رمضان والمعرض القرآني
بقلم أنس بن سامي السيد
لا ينفك شعور عظمة هذا الدين عن قلب المسلم، وكلما ازداد منه قربا بارتباطه بِوحيَيه وسبيلهما؛ علا وازداد، وكان أوفر حظاً وأهنأ بالاً وأكثر اعتزازا به. وما تزال نصوصه الآسرة معروضة لمتأمّلها، ملقية بظلالها عليه، وواجب المسلم كلما عرض له عارض -ما كان- أن يلجأ صادقا لمولاه ثم يقلّب كتابه الكريم، وكريم الكريم لا يرد سائلا.
ومن اعتزاز المسلم بدينه؛ التزامه بأحكامه في كل أيامه، وتعظُم ضرورة الاستمساك به في أوقات رِقَّة الديانة وتسلسل الفتن التي ما تفتأ محاولة تسييل صَلْبِه؛ فضلا على أن تكون في أيامها مسائل فطرية كالسّتر والاحتشام والفضائل بعمومها، وعلاقة الرجل بالمرأة في غير الإطار الشرعي ودون مقتضٍ؛ قابلة للنقاش والأخذ والرد، إن لم تتعداه للأزّ على الضد؛ رغم أنها فِطَرا وليست حِكْرا، وإنما امتاز الإسلام الوسطي بتربيتها والحث عليها. وفي هذا السياق أذكر أني كنت في فترة قريبة ماضية أقرأ أعمالا “أدبية” غربية كتبت خلال القرن 1800- 1900 وشدّني في بعضها اتفاق كتّابها مع شيء من التوجيهات والأحكام الإلهية المَحويَّة في القرآن العظيم من حينه، مع أنهم لا يَدينون بها. فسبحان من أوحى وأعطى فأجزل العطاء.
ورغم إدراك أولئك، فلا يزال ثمّة ممن ينتسب إلى هذا الدين يخجل من بعض هذه التوجيهات أو يؤولها -دفاعا أو تحسينا للصورة المشوهة؛ بحسَبه-. ولستُ هنا في سياق عرض هذه الأعمال أو مراجعتها، وإنما القصد الإذكاء والإشارة لضرورة اعتزاز المسلم بدينه -وأنه دين فطرة-؛ وإنماء قلبه بوحيَيه والارتباط بهما، ونبذ الخجل منه أو أي من أحكامه -وإن لم يدركه غيره أو يوافق هواه-؛ لاسيما في أوقات كثرة الفتن واتساع رُقعة المكر.
ومما مر -مثلا- علي أثناء القراءة فيها، أن فكرة نورانيّة كستر المرأة واحتجابها المعروضة في القرآن، أو لبس العباءة الشرعية المُعدَّة تزمُّتا وتخلفا في أزمنة ضعفٍ؛ كانت موجودة عندهم بوجهٍ، ثم تبدّل الحال بعد اجترائهم أحزاباً على النّور، فتلوثت الفطرُ والصّدور. إذ كان لباسهم ذلك الحين محتشم ولما هو قريب منها وما يدور في فلك فكرتها. ففي العمل المعنون بـ (Little Women, 1868s) تلحظ تعمد كاتبتها الروائية الأميركية (Louisa May Alcott) إظهار اللبس المحتشم بذكر بعضه تفصيلا؛ وأن منه لبس ما يستر الكفين إلى الذراعين عند الخروج للغرباء. وذلك عند تصويرها لمشهد سؤال الأم لابنتها عن القفاز؛ لتتأكد إن كانت قد لبسته أم لا، ومع أن كتابتها كانت عام 1868 إلا أن الناشر القريب وافق الروائية البعيدة بتضمينه العمل صورا محتشمة –بمقياس اليوم-؛ طويلا، فضفاضا، ساترا لأجزاء من الرأس والذراعين والكفين، بل إن من الصور المضمّنة فيها؛ ما يشبه عباءة بعض النساء في أيامنا هذه.
وكذا إدراكهم أثر عدم تأطيرعلاقة الرجل بالمرأة وخطورة فسح المجال لانعقادها، المحسوبِ تشددا وانغلاقا لدى البعض، ففي (The Luck Of Roaring Camp And Other Stories, 1870) يعرض لنا كاتب القصص الأميركي (Bret Harte) في مقدمة قِصَّته رؤيتَه عن علاقة الرجال عموما بالمرأة، وملاحظته اطراد آثارها السلبية على أطرافها، وامتداد آثارها مع الأمد كلما ازداد القرب. ولا شك أن البَذر اليسير مع إزالة الحُجُبِ الداخلية والخارجية، ومواصلة التغذية، يوجد المحل القابل. ومع أن الكاتب لم يذكر سلبيات قرب الرجل بالمرأة بشكل مباشر، إلا أننا نجده عبّر عنها بطريق غير مباشر بوصفه لأحداث سلبية كانت من آثار قرب الرجل بالمرأة دونما تأطير. ولا أدري إن كانت أوصاف التزمّت والتخلف والتشدد -وما يستجد- ستنطبق على رؤية هذا المؤلف الغربي أم لا، أو إن كانت نظرة البعض للتوجيهات الإلهية المحكِمَة للعلاقة ستظل على ما هي عليه بعدها.
بل إن ملاحظة الغربيين لخطورة آثار عدم تأطير العلاقة بين الرجل والمرأة؛ الظاهرة مبكرا، قادتهم -على ما يبدو- لفكرة لبس الخاتم لمن تزوج أو أقبل؛ ليعلم حال موت أمه، فجأة، وفي مكان لا يعرفها فيه أحد، أنه ابن مولود لأبوين مرتبطين ارتباطا صحيحا؛ حسب رؤية الكاتب الانجليزي (Charles Dickens) في وصف أحد مشاهد عمله (Oliver Twist, 1838).
وليس المسلم في حاجة ما ذُكر على سبيل المثال -ما اضطرّته إليه الحال-، وما أحراه بالاعتزاز بدينه وتوجيهاته وأحكامه الإلهية -السابقة لإدراك مثل هؤلاء الغربيين- في كل وقت، وأن يلتزم بها ويَحُثّ عليها ما أمكنه. وأن يغتنم فرصة رمضان في سائر أعمال زيادة الإيمان، فالارتباطات حُدّت، وأوقات الفراغ مُدّت؛ وقراءة القرآن من أجل هذه الأعمال. فليدخل المسلم معرض القرآن ولو لم يُجهِّز له قائمة، ولِيَقتنِ منه ما يشاء من مراجع تغنيه عن آلاف آلاف الكتب، من علمه السابق لعلمه اللاحق، والمستقبل الأبدي. ثم لينهل من معينه إصلاحا واستصلاحا واعتزازا، وأن يعرض عليه نفسه، ثم يأخذ لما أشْكَل عليه واشتبه. وأن يعزم على تربيتها وتوطينها على امتثال أوامره واجتناب زواجره؛ علم مقصدها وحكمتها أم لم يعلم. والله المرجو أن تتضاعف بركةُ تلاوة القرآن الكريم في الشهر المبارك الكريم.
(المصدر: مجلة البيان)