رمضان في الهند.. حاجة ثانية
بقلم صبغة الله الهدوي (خاص بالمنتدى)
في بلد كالهند التي تحمل في قلبها شعار الوحدة في التنوع تتميز تقاليد رمضان بمزايا عجيبة وجميلة، طقوس بملئها الحب والتعاطف والتسامح والتعايش، وعادات تكسوها جلال العبادات، وربما يطفئ بريقها تلك الأصوات الجدلية التي ترفعها بعض الأطراف المتزمتة بدعاية إن رمضان يجوع غير المسلمين ويتركهم لل”موت”، لأن المطاعم التي يمتلكها المسلمون غالبا ما تكون مغلقة في النهار لأن الزبائن تكون ضئيلة.
وللأسف قد شهدت هذه الفترة القريبة لسلسلة من تلك الدعايات الهجومية بهدف افتعال الفوضى واختلاق المشاكل بين الطوئف الهندية التي تكاد تشتعل فور وقوع شرر ما عليها، فبعيدا عن كل هذه الضجات العارية والشعارات النارية ينشر رمضان جوا روحاينا وخيريا لجميع الناس حتى نجد بعضا من الإخوة الهندوس يصومون مع المسلمين تضامنا مع إخوتهم من المسلمين ولا يخفى أن رمضان في الهند ليس إجازة رسمية وإن كان العيد كذلك، فترى المدارس والجامعات تجري على حالها لكن الأجمل أن نجد فيها طلابا هندوسيين أو آخرين من الأديان الأخرى يصومون رغم الصيف القاسي تضامنا مع المسلمين ويعبرون عن مدى فرحتهم الروحية حين يكملون رحلة الصوم ويحققون خلاله نضالا راقيا.
فحكاية رمضان في الهند حكاية ود وإخاء لا حكاية عنف وشغب، وهي أنسام من التعايش والتراحم، وانتفاضات جماعية للمواساة والتسلية، فتهب الجمعيات المختلفة للأعمال الخيرية التي تضم في كنفها كل الطوائف، فتوزع الأطعمة والفلوس وكراتين المستلزمات الرمضانية وتكرم الشيوخ والأطفال وتتضاعف هذه الأعمال الخيرية في العشر الأواخر في رمضان.
ويستقبل مسلمو الهند رمضان بكل احترام وإجلال، وقبل أسبوع أو أسبوعين من رمضان تقام في البيوت والمساجد عمليات تنظيف وترتيب مكثفة، تزين البيوت وتعلق في المساجد قناديل وفوانيس رائعة براقة، وتكون في كل مسجد موائد الإفطار التي توزع كل ما يحتاجه الصوام وذلك لتساعد الفقراء المعدمين والمسافرين الذين لا يجدون مَطعما أو مُطعما.
فصلاة التروايح في الهند عموما تقام عشرين ركعة، وبعد كل أربع ركعات تكون فيها ترويحة الصلوات والأذكار والخواطر الرمضانية وإن اختلفت في نوعها وشكلها، فتكون المساجد المشهورة في الهند مثل مسجد مكة بحيدر آباد ومسجد مالك بن دينار بكاسركود وجامع دهلي والمزارات المشهورة مثل مزار أجمير شريف لمعين الدين الجشتي المعروف بسلطان الهند ومزار أعلى حضرت والمدن التي تحمل الآثار الإسلامية مثل حيدر آباد ومالابورام ولكنو مزادنة بأبهى صورتها في أيام رمضان، وتشهد تدفقات كبيرة من قبل الزائرين والعاشقين في أضرحة الأولياء، وعلى قربها ترى المنشدين يعزفون على أوتار قلوبهم بلحن العشق والفناء، جو روحاني بمعني الكلمة، بل هذه الأيام هي التي تزود المدارس والجامعات الإسلامية بما تحتاجها للسنة الدراسية الجديدة، فتجري هنا سلسلة من الخطبات للحث على التبرع في سبيل الله وحملات سيبرانية لجمع التبرعات من الأثرياء، فلولا هذه الفيضانات الخيرية لخربت معظم المشروعات الدينية في الهند علما بأن الحكومة لا تعطي ولو فلسا لمثل هذه الخدمات والأنشطة، فتوجب على المسلمين أن يجدوا طريقهم بأنفسهم، وهكذا استمرت المسيرة الإسلامية في الهند، لأن مسلمي الهند دائما يهتمون أشد الاهتمام للحفاظ على هويتهم وشعائرهم ومقدساتهم وإن كانوا يمرون بلحظات قاسية وممرة.
وأما من جانب المأكولات الرمضانية فلها ذوق وطعم خاص، لأن الهند بلد التوابل والبهارات الفواحة، تزكم أنفك بشتى النكهات التي تدر في فمك ألوانا من الذوق والشوق، لكن يستقر برياني بتنوعاتها العجيبة والغريبة على صدارة قائمة المأكولات المفضلة على موائد رمضان، كما توجد فيها فطائر ناعمة وكباب وسموسة وتندوري وبوراتا وتشباتي وغيرها المصنوعة من القمح والأرز، بل للحساءات التي توزع بعد الإفطار مباشرا طعم خاص من باياسام وغنجي وغيرها الكثير، فإن مما يجعل رمضان عيدا وطنيا وموسما وديا ما يرى من المسلمين من إقبال كبير لتقديم هذه الأطعمة الرمضانية كهدايا لجيرانهم من الهندوس والنصارى،يشترك ويتماهى في روحانيته الجميع بغض النظر عن الانتماءات والاتجاهات، يتنفسون أملا وطمأنينة بعد أن صكت آذانهم الضجات الجافة وأشغلت ليلهم ونهارهم أنباء القلق والعنف التي تخلفها ميكروفونات السياسة الهائجة، فحين يجن الليل يسمع من البيوت والمساجد دوي القرآن الذي يمتلك الروح قبل الأذن، ويكون للصغار نصيب وفير في رمضان، بل هم الذين يضفون للصيام روح البراءة والصفاء، يتنافسون فيما بينهم عن عدد الصوم وعن السور التي حفظوها وعن صلوات التروايح التي حضروها وأكملوها، يحثهم آباءهم على الصوم تدريجيا ويدربونهم طرق الصبر والتحمل ويهدون إليهم هدايا وجوائز قيمة لو أكملوا مشوار الصوم، فالصوم أول درس في الحياة ليسلح الإنسان بآليات التحدي والنضال ضد كل عرقلة تعرقله.
أما في في مليبار تلك البقعة التي حظيت برسالة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى رمضان متألقا ومختلفا أكثر، لأنها تتميز من باقي المناطق الهندية ثقافة وحضارة وتاريخا بل للمسلمين فيها سيادة لا ترفض وحضور ملفت بل لهم الدور الكبير في تحريك عجلات المجتمع، فرمضان في مليبار يتميز باستعداداتها لرمضان لتكون كل الآذان صاغية إلى ما يصدرها القضاة من قرار، فتكون كل القلوب تواقة والعيون رامقة لتشهد الهلال وتستقبل الضيف الكريم، وفيها أطعمة خاصة لا سيما في مقاطعة كنور شمال مليبار المشهورة بتنوعاتها وابتكاراتها في الأطعمة، ولها اختيارات فريدة في تقديم الأطباق الشهية على موائد رمضان.
وأما الأحزاب السياسية الموجودة في مليبار تهتم اهتماما كبيرا بمناسبة قدوم رمضان وذلك بتوزيع كراتين الأطعمة وتجهيز السحور وإقامة موائد الإفطار لا سيما حزب رابطة المسلمين الذي كانت وما زالت تتميز من بين الأحزاب السياسية بأعمالها الخيرية وعنايتها المركزة للمرضى والمعدومين، فإن لها أجنحة خاصة لترتيب وتنسيق مثل هذه الأعمال الخيرية لتنام المرضى وذووهم قريري العين والبال، لا تشغلهم هموم السحور والإفطار، يأتي إليهم ناشطو الرابطة بما يحتاجون لهم من المعدات والمساعدات.
وباختصار، الأجواء الرمضانية في الهند تعني الهدوء والصفو بعد أن ملأتها الضوضاءات السياسية الجامدة وبعد أن لوثتها صناع العنف والكره، بل هي تعني الاستسلام للفطرة والإصغاء لبوح الروح الذي يراود الإنسان ليل نهار، هكذا تتمتع الهند بالأجواء الرمضانية الفريدة ليكون موسم الخيرات همزة وصل بين الطوائف المختلفة وإبرة خير تخيط الجروح وتلملم الأشتات، فمن هنا نقول “رمضان في الهند حاجة ثانية”.