رفضوا مساجدهم “الحرام” وقوانينهم الوضعية وقدموا رُؤى للإصلاح.. هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟
بقلم عبدالله الطحاوي
ثم إنهم ينتمون إلى مجال جغرافي واسع يمثل قلب العالم الإسلامية: الشام ومصر والغرب الإسلامي، ويمثلون المذاهب الفقهية الكبرى السائدة آنذاك في هذا الفضاء الجغرافي: الحنابلة والشافعية والمالكية، وإن تباينت اختياراتهم المنهجية في الاعتقاد والسلوك بين مذاهب أهل الحديث والأشاعرة والمتصوفة، كما تعددت مناهجهم في تصور الإصلاح المنشود بين منهج نظري اتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وآخر عملي انتهجه تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م)، وثالث وصفي تأملي حضاري قدمه الفقيه القاضي والمؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م)!
إن هذه المشروعات الإصلاحية الثلاثة جمعت بينها ظروف معقدة جدا صاحبت العصر المملوكي الذي عانى من اضطراب شديد، وانقسام واسع لدولة الخلافة الجامعة، وحروب طاحنة شهدت أكثر من مئة حملة عسكرية كبيرة وصغيرة، قاتل فيها مئات آلاف المحاربين، وعرفت نزاعات فرقية شديدة، وشيوع أفكار عدّها الفقهاء كاسرة للعقيدة القويمة.
والحقيقة أن دولة المماليك -التي امتدت من سنة 648هـ/1250م إلى سنة 923هـ/1518م- خرجت من رحم انتصارات تاريخية لتحكم سلطنات عظيمة بمصر والشام والحجاز، وكل ما تملكه من مؤهلات هو البسالة العسكرية وقوة البأس، مستغلة حالة التراجع الاجتماعي الشديد؛ فكيف تصرف العلماء مع هذا التحدي؟ وكيف فكرت النخبة العلمائية في ذلك العصر؟ وما هي المناهج النظرية والعلمية التي طرحتها لتوظيف القوة المملوكية الصاعدة في الدفع باتجاه تحقيق الإصلاح الشامل؟
مقاربة تيمية
عرف السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) بكونه أحد رواد الإصلاح المؤسسي في العصر المملوكي، وفي عهده ظهر الكثير من الدواوين والمؤسسات التعليمية والصحية. وينبهنا ابن كثير (ت 776هـ/1374م) -في كتابه ‘البداية والنهاية‘- إلى أن عالما مجتهدا كبيرا ساهم في دفع قلاوون باتجاه الإصلاح وتبني بعض المواقف الأخلاقية في عصره، ويضرب مثالا على ذلك بإبطاله شراء المناصب بالرشوة (كانوا يسمونه ‘البرطلة‘) و”كان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية”.
ويُعتقد أن ابن تيمية كتب رسالة إصلاحية مهمة لهذا السلطان لعلها كتابه المعنون بـ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘، لما رأى أن الأوضاع في زمنه تندرج ضمن “الزمن الرابع” لدى ابن المقفع؛ فقد حاول هذا الفقيه أن يقوم بالدورين: إصلاح السلطة وتنوير المجتمع، فكتب باختصار عن فكرة وصفها بأنها “لا يستغني عنها الراعي والرعية”، معللا ذلك بأنه “لما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه”.
إن فكرة هذا الكتاب ذكية جدا وتذكّرنا -على نحو ما- بـمساهمة الإمام الجويني (ت 478هـ/1089م) في المشروع الإصلاحي للدولة السلجوقية؛ فهي تنظّر لكيفية تقنين وضع القوة والشجاعة المتمثلة في الطبقة الحاكمة الجديدة (المماليك)، وفي نفس الوقت يتم توجيهها نحو الإصلاح. وتحقيق الأمرين معناه القبول بالواقع المملوكي وأصحابه ذوي الأمجاد العسكرية، طالما أن هذا الواقع سيعمل على إصلاح نفسه وإصلاح المجتمع، وسيرضى بأن يكون العلماء شركاء في السلطة ما دام “أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء”.
ومن هنا نفهم سر التسمية “إصلاح الراعي والرعية” التي هي إعادة صياغة واضحة لعبارة ابن المقفع “صلاح الراعي والرعية”، فمن الخطورة الشديدة -وفقا لرؤية ابن تيمية- ترك تلك القوة الكبيرة تتفلت من قواعد الدين لأنه “إن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس”.
مبدئيا يدرك ابن تيمية أنه لا مجال للحديث في هذا الكتاب عن شرعية قرشية، أو حتى عن شرط الحرية المعتاد تأكيده في الفقه السياسي الإسلامي، كما أن الظرف لا يسمح بمناقشة مشروعية المماليك بإعادة ما فعله العز بن عبد السلام (ت 660هـ/1262م)، حينما أشرف على بيع أمرائهم غير مؤهلين شرعا للحكم لكونهم “مماليك” واقعين في الاسترقاق!
فقد تخطت الظروف ذلك الموقف لأن المماليك صاروا يحكمون بشرعية انتصار “عين جالوت” العظيم عام 658هـ/1260م الذي كسر مدَّ التتار الجارف، والخليفة القرشي العباسي –الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- موجود في القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ”السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين”!!
تصور شامل
يتحدث كتاب ‘إصلاح الراعي والرعية‘ عن أهمية التدبير الأمثل لشؤون الولايات ومؤسسات السلطة العامة، وأهمها: السلطان ونائبه (مؤسسة الرئاسة)، وإمارة الجند (مؤسسة الجيش)، والقضاء والحسبة (السلطة القضائية)، وولاية الأموال (وزارة المالية). وإذا كانت السلطة العليا نالت استثناء بحكم الأمر الواقع، فإنه يمكن قبول ذلك بشرط تبني معايير جديدة في الولايات الأقل شأنا.
ومن هنا تحدث ابن تيمية في كتابه عن نحو تسع ولايات كبرى تخص كيان الدولة، وتقريبا 17 من ولايات المجتمع، وأوجب على السلطان البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار: من الأمراء، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر، وولاة الأموال: من الوزراء، والكتّاب (= المحاسبون)، والشادّين (= المفتشون)، وسُعَاة (= جُباة) الخراج والصدقات.
كما طالب هذا الإمام بأن توَّسد أمور الولايات بعيدا عن الولاء الرحمي مثل القرابة أو “ولاء العتاقة” ويقصد به المماليك، وكذلك تجاوز الولاء القُطري والمذهبي والطُّرُقي الصوفي، وكذلك الانحياز العرقي “فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه (= مملوكه سابقا) قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته”.
بنى ابن تيمية كتابه هذا على آيتين من القرآن الكريم، هما قوله تعالى: ﴿إنّ اللهَ يأمرُكم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها﴾ وهي تخص الراعي (الحاكم)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم﴾، وهي تخص الرعية (الشعب). وحاول –بتنظير اتّسم بالواقعية الشديدة- أن يفض نزاعا كبيرا بين قيمتيْ “القوة” و”الأمانة” عبر هاتين الآيتين.
لقد كان يدرك أن اللحظة المثالية هي تلك التي تسيّر فيها الدولة بالحاكم “القوي الأمين”، ولكن “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل”، وهو إشكال يمس المشروعية السياسية داخل العصر المملوكي بالذات. فالكثير من المماليك حديث عهد بإسلام، وبعضهم مطعون فيه أخلاقيا؛ فهم قد “جمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء”، كما يصفهم تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م). وقد جيء بهم رقيقا من أصقاع الأرض، فأقاموا دولتهم بالسيوف والرماح، وأهم ما كانوا يستندون إليه هو قوتهم وبأسهم.
مرونة تطبيقية
كان السؤال المطروح أمامه هو: أين يمكن توظيف كل قيمة في موضعها؟ فقرر أنه في ولاية الحرب وقيادة الجيوش إذا حدث تعارض بين القوي الفاجر والأمين الضعيف، فإنه يقدم “الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور”، لكن الأمر مختلف في ولايات الأموال فـ”إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدِّم الأمين”. وفي ولاية القضاء -وهي ولاية بينية- تحرّج ابن تيمية من أن يطبّق عليها معيار القوة، فقال إنه “يقدَّم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع”.
والحقيقة أن ابن تيمية يفتح الباب أمام المرونة في تطبيق تلك القيم، حيث يقول “يجب.. السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها”. كما يطرح حلا إصلاحيا خلّاقا بدعوته إلى تعويض نقص القيم في الأفراد باستكمالها في المؤسسات، فإذا لم يوجد الفرد “القوي الأمين” فإنه يمكن توظيف شخصيات كل منها يجمع جانبا من هاتين القيمتين لتتحققا بـ”تعدد المُوَلَّى إذا لم تقع الكفاية بواحد تامّ”.
اللافت أن ابن تيمية كان يحاول -بذكائه المعهود- توريط مؤسسة القوة بتحميلها القيام مباشرة بالواجبات الدينية لـ”إصلاح دين الخَلْق”؛ حيث ألزم مؤسسة الجيش المملوكية -وهي مؤسسة الحكم الفعلية- بأن ترعى فريضتيْ “الصلاة والجهاد”، لأنه “كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم: هم أمراء الحرب”.
ثم بين الإمام أن رعاية الصلاة تقود إلى أمرين: صيانة ثاني أركان الدين، وفي نفس الوقت تجسيد قيمة خُلقية قد يقود التحلي بها إلى إصلاح المؤسسة نفسها “إذا أقام المتولي عمادَ الدين؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات”.
وبالتالي؛ فإن ابن تيمية -في خطته النظرية لإصلاح الدولة المملوكية والمجتمع الذي كانت تحكمه- كان يتحرك ضمن شرط الواقع، ليس بهدف الوقوع فيه بل للنهوض به؛ فهو يقبل به لكي يمارس ضغطا عليه يتجه به نحو الإصلاح. وقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1394هـ/1974م) أن هذا النهج من التفكير في رعاية المصالح الشرعية كان سمة لذلك العصر، سواء أكان عند ابن تيمية أو في رؤية معاصره نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت 716هـ/1316م) المتعلقة بتوسيع حجية المصلحة في التشريع الإسلامي.
برنامج عملي
ألّف ابن تيمية الشامي كتابه عن إصلاح الراعي والرعية في القاهرة، بينما صنّف تاج الدين السبكي المصري كتابه ‘معيد النعم ومبيد النقم‘ في دمشق؛ والأخير هو الكتاب الثاني الذي يمثل الحلقة الأبرز ضمن حلقات المشروع الفقهي لإصلاح الدولة والمجتمع في العصر المملوكي خلال القرن الثامن الهجري.
يختلف ‘معيد النعم‘ عن كتاب ابن تيمية اختلافَ المؤلَّف العملي عن صنوه النظري، وإن كان المؤلِّفان يتحدثان من أرضية مشتركة قوامها استقلالية العلماء عن تأثير الأمراء؛ فكتاب ابن تيمية أُلِّف على غرار مصنفات السياسة الشرعية التي تتعرض عادة للوظائف السياسية العامة للدولة، ولا تهتم كثيرا بالمجتمع وما يعج به من مرافق ومِهَن، أما كتاب تاج الدين السبكي فهو كتاب تطبيقي يبحث أسباب انحراف الدولة في القطاعين العام والخاص، برصده للعيوب الوظائفية والإنتاجية السائدة فيهما وتقديم رؤى وبرامج لمعالجتها.
وبالتالي فهذا الكتاب درس في السياسة العملية والبرامجية التي تُقدمها في عصرنا اليوم مراكز الخبرة وبيوت الاستشارة لصنّاع القرار. وهو يقدم لنا قراءة عميقة لطبيعة المجتمع المملوكي في مصر والشام والحجاز، عبر رصده لـ113 وظيفة وحرفة هي قوام حياة هذا المجتمع في تلك اللحظة التاريخية، ويمكن تصنيفها ما بين وظائف إدارية، وأخرى علمائية، وثالثة مرتبطة بالحِرَف والصناعات والتجار وأصحاب رؤوس الأموال.
وقد خاطب السبكي في كل ذلك السلطانَ ونائبه ومساعديهما وقادة الجيوش، والعلماء في المساجد والمتصوفة في الزوايا، وصولا إلى أصحاب المهن المختلفة وحتى الشحاذين في الطرقات. وبالتالي؛ فالكتاب مصدر غني بالمعطيات التي تخدم أعمال المؤرخين والباحثين الاجتماعيين، وكل المعنيين بنظام الدولة والمجتمع حينها، وبكيفية عمل الوظائف القيادية والإدارية في الدولة ونظيرتها الخدمية في المجتمع. ومن المهم أن نلحظ أن الكتاب يندرج ضمن مجال السياسة الشرعية التطبيقية، وهو مجال لا يتلفت إليه الباحثون كثيرا.
استخدم المؤلف مفهوما شرعيا تزكويا وهو خُلُق “الشكر” ليكون خيطا ناظما لملامح منهجه في الإصلاح السياسي والمجتمعي والاقتصادي، رغم أن الكتابة عن “الشكر” مشهورة في كتب الرقائق والتصوف. وما كتبه السبكي عن الشكر في المدخل النظري للكتاب -وفي الخاتمة عن منحة المحنة- مقتبس من كتاب ‘إحياء علوم الدين‘ للغزالي (ت 505هـ/1111م) الذي تأثر هو أيضا بنفس المعالجة للشكر التي قدمها أبو طالب المكي (ت 386هـ/997م)؛ حسب ابن تيمية. والجديد في معالجة السبكي لشكر الله هو أنه جعله مدخلا للحديث عن ترميم الواقع.
تزكوي وسياسي
واللافت أن هذا الانزياح الدلالي في حركة المفاهيم -الذي أجراه السبكي في توظيف مفهوم “الشكر” التزكوي في الحقل السياسي والمجتمعي- كان سمة لذلك العصر. فظهور مصطلح “نائب الفاعل” في الدراسات النحوية -على يد الإمام النحوي ابن مالك الجياني (ت 672هـ/1271م)- كان انزياحا دلاليا آخر، قادما هذه المرة من حقل السياسة ليواكب فيما يبدو تضخم سلطات “نائب السلطان”.
وكذلك مصطلح “السلطان المختصر” الذي أطلِق على “نائب السلطان” ذي الصلاحيات الواسعة، واستقاه معجم اللغة السياسية حينها من حقل التأليف العلمي وخاصة الفقهي. وهذا الاتساع في صلاحيات “نائب السلطان” هو الذي جعل السبكي -وكذلك ابن تيمية- يفرد له الكثير من التفصيلات في الحديث عن الولايات والصلاحيات، لا سيما إذا عرفنا أن الكثير من السلاطين تولوا الحكم وهم دون سن البلوغ فكان نوابهم هم المتصرفين، وقد شجعهم السبكي على ذلك ليكونوا في المكان الذي يدير منه السلطان الحكم فيباشروا شؤون الرعية.
لم تقنع هذه الإجابة السائلَ فطلب من السبكي “شرحا مُبِينا مختصرا”، فرأى أن يضع كتابا في جوابه مقتصرا فيه على “النعم الدنيوية إذ كانت محط غرض السائل”. لكن السبكي قرر أن ينقل السؤال من حالة الفرد إلى وضعية الدولة والمجتمع، فوسّع من دلالة السؤال عن كيفية استعادة الفرد المصالح الضائعة عليه، إلى كيف تعود الأمة -بكافة نُظُمها- وحكامها إلى النعم والتمكينات التي فقدتها بسبب الانحرافات السلطوية والاجتماعية؟
وقد استخدم السبكي فكرة “الشكر” هنا للقيام بعدة أمور، في مقدمتها أن تصبح ممارسة الوظيفة والمهنة على الوجه الأمثل دينا يُتقرب به إلى الله، باعتبارها شكرا لنعمه على صاحب الوظيفة أو الصنعة، وهذا يرفع من مستوى الاحتراف والإنتاجية بإتقان العمل. وقد كان من دأب ذلك العصر أن الصناعات يتم تلقيها بالسند عن معلميها مثلها في ذلك مثل العلوم الشرعية.
مدخل صوفي
لماذا اختار السبكي “الشكر” وليس “الحمد”؟ الجواب أن الحمد -في أقوى تعريفاته- سلوك قلبي، لا بد من أن يكون هو حال الإنسان سواء كان الفرد في نعمة أم في ابتلاء، أما الشكر فلا يكون إلا عند حضور النعمة. والشكر وصفه القرآن بالعمل ﴿اعْملوا آلَ داودَ شُكراً﴾، وهو رد الفعل اللازم تجاه أي مِنة أو هِبة مست الإنسان، وبالتالي فهو فكرة معيارية يمكن أن تحس وتشاهد.
وعندما يسأل فرد أو أمة عن سبب ذهاب نعمة دينية أو دنيوية -كوظيفة أو ولاية أو مال أو سيادة وتمكين- يقال له إن السبب هو “إخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها وهو الشكر، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال”.
إن الخلل الذي يعنيه السبكي في فهم دلالة الشكر هنا هو أن ينصرف أي عامل إلى صنع أفعال خيرية تطوعية من صيام وصدقات وحج، بينما يتجاهل مهام وظيفته نفسها، ويعتبر أن فعل ذلك يؤدي إلى أن “تشكر [الوظيفة] على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت”. وضرب لذلك مثلا بنعمة البصر والسمع قائلا: “[لو] تصدّقت بدرهمين شكرا للَّه تعالى على نعمة الأذنين، وهتكتَ كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كل حرام وَعَيته؛ فلستَ من الشاكرين”.
ويتحدث الإمام السبكي عن الشكر العملي للسلطان أو الحاكم فيقول: “إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرا على الخلق فعليك البحث عن الرعية، والعدل بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل”، و”لو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضا وجلست في دارك تصلي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئا على ربك…، فمَلِكُك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر، وإنما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالا أخرى صالحة كان ذلك نورا على نور، وإلا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم”.
والحقيقة أن السبكي يحاول أن يعالج الازدواجية الشديدة التي كانت سائدة في المجتمع المملوكي، حيث كان الحكام يعتقدون أن بناء المساجد، ومدارس العلم، وزوايا التصوف، وإطعام الفقراء، وإقامة أسبلة الماء؛ كفيل بغفران ذنوب سفك الدماء وهدر الأموال وظلم العباد.
إن هدف الشكر عند السبكي هو إيجاد الإنسان المهني الحر الذي يقوم بواجباته المثالية، دون أن يقع في عبودية الوظيفة أو يسيطَر عليه بها، بل إنه يمكنه من رفض أي قوة تحاول حرفه عن وظيفته وأهدافها ونظامها المهني وقواعدها المثالية، فالوظيفة ليست عقد عبودية مع الدولة وإنما هي استخلاف من الله.
ويرى السبكي أنه مهما كانت خيارات السلطة التي مكنتك من تلك الوظيفة، فهناك غرض ما وهدف آخر لها وهو أنك مفيد لتلك السلطة في جانب من الجوانب، حيث “يَطلب [مَنْ عيّنك] نفعَ نفسه بنفعك، ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه”، ولذلك فإن السلطان “لو لم يكن له غرض في الإِعطاء لما أعطاك”. إن هذا طبعا لا ينفي الامتنان للناس، ولكنه يجعله امتنانا يقترن بإدراك أنهم قاموا بإيصال مراد الله إليك، أما الشكر الذي يتضمن “الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع” فإنما يكون لله وحده.
جرأة لافتة
اتسم مؤلف الكتاب بجرأة الطرح والشجاعة في عرض رأيه ونقده السياسي والاجتماعي، وتلك الفضيلة كانت سمة عامة في عصر المماليك الذي انتشرت فيه الكتابات والأشعار الناقدة، والتي من أشهرها القصائد السياسية لشرف الدين البوصيري (ت 696هـ/1297م) صاحب قصيدة ‘البردة‘ في المديح النبوي، والكتابات الشديدة في مخاطبة الولاة. وهذا الكتاب يعد نموذجا في ذلك من حيث الأسلوب ومستوى النقد الصريح.
ومن ذلك أن السبكي يسجل بوضوح أن من مظاهر جحود نعمة رئاسة المسلمين أن يظن السلطان أن الولاية هي أن يكون الرئيس “آكلا شاربا مستريحا”، وهو إنما تولى أمر المسلمين “لينصر الدين ويُعلي الكلمة”، وكذلك ليست السلطنة أن “يفرق [السلطان] الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس، والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الإسلام جياعا في بيوتهم”. كما حاول أن يهدم عادة ساسانية اشتهر بها عصره وهي تقبيل الأرض تحت السلطان، فذكر أنها أمر “من عظائم الذنوب، ونخشى أن يكون كفرا”.
كما انتقد بشدة سلوك البذخ في بناء المساجد الكبرى وهو من ميزات العصر المملوكي، خصوصا تلك التي كانت تشيد بفرض الضرائب ونهب أموال الرعية، فنجده يخاطب الحاكم بقوله: “تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا، ليقال: هذا جامع فلان؛ فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا، وإن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا”.
وقد تحدث المؤرخ المصري ابن إياس (ت 928هـ/1522م) -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- عن ذلك السلوك، وموقف العلماء من بعض المساجد التي بُنيت بأموال الشعب المغتصبة من أجل التدليس على الناس، وقال إن المصريين “اللطفاء” أطلقوا على مدرسة/مسجد بناه السلطان قانصوه الغوري (ت 922هـ/1516م) بأموال الضرائب الظالمة اسم “المسجد الحرام”. وانتقد السبكي كذلك سلوك نخبة المجتمع التي يحرص أحدهم على الصلاة “شكراً لله تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، و[يـ]ترك المظلوم يتخبطه الظلم”، مؤكدا أن “صَلاته وبالٌ عليه”!
والمتمعن في تلك التفاصيل الناقدة يجد أنها ترصد الواقع السياسي الذي كان يعيشه السبكي، وأنه حاول أن يلخص تلك الإشكالات السلطوية وما صاحبها من ازدواجية في القيم، واعتبر أن كل هذه السلوكيات مضادة لمهام الوظيفة ومعجِّلة بزوال نعمتها عن صاحبها، وإذا استمرأ السلطان هذه السلوكيات ثم “سلبه الله النعمة أخذ يبكي ويقول: ما بال نعمتي زالت وأيامي قصرت؟! فيقال له: يا أحمق، أما علمت السبب؟! أَوَلستَ الجاني على نفسك؟!”.
ازدواجية قضائية
وبعد أن شخص الأدوات التي تؤدي إلى زوال السلطة؛ أوضح السبكي أن من معاني شكر الولاية أن يتأكد السلطان أنه “والرعية سواء”. ثم شرع في بيان معاني الشكر التي يجب أن يتسم بها السلطان بشكل عملي، وهي “أن ينظر في الإقطاعات [المالية] ويضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين”، وكذلك “من وظائفه الفكرة (= الاهتمام) في العلماء والفقراء وسائر المستحقين، وتنزيلهم منازلهم”.
وتلك الملاحظة التي سجلها السبكي تشير إلى فكرة مهمة، وهي أن المماليك هم أول من أقام قضاء يحكم بالقانون الوضعي (قانون ‘الياسة‘ المغولي) منفصلا عن القضاء الشرعي، فسبقوا بذلك ما فعله الاستعمار الغربي بعدهم بقرون. وكما يقول المقريزي فإن المماليك “فوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية.. وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية..، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكزخان والاقتداء بحكم ‘الياسة‘، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم.. على مقتضى ما في ‘الياسة‘”.
ومن الأفكار المهمة التي وردت في الكتاب نقده للمؤسسة العسكرية المملوكية، وهي مؤسسة الحكم والنخبة السياسية في ذلك العصر؛ فقد حرم السبكي تجنيد الفقير العاجز الذي لا يستطيع أن يدفع البدل، وكذلك انتقد بشدة سياسة تسخير الفلاحين من المجندين في إقطاعيات قادة الجيش لأن “الفلاح حر لا يدَ لآدمي عليه، وهو أمير نفسه”.
كما رفض فكرة أن يستمر الفلاح في الجيش فوق ثلاث سنوات، واعتبر ذلك من قبائح “الديوان” العسكري محتجا على جعل القوانين العسكرية فوق أحكام الشريعة، فـ”من قبائحهم (= العسكر) أنهم إذا اعتمدوا شيئا مما جرت به عوائدهم القبيحة؛ يقولون: هذا شرع الديوان! والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر؛ وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله فلا أقل من ضربه بالسياط”.
ولعل من المدهش حقا في الكتاب تلك الصفحات الطوال التي كتبها لتحليل العلاقات المدنية العسكرية في تلك الفترة، وبتلك الدقة التي تكاد تتماس في الكثير من الأحيان مع إشكالات الجيوش والحياة المدنية في العصر الحديث.
وتحدث أيضا عن مظاهر الفساد المالي الذي اعترى المؤسسة العسكرية في زمنه، فلم يتّصف المنتمون إليها حتى بـأخلاق “نبلاء اللصوص”؛ فكان رأيه أن الذهب الذي تطرّز به أزياؤهم ونياشينهم لو وُضع في الخزينة العامة و”تداوله المسلمون لانتفعوا به، ورخُصت البضائع، وكثرت الأموال”.
وهذا التلويح بتأميم ثروات العسكر استصحب فيه تفاصيل موقف العز بن عبد السلام حينما رفض فرض ضرائب على الشعب أثناء التحضير لمعركة عين جالوت، وقام بتأميم أموال قادة المماليك من أمثال الظاهر بيبرس وسيف الدين قُطُز (ت 658هـ/1260م).
وفي كلامه عن الوسط العلمي؛ تحدث السبكي عن النعم والنقم التي تسود حياة العلماء، مشيرا إلى ثلاث وظائف رئيسية يجب أن يقوم بها العلماء؛ وهي: التعليم والإفتاء والنصح العام، وشدد على ضرورة أن يتحرر الفقيه من سطوة الدنيا ومن أسر تفاصيلها. وكان من رأيه أن العلم والعقل ليسا هما مفتاح الغنى، وقد يكون طريق الجهل أسرع وأضمن لمن يريد أن يغتني من وراء توسد القضاء من الفقهاء؛ ولذلك أرشد هؤلاء إلى أن الالتحاق بالجيش لأنه أجدى في تلبية طموحاتهم المالية.
ورصد كذلك شراء المناصب القضائية بـ”البرطلة” (الرشوة المالية) ورأى أن هذا يُسقط أحكام القضاة الشرعية، مفندا مزاعم من يقول منهم: “أكرِهت على القضاء”، مؤكدا أنه لم يرَ “مَن أكرِه على القضاء الإكراه الحقيقي..، فقبحها الله تعالى من طائفة”! ثم حذر من بعض المشاكل العلمية التي فشت في عصره مثل آفة التعصب المذهبي، فقال مخاطبا الفقهاء: “وأما حملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله الله منكم، ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد. قبح الله مثل هذا الفقيه”!
رؤية خلدونية
رغم أن ابن خلدون كتب ‘المقدمة‘ وتاريخه ‘العِبر وديوان المبتدأ والخبر‘ قبل وصوله إلى مصر عام 784هـ/1382م للاستقرار فيها، وإن زاد في عمليه كثيرا هناك ونقحهما؛ فإنه عقد فصلا في تاريخه عنونه بـ”الخبر عن دولة الترك (= المماليك) القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم”.
ولعل وضع ابن خلدون في مصر بوصفه ضيفا لاجئا وإيثاره السلامة جعلاه لبقا في حديثه المقتضب عن المماليك؛ فهو يرى أنه كان “من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه، وتلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة أمراء حامية وأنصارا متوافية”، مؤكدا أن “أكثر.. الترك الذين بديار مصر من القفجاق (= قبيلة مغولية)”، وجاعلا “لملوك الترك بمصر… الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين”.
أما ‘المقدمة‘؛ فقد كتبها ابن خلدون وهو على مشارف تاريخ يلملم أوراقه، إذ كان يكتب وهو يعرف أن عالمه الإسلامي يقف على الحافة بعد أن “نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول” الذي كان ينتظر حضارته، ولم يذكر فيها دولة المماليك إلا عرضا عند حديثه عن وظيفة “الحاجب” وصناعة “الطراز” (= زخرفة الملابس السلطانية) في عدد من الدول، فذكر ما جرى به العمل فيهما بدولة المماليك.
لقد كانت ‘المقدمة‘ إجابة تفصيلية عن أسئلة ابن المقفع الأربعة، لكن ابن خلدون أجاب عنها بطريقة مختلفة مركزا على سؤال الحضارة ومتحدثا عن الدول صعودا وهبوطا، وكيف تنسلخ الدولة من الأخرى بإكمال دورتها العُمُرية مثل الإنسان الذي يولد فيكبر ثم يهرم فيموت، وإذا “انتقض عمران الأرض [فذلك] بانتقاض البشر”.
كان ابن خلدون يريد أن يشخّص بدقة ما الذي حدث للحضارة العربية الإسلامية؟ وحينما يكون السؤال على مستوى الحضارة تصبح الإجابة على مستوى الدين والعوائد والسياسة والاقتصاد والمعارف، وطبيعة العمران الاجتماعي، والتكوينات الاجتماعية والدوافع العصبية، وقد حفل الكتاب بالرؤى عن كل ذلك، وعن العلاقة بين أرباب رأس المال وأصحاب السلطة، وبين المثقفين والعسكريين، وعن تاريخ العلوم وانماط عمل الوظائف والصناعات.
لقد كانت “العصبية” مادة ابن خلدون الذهبية التي فهم من خلالها كيف صعدت الدولة العربية المضرية، ثم كيف ضعفت من داخل جهاز الدولة نفسها باستخدام الموالي والأرقاء، راصدا لحظة ظهور العصبية العجمية وخاصة التركية القائمة على شرعية القوة العسكرية، والتي آلت إليها مصائر الحكم في معظم وأهم أصقاع الإسلام.
وتبدو ‘المقدمة‘ كقرص ممغنَط شديد التكثيف مهّد فيه ابن خلدون الطريق لفهم أن الحضارة هي شيء أكبر من دولة ومن مذهب ومن عرق، وعندما كتب ‘المقدمة‘كانت الحضارة الإسلامية في أشد لحظاتها تراجعا، فقد “تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، وكأنه خَلْق جديد ونشأة مستأنَفة وعالَم محدَث”.
لقد كان هذا هو الوقت المثالي ليدوّن قصة الحضارة، حيث “احتاج [الناس] لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنِّحل التي تبدلت”. وبالتالي فقد أجاب ابن خلدون على أسئلة ابن المقفع بشأن طرق “صلاح الراعي والرعية” في زمنهما الرابع إجابة حضارية، ذاهبا إلى خضوع الحاكم وشعبه لسنن تاريخية وقواعد اجتماعية، هما نتاجها وهما مادتها وأدوات الفعل فيها.
فهل رمى مؤرخنا العظيم ولي الدين ابن خلدون الحضرمي -من وراء ما نظّر له في ‘المقدمة‘- إلى تقديم قواعد حضارية يمكن لدول عهده -بما فيها دولة المماليك- والدول اللاحقة الأخذُ بها لإصلاح الأوضاع المتدهورة، وتأخير السقوط أطول فترة ممكنة –على الأقل- إن تعذّر تحاشيه بالمطلق؟