بقلم عبد اللطيف البراهيم
إنَّ من أبرز آثار تدبر الأمة للقرآن الكريم «الأثر الأمني» الذي يَجْمعُ للحياة الإنسانية جميعَ الأَحوال الصَّالحة من الرِّزق والرخاء والأمن والاستقرار.
والمتأمل لمفهوم «الأمن» في القرآن الكريم يجدُ أنه شاملٌ لكل جوانب الحياة المادية والمعنوية، وشاملٌ أيضاً للحارثين في هذه الدنيا «أفراداً وجماعات».
وحين ننظر في مدلول لفظ «الأمن» في اللغة، نجد أنه يطلق ويراد به: ضدُّ الخوف ونقيضه، والأصلُ أن يُستَعملَ في سُكُون القلب[1]، الذي يعني الراحة النفسية والطمأنينة والاستقرار وعدم الخوف، قال ابن فارس: (الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر:التصديق)[2].
وقد عرَّفه الجرجاني في التعريفات بأنه: (عدم توقع مكروه في الزمان الآتي)[3]، وهذا فيه معنى الطمأنينة والاستقرار.
أمَّا عند المفسرين فقد قال ابن عاشور عنه: (الأمن: حالة اطمئنان النفس، وراحة البال، وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك. ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم – عليه السلام -{وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد)[4].
وقد بيَّن لنا القرآن الكريم في آيات كثيرات أن الأُمة القرآنية هي الأمة الآمنة، وهي التي تنعم بالأمن الشامل الذي هو أهم الركائز التي يقام عليها صرح الحضارات، وهو اللغة الرسمية التي يتميز بها المجتمع المتقدم والأمة الواعدة التي تدرك ما ينطوي عليه المناخ الآمن من عوامل حضارية فتية، وعناصر فاعلة تقود إلى صنع مجتمع حضاري متقدم يحظى بالاستقرار وينعم بالسكينة، ويتفيأ ظلال الأمن وحياة الرخاء والعطاء، وبهذا تصلح الدنيا، وقد صرح الماوردي بأن صلاحها وانتظام أمرها بستة أشياء، منها: (أمنٌ عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويَسْكُن فيه البريء، ويأنس به الضعيف؛ فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة) [5].
ولعل من يُدقق النظر في هذه الآيات الكريمات يُدرك احتواء القرآن الكريم على جميع الركائز التي يتحقق بها الأمن على جميع الأصعدة، والتي هي أثر من آثار تدبره والإيمان به، ومن ذلك:
تحقيق الإيمان بالله:
فالعلاقة قوية بين الأمن والإيمان، فالمجتمع إذا آمن أمِن، وإذا أمِن نما؛ فعاش أفراده مع الأمن حياة طيبة، تأمل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: ٢٨]، فالذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذين الوصفين: أولهما: الإيمان وهو كمال القوة النظرية. وثانيهما: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وهو كمال القوة العملية[6]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة؛ كان له الأمن التام والاهتداء التام)[7].
الأمن والاستقرار في البلاد:
جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125 وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ } [البقرة: 125، 126]، فاستجاب الله دعاء أبينا إبراهيم عليه السلام بقوله: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].. فكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته، وحين كان الناس من حول هذا البيت في جاهلية وخوف امتنّ الله على عرب قريش بهذا الأمن والاستقرار: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
الأمن في الشدائد والأزمات:
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} [آل عمران: 154]. جاء عَنْ أَبِي طَلْحَةَ – رَضِيَ الله عَنْهُ – قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا؛ يَسْقُطُ وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ»[8]. قال ابن القيم: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَالنُّعَاسُ فِي الْحَرْبِ وَعِنْدَ الْخَوْفِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْنِ، وَهُوَ مِنَ اللهِ..)[9].
شُكر النعم:
حيث بيَّن القرآن أن استقرار الأمن مربوط بشكر النعمة وأن زواله مقرون بكفرها كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: ٢١١].
التمكين والاستخلاف في الدنيا:
جاء بيان أثر ذلك في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥]، «فهَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالِه.. وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَصَارُوا طَالِبِينَ، فَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ»[10].
والمتتبع لحال المسلمين يجد أنه كلما كانت الأمة المسلمة مطيعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحكم التوحيد حياتها؛ كان الأمن على قدر ذلك، ولذلك كان الآمنون في الدنيا هم أهل الإيمان.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ففيه صلاح المجتمع واستقامته، فلا أمن للمجتمع إذا لم يشعر كل فرد فيه بمسؤوليته تجاه الآخرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وضوابطه المعروفة من أرقى صور المسؤولية المجتمعية، وهو مطلب مهم لمن أراد النجاة لنفسه، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، وفي حديث السفينة المشهور بيان مثالي بديع على هذا التكافل الاحتسابي بين أفراد المجتمع، والذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «مثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»[11].
الأمن الفكري:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقد فسَّر بعض السلف كمجاهد وقتادة الذكر الوارد في الآية بـ«القرآن»[12]. والمشاهد لحالة القلق الفكري والاضطراب النفسي الذي يملأ العالم المعاصر، يجد أنه راجع إلى بُعْدِ أصحابه عن مصدر الأمن ونبع الطمأنينة، وسقوطِهم في مستنقعات الأفكار وأوحال الضلالات، ويا للأسى! كم شاهدنا بعض من حملوا أنوار الوحي وتفيؤوا ظلال الرسالة ثم اضطرب حالهم حين هجروا تلك السبيل، وآلت بهم الحال إلى التبشير بفلسفات وضعيَّة ما ذاق أصحابها حلاوة الإيمان وما تضلعت أفكارهم من لذة اليقين بالعلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم التي ملأت العالم نوراً وهدى.
النجاة من أهوال يوم القيامة:
ففي هذا اليوم الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر: {مَن جَاءَ بِالْـحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89].
الأمن لأهل الجنة:
جاء بيان ذلك في قوله تعالى: {إنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ 51 فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:51-52]، «والمقام الأمين: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كل سوء وآفة ومكروه، وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص، وأهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد.. وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: {إنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]، وفي قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: ٥٥]، فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام، فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها. وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك. وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتاً»[13].
بقيةُ القول.. إن الأمة التي تسود بين أهلها راية تدبر كتاب الله، ولا ترضى بغير شرع الله بديلاً، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه؛ هي أُمة آمنة مطمئنة، حيث إن هذه العبادة الجليلة، والركائز العظيمة، ستُضفي الأمن والأمان عليها وعلى أبنائها، وإذا انحرف أبناؤها عن هذا المنهج ضاع الأمن، وهلك العباد، وسقطت البلاد، وجرت السنة.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
** ملف خاص (رمضان.. حكم وأحكام وآداب)
:: مجلة البيان العدد 325 رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.
[1] لسان العرب لابن منظور (13/21)، والقاموس المحيط للفيروز آبادي (1/1518)، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص (90).
[2] المقاييس في اللغة لابن فارس (1/133).
[3] التعريفات ص (55).
[4] التحرير والتنوير لابن عاشور (13/55).
[5] أدب الدنيا والدين للماوردي ص (111-119).
[6] مفاتيح الغيب (12/49).
[7] مجموع الفتاوى (7/81-82).
[8] أخرجه البخاري حديث رقم (4068) كتاب المغازي، باب: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154].
[9] زاد المعاد لابن القيم (2/182).
[10] تفسير القرطبي (12/298).
[11] صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، حديث رقم (2361).
[12] تفسير القرطبي (9/315).
[13] حادي الأرواح لابن القيم، ص (100-101).
(المصدر: مجلة البيان)