روبن رايت: هل يمثل الانسحاب الكبير من أفغانستان نهاية العصر الأمريكي؟
ترجمة عادل رفيق
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
نشرت مجلة نيويوركر الأمريكية الأسبوعية في 15 أغسطس 2021 مقالاً تحت عنوان: “هل يمثل الانسحاب الكبير من أفغانستان نهاية العصر الأمريكي؟”، للكاتبة روبن رايت، وهي كاتب عمود لمجلة نيويوركر منذ عام 1988، حيث قالت “رايت”، في صدر مقالها، تعليقاً على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان مؤخراً: “إنها لنهاية مشينة تضعف مكانة الولايات المتحدة في العالم، وربما بشكل لا رجعة فيه”. وقد جاء المقال على النحو التالي:
سيسجل التاريخ بالتأكيد تلك التغريدة السخيفة من حيث التوقيت الذي نُشرت فيه؛ حيث طرحت السفارة الأمريكية في كابول يوم الاثنين، 9 أغسطس 2021، سؤالاً على متابعيها البالغ عددهم أربعمائة ألف متابع، على هذا النحو: “في هذا اليوم المفعم بالسلام (يوم الإثنين)، نريد أن نسمع منكم. ماذا تودون أن تخبروا الأطراف المتفاوضة في الدوحة عن آمالكم في التسوية السياسية الجارية؟ السلام من أجل أفغانستان”. لقد عكست هذه الرسالة وهم السياسة الأمريكية. فمع اجتياح طالبان للبلاد، وقيامها باقتحام العواصم الإقليمية في كل أفغانستان واحدة تلو الأخرى، كان من الوهم احتمال نجاح الدبلوماسية بعد مرور عام من بدء المحادثات التي تدعمها الولايات المتحدة والتي تجري في قطر – حيث سرعان ما توقف كل شيء. وبحلول يوم الخميس، كانت الحكومة الأفغانية تسيطر فقط على ثلاث مدن رئيسية من كل مدن البلاد. وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، زعيم أقوى دولة في العالم، أنه سيرسل ثلاثة آلاف جندي أمريكي إلى أفغانستان لسحب المئات من دبلوماسييها وموظفيها من تلك السفارة (السفارة الأمريكية بأفغانستان). وبحلول يوم الأحد، كان كل شيء قد انتهى – قبل الغسق. لقد فر الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد، وانهارت حكومته، واختفت قوات الأمن الأفغانية -التي درّبتها الولايات المتحدة- بكل بساطة مع زحف طالبان إلى العاصمة. واضطر الدبلوماسيون الأمريكيون – بعد إخلاء السفارة الأمريكية التي تشبه القلعة – إلى البقاء متحصنين في أماكن خصصت لهم في المطار بينما كانوا ينتظرون الإجلاء. لقد انتهت مغامرة أمريكا المأسوية التي استمرت عقدين في أفغانستان. وبالنسبة للأميركيين، تبدو أفغانستان قليلاً، وربما كثيراً، وكأنها مجرد تريليون دولار تم إهداره. وفي غضون ذلك، يُترك الأفغان وهم في حالة سقوط حر (أو انهيار تلقائي).
إنها ليست مجرد هزيمة ملحمية للولايات المتحدة. فقد يكون سقوط كابول بمثابة نهاية لعصر القوة العالمية للولايات المتحدة. لقد أطلقت الولايات المتحدة في الأربعينيات من القرن الماضي مبادرة “الإنقاذ العظيم” للمساعدة في تحرير أوروبا الغربية من آلة الحرب النازية القوية. ثم استخدمت قوتها البرية والبحرية والجوية الشاسعة لهزيمة الإمبراطورية اليابانية الهائلة في شرق آسيا. ولكن بعد مرور ثمانين عاماً على ذلك، تشارك الولايات المتحدة فيما قد يسميه المؤرخون يوماً ما “الانسحاب الكبير” هروباً من ميليشيا متهالكة ليس لديها قوة جوية أو مدرعات أو مدفعية كبيرة، وذلك في واحدة من أفقر دول العالم.
لقد أصبح الآن جزءاً من نمط أمريكي مثير للأعصاب، يعود تاريخه إلى السبعينيات من القرن الماضي (سقوط سايغون، فيتنام، عام 1975). ويوم الأحد الماضي، أثارت المنشورات المدعمة بالصور على مواقع التواصل الاجتماعي ذكريات مؤلمة. فأحدهم ينشر صورة لحشد يائس (من الفيتناميين الجنوبيين) وهم يتسلقون سلماً يؤدي إلى سطح مبنى بالقرب من سفارة الولايات المتحدة في سايغون علهم يستطيعون ركوب واحدة من آخر طائرات الهليكوبتر الأمريكية في عام 1975، خلال إدارة فورد. وعرض آخر صورة لطائرة هليكوبتر من طراز شينوك وهي تحلق فوق السفارة الأمريكية في كابول يوم الأحد. “من الواضح أن هذه ليست سايغون”، هكذا جادل وزير الخارجية، أنتوني بلينكين، يوم الأحد، في برنامج “هذا الأسبوع” على قناة إيه بي سي. لكن هذه الصفحة لم تُطوى تماماً. فهناك حلقات أخرى قادمة.
في عام 1984، سحبت إدارة ريغان قوات حفظ السلام التابعة لمشاة البحرية الأمريكية (المارينز) من بيروت بعد أن تسبب انتحاري من خلية ناشئة لما أصبح بعد ذلك “حزب الله” في قتل أكثر من مائتين وأربعين فرداً عسكرياً – وهي أكبر خسارة لمشاة البحرية في حادثة واحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2011، انسحبت الولايات المتحدة من العراق، مما فتح الطريق أمام ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). إن الحسابات الخاطئة المتكررة تطعن في عملية صنع السياسة الأساسية في واشنطن وكذلك الإستراتيجية العسكرية الأمريكية وقدرات الاستخبارات. لماذا لم يتم توقع هذه الكارثة التي تلوح في الأفق أو أي من الكوارث السابقة؟ أو يتم التخطيط لحلول ومخارج لها بشكل أفضل؟ أو يتم الحيلولة دون أن تقع البلاد في يد عدو سابق؟ إنها حقاً لنهاية مشينة.
ومهما كانت الحقيقة التاريخية التي تعود إلى عقود من الآن، فإن العالم اليوم سينظر إلى الولايات المتحدة بشكل كبير على أنها خسرت ما أطلق عليه جورج دبليو بوش “الحرب على الإرهاب” – على الرغم من حشد حلف الناتو في أول انتشار له خارج أوروبا أو أمريكا الشمالية، بالإضافة إلى ستة وثلاثين دولة لتقديم أنواع مختلفة من المساعدات العسكرية، وثلاث وعشرين دولة تستضيف القوات الأمريكية المنتشرة أثناء العمليات الهجومية. لقد ثبت الآن أن الأدوات والتكتيكات الأمريكية الهائلة غير مجهزة جيداً لمواجهة إرادة وصمود طالبان وداعميهم الباكستانيين.
وعلى المدى الطويل، لم تتمكن صواريخها وطائراتها الحربية من هزيمة حركة قوامها ستين ألف مقاتل أساسي في بلد بحجم تكساس.
وهناك العديد من التداعيات التي ستستمر لفترة طويلة بعد الانسحاب الأمريكي:
أولاً، انتصرت الجهادية في معركة رئيسية ضد الديمقراطية. لقد اعتقد الغرب أن دروعه وحديده الفولاذي، مدعومين بالتدفق السخي للمساعدات، يمكن أن يهزم أيديولوجية متشددة تحظى بأتباع محليين أقوياء. ومن المرجح أن تقوم طالبان، مرة أخرى، بإقرار قوانين الشريعة في حكم البلاد. ومن شبه المؤكد أن أفغانستان ستصبح مرة أخرى ملاذاً للمقاتلين الذين يشاطرونهم نفس الفكر، سواء كانوا أعضاء في القاعدة أو غيرهم ممن يبحثون عن ملاذ أو سند لهم. إن مجرد إمكانية حدوث ذلك لأمر كئيب، حيث يستعد الأمريكيون للاحتفال بالذكرى السنوية العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الشهر المقبل. فمنذ عام 2001، قامت القاعدة وتنظيم الدولة (داعش) وغيرهما من المتطرفين الجهاديين – قاموا بإقامة فروع لهم في جميع القارات الست المأهولة. وفي الشهر الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على فرع لـ تنظيم الدولة (داعش) في مناطق بعيدة مثل موزمبيق، المستعمرة البرتغالية السابقة في جنوب إفريقيا، حيث يشكل المسيحيون هناك ما يقرب من 60 في المائة من السكان.
ثانياً، أثبتت كل من أفغانستان والعراق أن الولايات المتحدة لا تستطيع بناء دول أو إنشاء جيوش من الصفر، خاصة في البلدان التي لديها طبقة متوسطة محدودة ومعدلات تعليم منخفضة، في غضون عقد أو عقدين من الزمان. ولكن الأمر يستغرق الأمر أجيالاً. وليس هناك كثير من الناس لديهم المعرفة أو الخبرة للانتقال إلى طرق جديدة تماماً للحياة، بصرف النظر عما يريدونه من حيث المبدأ. حيث تحبط الانقسامات العرقية والطائفية محاولات إصلاح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلها في نفس الوقت. لقد أنفقت الولايات المتحدة ثلاثة وثمانين مليار دولار على تدريب وتسليح قوة أفغانية قوامها حوالي ثلاثمائة ألف عنصر – أي أكثر من أربعة أضعاف حجم ميليشيا طالبان. قال مارك ميلي، الجنرال في بالجيش الأمريكي آنذاك، وهو الآن الرئيس العشرين لهيئة الأركان المشتركة ، للصحفيين عام 2013: “لقد ظل هذا الجيش وقوة الشرطة هذه فعالين جداً جداً في القتال ضد المتمردين كل يوم”. ومع ذلك، فبحلول شهر مارس، عندما كنت في كابول آخر مرة، كانت طالبان قد سيطرت على نصف البلاد. وما بين مايو ومنتصف أغسطس، كانت قد استولت على النصف الآخر – حيث كان معظم ذلك خلال الأسبوع الماضي فقط. وفي الشهر الماضي، قال بايدن إنه يثق في “قدرة الجيش الأفغاني، الذي هو أفضل تدريباً وأفضل تجهيزاً وأكثر كفاءة فيما يتعلق بشن الحرب”. ولكن في نهاية الأمر، دخلت طالبان في الأساس إلى كابول – والقصر الرئاسي – يوم الأحد الماضي.
ثالثاً، ضعفت مكانة أمريكا في الخارج بشكل كبير، وتجلى ذلك في إنزال السفارة الأمريكية للعلم الأمريكي للمرة الأخيرة يوم الأحد. وشوهد الدخان يتصاعد من مبنى السفارة – والذي كلف ما يقرب من ثمانمائة مليون دولار لتوسعته قبل خمس سنوات فقط – حيث احترقت المعدات أثناء الاندفاع للخروج. وستواجه واشنطن صعوبة في حشد حلفائها للعمل بشكل متضافر مرة أخرى – سواء من أجل هذا النوع من التحالف الواسع والموحد، وهو من أكبر التحالفات في تاريخ العالم، والذي تشكّل في أفغانستان بعد 11 سبتمبر، أو من كان من نوع تحالف التجمع الهزيل “تحالف الراغبين” في الحرب على العراق. قد لا تزال الولايات المتحدة القوة المهيمنة في الغرب، ولكن ذلك هو بشكل افتراضي إلى حد كبير. حيث لا توجد الكثير من القوى أو القادة الذين أن يقدموا البدائل. إنه من الصعب أن ندرك كيف يمكن أن تنقذ الولايات المتحدة سمعتها أو موقعها في أي وقت قريب.
إن الانسحاب الكبير لأمريكا من أفغانستان مهين على الأقل بقدر ما كان انسحاب الاتحاد السوفيتي من هذا البلد في عام 1989، وهو الحدث الذي ساهم في نهاية إمبراطوريته وانتهاء الحكم الشيوعي. لقد ظلت الولايات المتحدة في أفغانستان ضعف المدة التي قضاها الاتحاد السوفيتي هناك وأنفقت من الأموال أكثر من السوفييت بكثير. حيث تشير التقديرات إلى أن الاتحاد السوفيتي أنفق حوالي خمسين مليار دولار خلال السنوات السبع الأولى من سنواته العشر التي قضاها في احتلال هذا البلد الجبلي. نعم، لقد كانت الولايات المتحدة الراعي لولادة مجتمع مدني ثري، وتعليم الفتيات، وإنشاء وسائل إعلام مستقلة. وقامت بتسهيل انتخابات ديمقراطية هناك أكثر من مرة، حيث شهدت تداول السلطة. وكما ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن 37 في المائة من الفتيات الأفغانيات تستطعن القراءة الآن.
واستضافت قناة تولو، القناة التلفزيونية الأكثر شعبية في أفغانستان، ثمانية عشر موسماً من “أفغان ستار”، وهي مسابقة غنائية تشبه إلى حد كبير “أمريكان أيدول”. وأصبحت زهرة إلهام، من أقلية الهزارة الأفغانية، وهي فتاة في العشرينات من العمر، أول امرأة تفوز بالمسابقة في عام 2019. لكن أعداداً لا حصر لها من الأفغان الذين شجعتهم الولايات المتحدة يبحثون بشدة عن طرق للخروج من البلاد مع زحف حركة طالبان. لقد استعادت النساء البرقع الأزرق مرة أخرى. ولن تختلف الصور القاسية للأمريكيين وهم على متن طائرات الهليكوبتر عن مسيرة القوات السوفيتية عبر جسر الصداقة من أفغانستان إلى الاتحاد السوفيتي آنذاك في 15 فبراير 1989. فقد انسحبت كلتا القوتين العظميين كخاسرين، تجران أذيال الهزيمة، تاركين وراءهم الفوضى.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فالتكاليف لا تنتهي بانسحابها من أفغانستان أو العراق. حيث يمكن أن تكلفها تريليوني دولار أخرى فقط لدفع تكاليف الرعاية الصحية وإعاقة قدامى المحاربين من تلك الحروب. وقد لا تنتهي هذه التكاليف حتى عام 2048. وستكون حرب أفغانستان، أطول حرب تخوضها أمريكا، ستكون أطول بكثير مما كان يتوقعه أي شخص قبل عقدين من الزمن – أو حتى عند انتهاء هذه الحرب بالفعل. وفي المجمل، فقد لقي سبعة وأربعون ألف مدني، وأكثر من 2400 من الأفراد العسكريين الأمريكيين، وما يقرب من أربعة آلاف من المتعاقدين الأمريكيين، مصرعهم جرّاء هذه الحرب، وفقاً لـ “مشروع تكاليف الحرب” الذي قامت به جامعة براون..
لقد ذهبت لأول مرة إلى أفغانستان في عام 1999، أثناء حكم طالبان الأول. وقدت سيارتي عبر ممر خيبر المذهل من باكستان، مروراً بالمقاطعات المحصنة لأباطرة المخدرات على طول الحدود، على الطرق الممزقة والمدمرة للمحاور المؤدية إلى كابول. لا يمكن أن تُمحى صور حكم طالبان القمعي من الذاكرة – أطفال صغار يعملون في شوارع المدن الأفغانية لدعم أمهاتهم الأرامل اللاتي لم يكن يُسمح لهن بالخروج للأماكن العامة، ونقاط التفتيش التي تعج بأشرطة الفيديو وأشرطة الصوت المصادرة.
ثم عدت إلى هناك مع وزير الخارجية آنذاك كولن باول في رحلته الأولى لأفغانستان بعد سقوط طالبان. كان هناك أمل في ذلك الوقت بإنجاز شيء مختلف، حتى مع أن احتمالية حدوث ذلك كانت تبدو بعيدة المنال في كثير من الأحيان، وتلوثت الفكرة من قِبل الحكام الجدد الفاسدين في البلاد.
ثم عدت إلى هناك عدة مرات منذ ذلك الحين، بما في ذلك في مارس الماضي مع الجنرال فرانكلين كينيث ماكنزي الابن، رئيس القيادة المركزية، الذي يشرف الآن على آخر العمليات العسكرية الأمريكية هناك.
ويوم الأحد، مع إنهاء أمريكا وجودها في أفغانستان والدخول في سباق مع الزمن للخروج منها، تساءلت: هل ذهب كل شيء هباء؟ ما هي العواقب الأخرى التي ستواجهها أمريكا جرّاء حملتها الفاشلة في أفغانستان بعد عقود من الآن؟ ولكننا لا نكاد نعرف إجابة على مثل هذه الأسئلة.
المصدر: المعهد المصري للدراسات