رواتبُ ومعاشات المسؤولين في الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة
بقلم محمد خير موسى
من القضايا المهمّة التي نحتاج تسليط الضّوء عليها مسألةُ الرّواتب والمعاشات التي يتقاضاها المسؤولون في الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة، والمعايير التي تحكم ما يتقاضونه مقابل تفرّغهم والجهة المخوّلة بتقدير هذه الرّواتب، وتكمن حساسيّة الأمر في هذه المسألة في أنّ هذه الأموال تندرج تحت وصف “المال العامّ” ممّا يوجب الحذر والتّدقيق.
-
تفرُّغ المسؤول للعمل في الجماعة والجمعيّة والمؤسّسة العامّة
قد يكون الشّخص الذي يتولّى المسؤوليّة في المؤسّسة أو الجماعة مقتدرًا ذا مال، أو له عملٌ ومهنة وحرفة يكسب من خلالها ما يكفيه، لكنّ استمراره في عمله ومهنته سيعود بالتّقصير على قيامه بمسؤوليّاته تجاه الجماعة أو الجمعيّة التي تولّى مسؤوليّتها.
هنا لا بدّ من أن يتفرّغ المسؤول للعمل الجديد حتّى يضطلع بحمل الأمانة وأدائها حقّ الأداء.
وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى تفرّغ المسؤول القائم على العمل العام لأداء مهامه، وفرضت له راتبًا من أموال هذه الجماعة أو الجمعيّة أو المؤسّسة الذي هو “مال عام”.
ونحن هنا نتحدّث عن المسؤول في مواقعه المختلفة لا سيما المسؤول الأوّل المتمثّل في رئيس الجماعة أو الجمعيّة ومن معه في مجلس الإدارة ممّن يفرض عملهم وموقعهم عليهم التفرّغ للجماعة والمؤسّسة.
روى ابن سعد في “الطبقات الكبرى” عن عطاء بن السّائب قال: “لمّا استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السّوق وعلى رقبته أثوابٌ يتَّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما؛ فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السّوق، قالا: تصنع ماذا وقد ولّيت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعمُ عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرضَ لك شيئًا فانطلقَ معهما، ففرضوا له”.
كما روى البخاري في صحيحه “أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، قالَ: لقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أنَّ حِرْفَتي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عن مَؤُونَةِ أهْلِي، وشُغِلْتُ بأَمْرِ المُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أبِي بَكْرٍ مِن هذا المَالِ، ويَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ”.
فليسَ هناك أيّ حرجٍ في أن يكون للمسؤول راتب من مال الجماعة أو الجمعيّة الذي هو “مال عام” من حيثُ الأصل والمبدأ، وهذا أمرٌ يفرضه المنطق العقليّ لاستمرار العمل والقيام بالمسؤوليّة وأداء المهام الموكولة على أتمّ وجه، كما أنّ هذا التفرّغ يتيح قوّة في المساءلة والمحاسبة على الأداء والإنجاز يختلف عمّا لو كان المرء متبرّعًا بعمله محسنًا فيه.
-
الجهة التي تحدّد مقدار راتب المسؤول في الجماعة أو الجمعيّة
تكمن الإشكاليّة في تحديد الرّاتب والمعاش الذي ينبغي أن يتقاضاه المسؤول في الجماعة والمؤسسة العامّة في الجهة التي تحدّد هذا الرّاتب والمعاش وفي المقدار الذي ينبغي فرضه وتحديده.
وهنا لا بدّ من التّأكيد أنّ المسؤول أيًّا كان موقع مسؤوليّته ليس هو الذي يقوم بتحديد مقدار راتبه الشّهري، بل لا بدّ أن تكون هناك جهة اختصاص هي التي تضع المعايير وتحدّد المقادير في الرّواتب والمعاشات بما فيها راتب المسؤول الأوّل ومن معه في مجلس قيادة الجماعة وإدارة الجمعيّة أو المؤسّسة.
ففي عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه كان أمين بيت المال أبا عبيدة عامر بن الجرّاح رضي الله عنه، وكان متخصّصًا فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “لِكلِّ أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ أمتي أبو عبيدَة بنُ الجرَّاحِ”، فهو بموقع وزير الماليّة، وهو مع المجلس الاستشاريّ الذي كان يضمّ عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهما؛ هم مَن كانوا يحدّدون مقدار الرّاتب والمعاش الشّهريّ للخليفة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
-
إذا كان المسؤول غنيًّا؛ فهل يحقّ له أخذ راتب من أموال الجماعة أو الجمعيّة؟
أخذُ المسؤول راتبًا مقابل تفرّغه للعمل لا علاقة له بغناه أو فقره، بل له أن يأخذ راتبًا ومعاشًا من مال الجماعة أو الجمعيّة أو المؤسّسة العامة مقابل تفرّغه للقيام بمسؤوليّاته ولو كان غنيًّا موسرًا.
أخرج البخاريّ في صحيحه عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه “أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ السَّعْدِيِّ أخْبَرَهُ، أنَّه قَدِمَ علَى عُمَرَ في خِلَافَتِهِ، فَقالَ له عُمَرُ: ألَمْ أُحَدَّثْ أنَّكَ تَلِي مِن أعْمَالِ النَّاسِ أعْمَالًا، فَإِذَا أُعْطِيتَ العُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلتُ: بَلَى، فَقالَ عُمَرُ: فَما تُرِيدُ إلى ذلكَ؟ قُلتُ: إنَّ لي أفْرَاسًا وأَعْبُدًا، وأَنَا بخَيْرٍ، وأُرِيدُ أنْ تَكُونَ عُمَالَتي صَدَقَةً علَى المُسْلِمِينَ، قالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ؛ فإنِّي كُنْتُ أرَدْتُ الذي أرَدْتَ، فَكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فأقُولُ: أعْطِهِ أفْقَرَ إلَيْهِ مِنِّي، حتَّى أعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلتُ: أعْطِهِ أفْقَرَ إلَيْهِ مِنِّي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وتَصَدَّقْ به، فَما جَاءَكَ مِن هذا المَالِ وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ولَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وإلَّا فلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ”.
فهذا الحديث صريحٌ في أنّ الغنيّ الموسر القائم بعملٍ من أعمال المسلمين يستحقّ راتبًا مقابل عمله، وكما ذكرتُ آنفًا إنّ أخذ الرّاتب يكون أدعى في المحاسبة على الإنجاز والعمل، وقد نقل ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” في شرحه لهذا الحديث سبب القول بأنّ الأفضل هو أخذ المسؤول راتبًا مقابل عمله ولو كان موسرًا فقال:
“والوجه في تعليل الأفضليّة أنّ الآخذ أعون في العمل وألزم للنّصيحة من التّارك، لأنّه إن لم يأخذ كان عند نفسِه متطوّعًا بالعمل؛ فقد لا يجدّ جدّه من أخذ ركونًا إلى أنّه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ فإنّه يكون مستشعرًا بأنّ العمل واجبٌ عليه فيجدّ جدّه فيه”.
-
معيار تحديد راتب المسؤول في الجماعة أو الجمعيّة أو المؤسّسة
وأمّا المقدار الذي يتمّ تحديده للمسؤول في الجماعة أو الجمعيّة أو المؤسّسة العامّة فمعيارُه الرئيسُ هو أن يأخذ ما يسدّ حاجته وحاجة أسرته ومن يعولهم من غير تقتيرٍ ولا إسراف.
قال ابن جماعة في “تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام”: “للسّلطان أن يأخذ من بيت المال كفايتَه اللّائقة بحاله وأهله بالمعروف؛ من غير إسرافٍ ولا تقتير، قال عمر رضي الله عنه: إنّي أنزلتُ نفسي من مال الله تعالى بمنزلة وليّ اليتيم، إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف”.
وذكر ابن الأثير في “الكامل في التّاريخ” أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال للمسلمين: “إنّي كنت امرًأ تاجرًا يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنّه يحلّ لي في هذا المال؟ وعلي رضي الله تعالى عنه ساكت، فأكثرَ القوم، فقال: ما تقول يا عليّ؟ قال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف ليس لك غيره، فقال القوم: القول ما قاله علي”.
وذكر ابن حجر العسقلانيّ في “فتح الباري”: “وأخرج الكرابيسيّ بسندٍ صحيح عن الأحنف قال: كنّا بباب عمر فذكر قصّةً وفيها: فقال عمر: أنا أخبركم بما أستحلّ؛ ما أحجّ عليه وأعتمر، وحلّتَي الشّتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجلٍ من قريشٍ ليسَ بأعلاهم ولا أسفلهم” وفي رواية: “ثمّ أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم”.
وهذا المعيار يختلف باختلاف البيئة والواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ من زمانٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر في الزّمان ذاته، فلذلك لا بدّ من مراعاة هذا المعيار بحيث لا يكون هناك إسرافٌ وبالمقابل ألّا يكون هناك تقتير يمنع المسؤول من قيامه بمهامه فينشغل بالتّفكير بمصدرٍ آخر للرّزق يحقّق منه الكفاية فيقصّرُ في عمله.
جاء في “الرّياض النّضرة في مناقب العشرة” لمحبّ الدّين الطّبري:
“كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السّنة، وشاة في كلّ يوم يؤخذ منه بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان ألقى ماله في مال الله حين استخلف ــ أي وضعَ كلّ أمواله الخاصّة في بيت مال المسلمين ــ قال: فخرج إلى البقيع فتصافق ــ أي تبايع وعقد صفقة تجاريّة ــ قال: فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس؛ فقال: ما شأنكن؟ قلن: نريد أمير المؤمنين وقال بعضهن: نريد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بيننا؛ فانطلق يطلبه فوجده في السوق، قال: فأخذ بيده فقال: تعال ههنا، فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي قال: إنّا نزيدك؛ قال أبو بكر: ثلاثمائةِ دينار والشّاة كلّها، قال: أما هذا فلا، فجاء عليّ وهما على حالهما تلك، فلمّا سمع ما سألَه قال: أكملها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: فقد فعلنا، فقال أبو بكر: أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بها بقيّة المهاجرين أم لا؟ فانطلق أبو بكر فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: أيّها الناس؛ إنّ رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ منّي بطنها ورأسها وأكارعها، وإنّ عمر وعليًّا كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشّاة؛ أفرضيتم؟ فقال المهاجرون: اللَّهم نعم قد رضينا”.
وهنا لا بدّ من بيان أنّ المسؤول في الجماعة أو الجمعيّة إذا أخذ من المال العام ما يعدّ فرقًا فاحشًا عن احتياج البيئة التي يعيش ويعمل فيها وعرفِها العام في الإنفاق يكون قد ارتكب الحرام، وهذا المال الفاحش الزّائد عن حدّ الاعتدال يدخل في مفهوم “الغلول” المحرّم.
أخرج أبو داود في سننه وأحمد في مسنده بسند صحيح عن المستورد بن شدّاد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “مَن وَلِيَ لنا عَمَلًا وليس له مَنزِلٌ فلْيَتَّخِذْ مَنزِلًا، أوْ ليستْ له زَوجةٌ فلْيَتزَوَّجْ، أوْ ليس له خادِمٌ فلْيَتَّخِذْ خادِمًا، أوْ ليس له دابَّةٌ فلْيَتَّخِذْ دابَّةً، ومَن أصابَ شيئًا سِوى ذلك فهو غالٌّ”.
وبعد الحديث عن رواتب ومعاشات المسؤولين في الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة؛ فماذا عن رواتب ومعاشات الموظّفين والعاملين في هذه الكيانات؟ وهذا ما سنجيبُ عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.
المصدر: سوريا TV