بقلم أ. أسامة شحادة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
فإن الكتابة عن رموز الإصلاح السلفيين كان حلماً طالما تمنيت تحقيقه، وقد طلبت من كثير من الإخوة الشروع فيه، حتى صدمني أحد الأحبة عندما قال لي: لن يكتبه سواك، فابدأ به ولا تتأخر، وفعلاً كانت كلماته سبباً لأنتقل من أحلام اليقظة إلى أرض الواقع.
فبدأت أكتب فصول هذا الكتاب كمقالات شهرية لموقع مجلة الراصد نت، وأظن أن ذلك كان بتوفيق الله وعاملاً مهماً في إنجاز الكتاب، إذ الالتزام بمقال شهري كان سيفاً ينخزني للإنجاز قبل صدور العدد الجديد، فالحمد لله على توفيقه وإعانته.
كنتُ من سنوات طويلة دائم الإهتمام بجمع تراجم العلماء والدعاة والتجارب الدعوية والجماعات والجمعيات السلفية، فتكشفت لى حقيقة الجهل الكبير والخطير بتاريخ الدعوة السلفية المعاصرة من جهة، ومقدار التقصير والعقوق بحق رموزنا وعلمائنا وكبرائنا، فإننا لم ندون تراجمهم ولم نحفظ تجاربهم وخبراتهم، وكانت غالب تصوراتنا عن علمائنا محصورة في المحور العلمي والبحت تأليفاً وشرحاً غالباً، أما بقية الجوانب في حياته وشخصيته ودوره، فهذه لا نلقي لها بالاً مع الأسف.
ليس من غرضي في هذ الكتاب الاستقصاء والحصر لكل الرموز الإصلاحية السلفية، فهذا باب يطول، ورموزنا الإصلاحيون بحمد الله من الكثرة بمكان، وإنما أخذت نماذج من بعض البلاد بحسب ما رأيت أنه مناسب للتعريف بالإصلاح السلفي المُغيب، وبما توفر عندي من مراجع كافية عن شخصية من الشخصيات، وكان شرطي أن أكتب عمّن عاش في 100 سنة الأخيرة، وذلك حتى يكون العهد قريبا والظروف متقاربة، وتصبح الاستفادة من دراسة تجربته وسيرته أكثر جدوى.
واجهتني مشكلة تضييق بعض الإخوة لمفهوم السلفية وحصره ببعض القضايا الجزئية أو الدقيقة، ولذلك اعترضوا على إيراد بعض الشخصيات، والذي أعتقده أن السلفية منهج يسع الكثير من الشخصيات العلمية الساعية لترسيخ منهج الكتاب والسنة وفهم السلف، وتحرص على العلم والسنة وتنبذ الشرك والبدعة والخرافة، ولكن قد يقع منها نوع من القصور أو التقصير أو المخالفة إما بسبب ظروف الزمان والمكان، فلم يكن في إمكانها معرفة الصواب في ذلك الباب، أو يكون بسبب حداثة التحول للمنهج السلفي ووجود شيء من رواسب المناهج الأخرى، أو قد يكون بسبب انحراف حقيقي في جانب معين، وهذا وقع من قبل لعدد من الأعلام والفضلاء كابن حزم وابن الجوزي وابن عقيل، ومع ذلك لم يزل العلماء يجلّونهم ويقدرونهم، ويتجنبون أخطاءهم، وقد نصّ ابن تيمية على ذلك فقال:
“ومما ينبغي -أيضاً- أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محموداً فيما رده من الباطل، وما قاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده؛ بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل؛ فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلاً بباطل أخف منه.
وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ، والله @ يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك” (مجموع الفتاوى ج 3، ص 348).
وعليه فإني أعتقد أن تشدد البعض في نفي سلفية بعض الأعلام لأخطاء محدودة ليست من صلب منهجهم ودعوتهم، ولم يتابعوا عليها من قبل المتأثرين بمدرستهم، منهج غير سديد ولم أتقيد به.
وقد ظهرت لي من خلال السنتين اللتين قضيتهما مع هذه الشخصيات ملاحظتان مهمتان، هما:
1- من الخطأ البالغ اعتبار تاريخ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين هو بداية العمل الإسلامي الدعوي والحركي والسياسي في هذا العصر، بل إن هناك تجارب عديدة سبقت تجربة الإخوان، فمثلاً مدرسة الدعوة والإرشاد التي أسسها العلامة رشيد رضا سنة 1913م، تعتبر نواة تأسيس معهد دعوي حركي سياسي متكامل وعالمي الطابع، وكذلك فإن تجربة جمعية العلماء المسلمين بالجزائر وإرهاصاتها متقدمة على نشأة جماعة الإخوان، وأيضاً فإن جهود الشيخ عبد الله القرعاوي في جنوب السعودية لا تقل عن تجربة جماعة الإخوان المسلمين.
لكن جماعة الإخوان تميزت بوضوح التنظيم في بنيتها خاصة في السنوات الأخيرة من حياة الأستاذ حسن البنا، ولذلك تمكنت من الاستمرار طيلة ما يزيد عن 80 سنة، برغم التحولات والتبدلات التي شهدت مسيرتها.
2- أن في تراث علمائنا ورموزنا نظرية دعوية حركية سياسية شبه كاملة، لكنها تحتاج إلى من يعمل على بلورتها وجمع شتاتها وإعادة عرضها بشكل متكامل وجذاب.
فهم قد مارسوا التعليم الديني والدنيوي، وحاربوا الأمية وحثوا على تعليم حتى الفتيات، وأسسوا المكتبات العامة، وفتحوا المدارس، وأرسلوا البعثات للدراسات العليا، فضلاً عن حركة التأليف والتحقيق الضخمة التي تأسست عليها النهضة العلمية المعاصرة، ولعلمائنا تأصيل راق وتفصيل دقيق لدور العلم ومركزيته في تقدم الأمة.
ولهم جهود ضخمة في محاربة الخرافة والبدعة والشرك، ونشر السنة والتوحيد والحق، بين كافة طبقات المجتمع ومع مختلف المذاهب والأفكار، مع تقرير لمناهج الدعوة والتبليغ والإقناع بأفضل الطرق وأسلمها في فتح العقول والقلوب للحق.
أما الشأن العام فهم أول من تصدى للشأن العام بالحق القائم على العلم والحكمة، فقد تصدوا للاستبداد السياسي في الدولة العثمانية، ثم كانوا هم من أسس مقاومة الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين، وأرسوا قواعد الوطنية الحقة، والقومية العربية السليمة، التي تنبع من الإسلام نفسه، قبل أن تفد الأيدلوجيات العلمانية وتستولي على شعار الوطنية والقومية والتقدم!
وقد مارسوا العمل السياسي بكافة أشكاله وصوره ضمن الضوابط الشرعية، فشاركوا في الانتخابات لمجلس المبعوثان العثماني، وما تلاه من مجالس قطرية في سوريا والعراق ومصر والمغرب وغيرها، وأسسوا الأحزاب السياسية وقادوها، وفاوضوا المحتلين للبلاد، وشاركوا في اجتماعات عصبة الأمم وبعض البرلمانات الأوروبية، وشاركوا في وضع الدساتير، وهكذا.
أما جانب الإعلام فقد كان علماؤنا يعرفون للإعلام أهميته ودوره وقدره، فاهتموا بتأسيس الصحف والمجلات، والكتابة فيهما ونشرها بين الناس، ولا تزال هناك كنوز هائلة مخفية بين طي الصحف والمجلات التي صدرت قبل بضعة عقود.
وهاتان الملاحظتان، تقوداني للتوصية بضرورة إيلاء حقبة مطلع القرن العشرين وما قبله بمزيد من الدراسات الشاملة وليست الجزئية، إذ نحتاج لفحص شبكة العلاقات الوثيقة التي قامت بين المصلحين والعلماء في ذلك العصر، والقضايا الكبرى التي شغلتهم، وكيف عالجوها، وما هي الخلاصات والنتائج التي يجب أن نستفيد منها حتى نواصل المسيرة ونراكم على تجربتهم، ونترك البداية من الصفر – كما يفعل الكثير منا اليوم – في كل تجربة، ولذلك لا نقطع شوطاً حقيقياً في مسارنا.
كما نحتاج لدراسات حول الوطنية والقومية وكيف تم تحويل مسارهما إلى العلمنة الليبرالية أو اليسارية، بعد أن كانت جزءا من التيار الإسلامي.
وقد حرصت في هذا الكتاب على أن أقدم دراسة للتجربة ونقاط الاستفادة والعبر المستنبطة منها، وحاولت معالجة بعض جوانب القصور التي تعيشها الدعوة السلفية في واقعها اليوم من خلال تقديم البديل من حياة هؤلاء الأعلام والرموز، وقد اتبعت في ذلك المزج بين المنهج التاريخي والمنهج التحليلي، وقد صغت ذلك بأسلوب أقرب للقصة حتى يكون سهل القراءة للشباب خاصة لتعمّ به الفائدة، ووضعت في نهاية كل شخصية أبرز المراجع التي اعتمدت عليها، ولم أتقيد بالعزو للمصدر عند كل جزئية، وقد عاتبني بعض الأحبة في ذلك لكنني رأيته منهجا مطروقا من قبل فسلكته.
وإني آمل أن تتاح الفرصة لي مستقبلاً للكتابة عن عدد آخر من رموز الإصلاح السلفي من بلاد وأقاليم قصرت مصادري وطاقتي عن الوصول إليهم، وأتمنى من إخواني ومشايخي الاهتمام بهذا الباب، فيتم الترجمة ودراسة تجارب رموزنا ومؤسساتهم، وحتى حث طلبة الدراسات العليا على خوض هذا الباب، لكن مع استحضار روح البحث عن مواطن القدوة والخبرة في دورهما الإصلاحي الشامل وإبرازها لتتكامل الجهود ونستفيد من تلك التجارب الرائدة.
ولا يسعني في الختام إلا أن أشكر الإخوة الأستاذ إياد القيسي، والأستاذ إسحاق يحيى، على دعمهما للكتاب وتزويدي ببعض المراجع الضرورية، وكذلك الأستاذ هيثم الكسواني الذي راجع النص قبل الطبع، وأتوجه بالشكر الخاص لعائلتي التي تحملت انشغالي عنها بالقراءة والكتابة.
وأنا أعدّ هذا الكتاب ثمرة من ثمار شيخي الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه الله ورعاه- الذي تدرجتُ في مدرسته وتفتحت عيناي بواسطة والدي الكريم – حفظه المولى وحماه- على الدعوة السلفية التي رعاها في الكويت وكنت أحد المنتفعين منها، وقد كان للمربي الفاضل والداعية العامل والشيخ الكريم عيسى مال الله – حفظه الله وأكرمه- الدور الأبرز في تفهم شمولية وسبق الدعوة السلفية لكل أوجه الخير، وأن الدعوة السلفية لا تنحصر بمجال ولا تقتصر على باب دون باب.
وقد ألحقت بالكتاب ترجمة موجزة لأستاذي الشيخ أبو الأمين محمود عبد الرؤوف القاسم – رحمه الله وأعلى مراتبه- فقد لقيته وأنا في المرحلة الثانوية، ففتح عقلي على سعة العلم، وأهمية الخبرات والتجارب ودراسة التاريخ والاستفادة من دروسه.
فيا أيها القارئ الكريم، آمل منك أن تركز على مواطن النفع والفائدة من هذا الكتاب، وما رأيت فيه من تقصير أو خطأ فتجاوز عنه، مع تنبيهي إن أمكن، وذلك حتى نتقدم خطوة أو خطوات للأمام في طريق “السعي نحو استئناف حياة إسلامية وإنشاء مجتمع إسلامي وتطبيق حكم الله في الأرض”، كما كان يقول العلامة الألباني.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)