتكلم إلا العربية وتصغره بسنوات ليست بالقليلة. إلا أنها كانت زيجة سعيدة بشهادة الأصدقاء، أزهرت ثلاثة أطفال بعد أن قارب اليأس على التمكن من قلب الشيخ، هم خديجة وليلى وأحمد، وآخر سيولد بعد رحيل الشيخ ليسمى بعبد الواحد تيمنًا به.
عاش الشيخ عبد الواحد حياة هادئة وبسيطة وزاهدة، بعيدة عن الأضواء، يستقبل في منزله أهل العلم والأصدقاء والأحبة والخاصة. كما تمتع بمكانة عالية في قلوب البسطاء، فكان إذا ما دخل المسجد سارع رواده بالصلاة على النبي استبشارًا بالولي وترحيبًا به. في الوقت نفسه، كان الشيخ عبد الواحد يرفض لقاء الصحفيين والفضوليين، صيانة لوقته وزهدًا في الحديث عن تفاصيل حياته التي لن تفيد أحدًا. حتى أخذ السفراء وكبار الصحفيين والشخصيات العامة يلتمسون الحيل للقاء هذا الراهب المبجل والمحبوب من الجميع.
كانت هذه حياة الشيخ كما اختارها، وستنتهي في السابع من يناير/كانون الثاني عام 1951. ليحتل خبر الوفاة، وتأبينات النخب العلمية، وغمزات الماسونية وأترابها، مساحة كبيرة من جرائد أوروبا بلغاتها المختلفة. بينما كانت لحظات الشيخ الأخيرة بالبساطة التي يألفها، وسط أفراد الأسرة، والصديقة «فلنتين دي سان بوان»، الأديبة والفنانة الفرنسية التي اعتنقت الإسلام. تحدث الشيخ إلى زوجته العطوفة، طمأنها ألا تخشى الفراق، صحيح أنها لن تراه، لكنه لن يفارقها أبدًا، وسيظل دائمًا معها. ثم كان آخر كلامه لفظ الجلالة مفردًا.
من ميراث الشيخ
إلى جانب شغف الشيخ عبد الواحد بالتصوف والإسلام، كان يولي اهتمامًا خاصًا بالهندوسية، التي اعتبرها بعض الوقت خير بديل روحاني للغرب الذي لن يقبل الحقيقة في صيغتها الإسلامية[4]. وقد أكسبه الاتصال ببعض نساك الهندوسية انطباعًا سلبيًا عن البوذية سيلازمه فترة من عمره. علاوة على ذلك، بذل الشيخ جهدًا كبيرًا في محاولة لإحياء الباطنية الكاثوليكية، قبل أن يعاود الاهتمام بالماسونية فترة، فقد بعدها الأمل في كليهما.
في الواقع، للشيخ عبد الواحد إنتاج فكري غزير، متنوع وشديد الترابط في آن واحد. لكن محاوره الرئيسية تنبع جميعًا من قلق إنساني، لم يزدد بمرور السنين إلا حدة ووجاهة، عنه قال جيد: «حقًا، إن كتب جينو رائعة، وإنه لعلى هدى فيما يتعلق بالقلق الذي يسود العالم الغربي ونتائجه السيئة».
العالم الحديث: علومه وروحانيته
كان موقف الشيخ من العالم الحديث حادًا وصريحًا. حتى ألف كتابًا هامًا سماه «أزمة العالم الحديث»، يدلل فيه وفي غيره على أن الحضارة الغربية ليس استثناء بين الحضارات، من حيث القابلية للانهيار والاندراس. وحذر فيه من الاتباع الأعمى لها، بل واتخاذها معيارًا للحكم على الروحانيات. فكثيرًا ما كان ينتقد الروحانيات الحديثة مثل تحضير الأرواح، إذ تدلل هذه الروحانيات على صحتها بقوانين المادة نفسها، مما أضر ببعض ممارسيها ضررًا بليغًا. ناهيك بالمغالطات الفجة الكامنة في أسسها. فكيف لروح مجردة أن تطفئ شمعة أو تحرك منضدة؟
في محاضرة له بجامعة باريس، نقد الشيخ بعض هذه المغالطات قائلًا: «يتساءل البعض عن إمكانية تخطي الطبيعة والوصول إلى ما ورائها؟ ونحن نجيبهم بوضوح وبلا تردد: ليس ذلك ممكنًا فحسب، بل إنه واقع معاش. وسيقولون إنها قضية تفتقر إلى برهان، لكن أي برهان على صدق هذا الأمر يمكن لإنسان تقديمه؟ إنه لمن الغريب أن يطلب المرء برهانًا على نوع كهذا من المعرفة، بدلًا من السعي إلى امتلاكه بتجربة شخصية، سالكًا إليها ما تتطلبه. إن إحلال نظرية المعرفة محل المعرفة ذاتها لهو إعلان صريح على عجز الفلسفة الحديثة».
ختامًا: لماذا الإسلام؟
يرى «فريجوف شوان» – فيلسوف ألماني اعتنق الإسلام وتسمى بـ«عيسى نور الدين»، وأحد أبرز أتباع مدرسة الشيخ عبد الواحد يحيى – أن العنصر الأهم في نظر الشيخ كان اتباع مسلك روحاني عتيق، وأنه لما قدم إلى القاهرة وجد ضالته في المدرسة الصوفية الشاذلية، ولعله ما كان لينضبط في هذا الطريق لو لم تقدر له زيارة القاهرة.
في المقابل، وبما لا يتعارض ضرورة مع الرأي السابق، يتحدث شيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود، صديق وتلميذ العلامة الفرنسي، عن السبب «البسيط والمنطقي» الذي قاد الشيخ الفرنسي إلى الإسلام، قائلًا: «لقد أراد أن يعتصم بنص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلم يجد بعد دراسته العميقة سوى القرآن؛ فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل».
على كل حال، تؤكد كتابات الشيخ انجذابه إلى التقسيم الصوفي الصريح للدين، ما بين ظاهر وباطن، أو شريعة وحقيقة، تضبط الأولى حياة الجميع، بينما يغوص في الثانية نخبة قليلة، لا لكهنوتية أو تمييز اجتماعي، بل للاختلاف الطبيعي بين الناس في الاستعداد الروحاني، وفرصة الاتصال بشيخ المربي، والشجاعة اللازمة لخوض التجربة، والرغبة في ذلك قبل كل شيء. فلا يملك أكثر الناس شجاعة الشيخ وصدق مسعاه، وعن هذا قال أندرية جيد: «إني أحب الحياة، أحبها في قوة، وأحبها في تنوعها، ولا أريد أن أحرم نفسي من متعها المختلفة الألوان».
في النهاية، يتوجب علينا قراءة إنتاج الشيخ عبد الواحد يحيى بمزيد من الاهتمام، والعمل على ترجمته. فإن تكن أزمة الغرب هي ما دفعته إلى خوض هذه الرحلة الجسورة، فإننا الأكثر حاجة إلى هذه الكتابات اليوم. لقد عاتبنا الشيخ – نحن معشر الشرقيين – على التخلي عن تراثنا الروحاني العتيق، والسعي خلف ممارسات الغرب الروحانية غير المنضبطة، والمتناقضة في أساسها، كما استنكر اتباعنا لهم في قصر مساحة العلم البشري، على الإطار التجريبي الغربي. مؤكدًا على أن خلاص الغرب وأتباعه المشرقيين في طريق روحاني قويم منضبط بالوحي، متوارث من جيل إلى جيل.
(المصدر: إضاءات)