رفيق نضال بيغوفيتش وعضو “الشبان المسلمين”.. رحيل البروفيسور البوسني عصمت قاسوماغيتش
إعداد محمد شربي
نعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، البروفيسور البوسني عصمت قاسوماغيتش الذي شيعه البوسنيون يوم الجمعة 24 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
حياة طويلة عاشها قاسوماغيتش -93 عاما- مليئة بالكفاح من أجل التعلم وتحقيق إنجازات علمية ومهنية تسهم في تقدم وطنه وازدهاره. لكن تلك السنوات امتلأت، أيضا، بالكفاح من أجل أن ينال البوشناق حقهم في العيش بحرية وكرامة كغيرهم من شعوب المنطقة.
تعرض للاضطهاد، والتضييق والسجن، لكن ذلك لم يفُتّ في عضُدِه، ولم يثنه عن مواصلة السير في الطريق الذي ارتضاه لنفسه منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، ألا وهو خدمة الوطن بالعلم، والمطالبة بالعدالة والمساواة في الحقوق لكل المواطنين.
حياته العلمية والمهنية
ولد قاسوماغيتش في 21 يوليو/تموز 1928 في سراييفو. تعلم أساسيات الدين الإسلامي في أحد كتاتيب سراييفو. بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية، التحق عصمت بمدرسة الشريعة لمدة 4 سنوات، ثم بالمدرسة الثانوية بنين في سراييفو.
أبدى قاسوماغيتش منذ طفولته نبوغا وتفوقا علميا ملحوظا، فتخرج في الثانوية بتفوق، ثم درس الهندسة وتخصص في علم المعادن. وبعد تخرجه حصل على دراسات متقدمة في المجال نفسه في فرنسا وإنجلترا. وأجاد عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية.
بالإضافة إلى إلقاء المحاضرات، وكتابة المقالات، فقد أعد وشارك في إعداد أكثر من 460 ورقة علمية متخصصة، مما جعله أهلا ليكون أحد العلماء الذين شملهم “دليل البحث العلمي اليوغوسلافي” الذي صدر في بلغراد عام 1971.
وتم اختياره مستشارا علميا في منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية “يونيدو” (UNIDO)، ثم خبيرا دوليا استثنائيا في الأمم المتحدة في علم المعادن. وقد شارك بهذه الصفة في العديد من البعثات العلمية الدولية.
حصل قاسوماغيتش على العديد من الجوائز المحلية والعالمية المهمة لأدائه العلمي المتميز وأنشطته الاجتماعية والإنسانية المؤثرة، من بينها “وسام العمل المرصع بالفضة”، الموقع من قبل “جوزيف تيتو” رئيس يوغوسلافيا.
علاقته بالشبان المسلمين
على الرغم من نبوغ قاسوماغيتش وتفوقه العلمي، فإن ذلك لم يدفعه للانطواء على الكتب أو يجعله حبيس المختبرات العلمية، بل دفعه ذلك التفوق للشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعه وبلده.
ففي المدرسة الثانوية تعرف على أسعد كاراجوزوفيتش، وطارق مفتيتش، وعلي عزت بيغوفيتش وغيرهم من الجيل الأول لحركة الشبان المسلمين، وانضم لها رسميا عام 1943، وهو سن الخامسة عشرة.
وشارك مع “الشبان المسلمين” في الأعمال الإنسانية لمساعدة المهاجرين من شرق البوسنة، الذين تضرروا بسبب الحرب العالمية الثانية.
وبسبب نجاحهم في القيام بدور فعال في تقديم العون للمهاجرين والمستضعفين، ذاع صيت “الشبان المسلمين”، وأحبهم الناس، وزاد إقبال الشباب على الانضمام إليهم. لكن ذلك كان سببا في انتباه السلطة الدكتاتورية إليهم، والإحساس بخطرهم، ومن ثَم السعي للقضاء عليهم بشتى الطرق.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وإحكام الحزب الشيوعي بقيادة “جوزيف تيتو” قبضته على البلاد، قامت السلطات الشيوعية، في عام 1947، بالقبض على أعضاء “الشبان المسلمين”، ووجهت لهم تهمة “العداء للدولة، والإضرار بمصالحها”.
حُكم على قاسوماغيتش بالسجن المشدد لمدة سنة، قضاها كاملة، وخرج من السجن وعمره 20 عاما، ليجد السلطات له بالمرصاد، مما اضطره للسفر إلى سلوفينيا ليكمل دراسته الجامعية، حيث التحق بكلية الهندسة الميكانيكية، وتخرج فيها بتفوق، ليعود بعد تخرجه إلى سراييفو.
استمرت علاقة قاسوماغيتش بـ “الشبان المسلمين” وشكلت له حافزا على النجاح والتقدم، حيث شعر أن كل الإنجازات التي يحققها تصب في صالح وطنه وخدمة دينه. من جهة أخرى شعر أعضاء “الشبان المسلمين” بالقيمة الكبيرة التي أضافها انضمام قاسوماغيتش إلى الحركة، بما يحمله من رجاحة عقل، وحسن خلق، فقدموه وعهدوا إليه بمسؤوليات كبيرة حتى أسندوا إليه منصب رئيس القسم الأيديولوجي، ثم نائب رئيس جمعية الشبان المسلمين.
يقول صديقه جمال لاتيتش، أستاذ التفسير بجامعة سراييفو، للجزيرة نت: “لقد كان عصمت قاسوماغيتش شخصا رائعا، وقدوة لنا جميعا داخل “الشبان المسلمين.. لم يكن متفوقا في العلوم فقط، كما يعتقد البعض، بل كان مربيا من الطراز الرفيع، لقد كان مشغولا بالتقرب إلى الله وبدعوة الآخرين إلى ذلك.. كما كان، رحمه الله، مثالا في التجرد وإنكار الذات طوال ارتباطه بالشبان المسلمين الذي امتد أكثر من 77 عاما”.
لكن كل تلك الإنجازات التي حققها والجوائز التي نالها، والمكانة العلمية الدولية التي وصل إليها، لم تكن كافية لتشفع لقاسوماغيتش عند السلطات الشيوعية اليوغسلافية، ولم تمثل، بالنسبة لهم، دليلا دامغا على حبه لوطنه، فاعتقلوه مرة أخرى.
فقد تم اعتقاله عام 1983، ضمن مجموعة من المثقفين بقيادة علي عزت بيغوفيتش، في ما عرف بـ “محاكمة سراييفو” ووجهت إليهم عدة تُهَم من بينها “العداء للدولة والسعي لهدمها”.
قُدموا للمحاكمة، حيث حُكم على عصمت قاسوماغيتش بالسجن لمدة 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، وأرسل لسجن فوتشا لقضاء العقوبة، بالقرب من صديقه علي عزت بيغوفيتش. ويبدو أن إدارة السجن لم تكتفِ بمعاناة الحبس، بل أرادت أن تضيف عليه معاناة أخرى، فوضعوه (وهو صاحب المكانة الدولية) في عنبر المسجونين بسبب جرائم الاعتداءات الجنسية.
وعن ذلك، قال له عزت بيغوفيتش، عندما التقيا في السجن أول مرة “أحمد الله أنني في عنبر القتلة حتى لو قاموا بقتلي، أما وضعك مع أولئك، فهذا أمر فظيع، لا يمكن تحمله، كان الله في عونك”.
قضى قاسوماغيتش في السجن 5 سنوات، ثم خرج لسقوط التهمة عنه بسبب تغير طرأ على القانون الجنائي اليوغسلافي.
بعد خروجه من السجن، لم يركن قاسوماغيتش إلى الراحة، وقد بلغ الستين عاما، بل أكمل سيره على الطريق الذي بدأه، فشارك مع رفقاء النضال والسجن، بقيادة علي عزت بيغوفيتش، في تأسيس “حزب العمل الديمقراطي” عام 1990. ذلك الحزب الذي فاز في الانتخابات البرلمانية، فشكلوا أول حكومة لدولة البوسنة والهرسك بعد استقلالها، تولى فيها قاسوماغيتش منصب وزير العلوم والتكنولوجيا.
عندما بدأ العدوان الصربي الغاشم على البوسنة والهرسك، قام قاسوماغيتش، متسلحا بعلمه وخبرته الكبيرة في مجال المعادن، بدور كبير في دعم المقاومة والدفاع عن الوطن.
وبعد انتهاء الحرب، والبدء في بناء دولة البوسنة المستقلة، لم ينسَ قاسوماغيتش أصدقاءه الذين استشهدوا من أجل تحقيق ذلك الهدف، فألف عام 1999، كتابا بعنوان “شهداء الشبان المسلمين الثلاثة عشر”، تضمن تعريفا مفصلا بأعضاء “الشبان المسلمين” الذين تم إعدامهم من قِبل النظام الشيوعي في أربعينيات القرن الماضي.
تزوج عصمت قاسوماغيتش، في شبابه، من السيدة “أزياده” التي كانت عضوة نشطة في قسم الفتيات المسلمات بحركة “الشبان المسلمين”، وله منها 3 بنات و13 حفيدا، و14 من أبناء الأحفاد.
وكان، رحمه الله، يردد دائما (كأنه لا يريد أن يضيع نضاله عبر السنين هدرا) “أنا فخور جدا بأحفادي، لأنهم جميعا يسجدون إلى الله، ويساهمون في ضمان بقاء الإسلام في هذا الجزء من العالم”.
حفيدته الكبرى “ألماسا” مدرسة الرياضيات بكلية العلوم جامعة سراييفو، قالت للجزيرة نت “أحمد الله الذي شرّفني أن أكون من نسل عصمت قاسوماغيتش.. لقد علّمنا أن نقف دائمًا مع الحق، وأن نكافح من أجل تحقيق الأفكار”.
وأضافت ألماسا أن جدها الراحل عصمت قاسوماغيتش كان يردد دائما أن “العقبات على طول الطريق حتمية ومتوقعة، لكنها ليست مستعصية على الحل، ولا يجب أن تكون سببًا للاستسلام”.
(المصدر: الجزيرة)