بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي (خاص بالمنتدى)
رسالة مفتوحة إلى بابا الفاتيكان البابا فرنسيس بشأن الإبادة الجماعية في غزة وفلسطين
حضرة البابا “ورخي ماريو بيرجوليو فرنسيس” أسقف روما والزعيم الروحي للكنيسة الكاثوليكية، الموقر…
تحية سلام، وطمأنينة، وخيرٍ لكل بريء من أبناء الإنسانية في هذا الكون، وبعد:
أُرسل لكم هذه الرسالة، بشأن المجازر والعقاب الجماعي الذي يُمارسه الاحتلال الإسرائيلي وداعموه بحق شعب فلسطين وغزة، آملاً بأن تلقى لديكم آذاناً صاغيةً، ويكونَ لها أثر طيب في نفوسكم، وتُسهم في إنهاء المعاناة الإنسانية في فلسطين؛ لأن دافعها إنساني وأخلاقي، وقُربة إلى الخالق العظيم.
يا حضرة البابا: في الوقت الذي أَكتب فيه هذه الرسالة، تُدنس قِيم ومبادئ وتعاليم السيد المسيح عيسى (عليه السلام) في بقعةٍ من أحب بقاعِ الأرض إليه، وفي مهبط الشرائع السماوية “فلسطين”، على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي وحُلفائِه، والذين يستخدمون صنوف الأسلحة الفتاكة، ويمارسون أقصى درجات التوحش والقتل بحق المستضعفين، ويتلذذون بقصف الأطفال والنساء والشيوخ والشباب الأبرياء، ويُحاصرون المدنيين العُزْل، ويُجوّعونهم، ويَقطعون عنهم الدواء والماء والغذاء والكهرباء في مدينة غزة.
فالصدمة يا حضرة البابا أن يحدث هذا في ظل دعمٍ ومباركةٍ من دول “مسيحية” غربية، كالولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا؛ دول تتمثل في دساتيرها القيم الإنسانية الرفيعة، وتعتمد المرجعية الأخلاقية والوجدانية والروحية “المسيحية”، فهؤلاء لم يكتفوا بالصمت أمام ما يحدث من مجازر مروعة بحق المدنيين الآمنين، بل زجّوا بحيوشهم وأسلحتهم وأموالهم، وقدموا جميع أنواع الدعم السياسي والاستخباراتي واللوجستي لصالح هذا العدوان الظالم، وشاركوا في تلك المأساة الإنسانية التي تخالف هدايات السماء، وتناقض منهج قادة الحضارة الإنسانية، ومنهم نبيّا الله، إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، والذي جاء في صُحفهم على لسان ربنا الرحمن الرحيم “خالق الكون والإنسان” في كتابه المقدس “القرآن الكريم”: [أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى* وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى* وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى] (النجم: 36 – 41).
ففي كل الرسالات السماوية الصحيحة، وفي دعوة الرسل والأنبياء كالتي حملها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام)، كانت الحياة أساسها العدل والسلام، بألا تزر وازرة وزر أخرى. فكيف يمكن أن يُمارس هذا العقاب الجماعي، والمجازر المروعة، والإجرام الصهيوني، والذي ارتفعت حصيلة ضحاياه حتى لحظة إعداد هذه الرسالة لنحو 4700 مدني بريء موثّقين بالاسم (1873 طفلاً، و1023 امرأة و187 مسناً، والعشرات تحت الأنقاض) في غزة، وسط تجاهل وصمت غالبية القيادات والمؤسسات الغربية والمراكز الدينية والكنسية، ووسائل الإعلام، ومراكز حقوق الإنسان، وكأن من يَمتْ من الفلسطينيين ليسوا ببشر!؟
حضرة البابا: تابعنا دعواتكم إلى فتح ممراتٍ إنسانيةٍ لمساعدة المحاصرين في قطاع غزة. وتابعنا تصريحات وزير خارجية الفاتكيان، الكاردينال بيترو بارولين، بقوله: “إن أولوية الفاتيكان هي تأمين إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس، وإنه مستعد لأي وساطة ضرورية”!. وقوله في مقابلة مع وسائل إعلام الفاتيكان: “الهجوم الذي شنته حماس غير إنساني”!. وقوله: “حتى الدفاع المشروع عن النفس يجب أن يحترم معايير التناسب”!. كما سمعنا التصريحات التي صدرتْ عن وزير خارجية حكومة الاحتلال الإسرائيلي، إيلي كوهين: “من المتوقع أن يكون الفاتيكان أكثر اهتماماً بالمعاناة الإسرائيلية …”. ونستغرب أن تكون أولوية قيادة الفاتيكان هو إطلاق الرهائن، ولا تُشير، ولو إشارة بضرورة وقف قتل المدنيين الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي، فهل تستوي معاناة القتلى والجرح والمشردين والجوعى، ومآسي كثير من الأسر التي أُبيد عدد منها عن بكرة أبيها بمعاناة رهائن إسرائيليين!؟
ثم هل تصريحاتكم الإعلامية، ومواقفكم المتواضعة، ستوقف تلك المعاناة الإنسانية والجرائم الفظيعة في غزة وفلسطين؟ وهل هي كافية لردّ عدوان إسرائيل، والتي تعمدت على مدار عقود احتلالها لفلسطين التضييق على المسيحيين والمسلمين، والإساءة لمقدساتهم!؟ وهل يخفى على حضرة البابا الإجراءات العنصرية الصهيونية المتكررة بحق الحُجاج المسيحيين القادمين إلى بيت المقدس، ومنعهم في أكثر من مرة من الوصول لكنيسة القيامة لأداء صلواتهم وشعائرهم الدينية فيما سُمي “سبت النور” و”عيد الفصح المجيد”. واعتدائهم على الكنائس المسيحية التاريخية في القدس وبيت لحم والناصرة والخليل، ومنها الاعتداءات على “كنيسة القيامة” و”كنيسة القبر”، و”كنيسة المهد” في بيت لحم، و”كنيسة البشارة” في الناصرة، فضلاً عن اعتداءات المستوطنين على جُدران البطركية الأرمنية في مدينة القدس، وكتابة عبارات تنادي بالموت للعرب والأرمن والمسيحيين، وبأن القدس لليهود دون سواهم!؟
وهل يمكن الاكتفاء بإدانة بصق المستوطنين اليهود على رجال الدين المسيحيين في القدس، والتي زادت وتيرتها، وغدت عادةً يومية برعاية من قوات الاحتلال هناك ودون أية حماية للمسيحيين؟ وهل هناك أكبر من دليل تلك الهجمات الوحشية على غزة، التي دمَّرت فيها الآلة الإسرائيلية المستشفى المعمداني التابع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية، وتدمير كنيسة القديس بروفيريوس للروم الأرثوذكس في غزة، كما دمر الاحتلال في هجومه الوحشي الحالي، مساجد المسلمين التي ارتفع عددها إلى 31 مسجدًا، ومنها 26 مسجدًا بشكل كلي، فكيف يمكن أن تكون تلك التصريحات وحدها كفيلة بوضع حدٍ لما يحدث، ومن يقرأها بتمعن يرى أنها تساوي بين الضحية والجلاد، في حين يتم التغاضي عن عشرات الانتهاكات والجرائم التي يُمارسها المحتل الإسرائيلي بحق سكان فلسطين من المسلمين والمسيحيين من بدايات احتلال فلسطين عام 1948م!؟
يا حضرة البابا: ما ذنب الأطفال والشيوخ والعجائز من هذا العقاب الجماعي “الظالم”، والذي ينتهك حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والشرائع السماوية؟ فتلك الأعمال العدوانية، أكدت ازدواجية دول غربية تجاه حقوق الإنسان في الحرية والحياة والعيش الكريم، وأساءت للحضارة الغربية، والقيم السامية التي حملها سيدنا المسيح عيسى (عليه السلام)؛ نعم أمام هذا التحدي الحضاري والأخلاقي، وجب أن يرتفع صوت حضرتكم، بالإنكار، والتنديد بهذا العداون، وفضح تلك الجرائم، والإنحياز إلى الإنسان على اختلاف لونه وعرقه ومعتقده، وهو ما تُمليه عليك الأمانة الروحية “التاريخية” في تعزيز مفهوم السلام والعدل ونصرة المستضعفين، أمام أولئك الذين يُشوهون صورة الإنسان وثقافته، ويشوهون دوره، بأبشع أشكال الإجرام، والتمييز، والفصل العنصري.
يا حضرة البابا: إن منهج الأنبياء والمرسلين جميعاً؛ ابتداء من آدم (عليه السلام)، ومروراً بسيدنا نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وهارون وداوود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، هو رفض هذا الظلم، والانحياز لقيم الإنسانية في أسمى معانيها، من الحرية والعدالة والكرامة، وحقوق الإنسان، وحفظ الأموال، والأعراض، والدماء، والأنساب…. وغيرها. فهل يرتقي خطابكم وصوتكم إلى مستوى وقف الظلم، وحماية المظلومين من هذا الظلم والعقاب الجماعي!؟
يا حضرة البابا: إن تاريخ الإنسانية الذي حفظه الله تعالى في القرآن الكريم وكُتبه السماوية، إذ يبين سبحانه لنا أنه عندما قَتل أحد من بني آدم أخاه، وندم على ذلك في قصةٍ، جاءت دروسها وعِبرها واضحة لاقى غضب الله؛ لأن قتل النفس من الإفساد في الأرض، وهو ما يخالف منهج المسيح (عليه السلام)، ومنهج الإسلام كما في قوله تعالى: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ* مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا* وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] (المائدة: 27 – 29).
فالله سبحانه وتعالى في كُتبه المقدسة، يبيَّن لنا أنه من قَتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، فكيف بمن يقتل الألوف من النساء والشيوخ والأطفال الأبرياء والعُزل في غزة وفلسطين وغيرها، دون هوادة أو رحمة، وتحت مرأى ومسمع أبناء الإنسانية، وحملة رسالة السلام في الغرب والشرق، وأنت على رأسهم يا حضرة البابا!؟
يا حضرة البابا: إن شخصك قدوةً في الصفات الروحية والمبادئ الإنسانية والرسالة الحضارية، لكثير من أبناء المسيحية في العالم، وخاصة في المجتمعات الغربية، فسكوتك أو الحديث باستحياء عن ما يحدث من مجازر وحملات تهجير وتطهير عرقي في فلسطين، يُعطي تصوراً عكسياً لمعنى السلام الذي تدعو إليه ورجال الدين المسيحي في الغرب في مناسباتكم وصلواتكم، وإن كنت ترى أن هذه حربٌ عادلةٌ، فهذه فاجعة بحد ذاتها، ولا أظن أن هناك في أدبيات المسيحية أو رسالات السماء ما يشرعن القتل والقصاص إلا بحق.
يا حضرة البابا: نحن أمة تنتمي لعقيدة لا تُحب الظلم، ولا الاعتداء على إنسان، مهما كانت ثقافاته ومعتقداته وديانته وأعراقه، وننتمي لحضارة تؤمن بالسلام، والأخوة، والمحبة الإنسانية، والتسامح، والتعايش السلمي، ولن أسوق أمثلة كثيرة من تاريخنا الإسلامي عن هذا المنهج الإنساني الراسخ إلا في سياق الفتح الأول للقدس وفلسطين أيام الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، حين ضرب أروع الأمثلة في التسامح الديني والتآخي الإنساني، والتقى مع المسيحيين هناك لقاء أمان وعهد بالتعايش والمحبة والتراحم، وقد نصَّ الميثاق العُمري لأهل إِيلياء (القدس) على إِعطاء الأمان لأهل إِيلياء؛ أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها، وسائر مِلَّتها: أنَّه لا تُسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقض منها، ولا من حيِّزها، ولا من صلبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارَّ أحدٌ منهم، ولا يَسكن بإِيلياء معهم أحدٌ من اليهود (بناء على طلب المسيحيين فيها). وهكذا كان حرص أمير المؤمنين في زمن قوة المسلمين على قاعدة حرِّيَّة الاعتقاد في المجتمع.
ونحن أمة تنتمي إلى ثقافة العفو والصفح والإحسان في مراحل متعددة من تاريخها، حيث ضرب السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) أروع الأمثلة في الأخلاق والتسامح مع أعدائه الصليبيين عند تحرير بيت المقدس، وشهد شاهد من أهله في الإشادة بأخلاق الفاتحين المسلمين للقدس. إذ يقول المؤرخ الأمريكي جيمس وستون: “وهكذا سلك جنود صلاح الدين سلوكاً مثالياً في احتلالهم للقدس سنة 1187 م، وقد نذر صلاح الدين لنفسه، وسمعته، بعدم الانتقام لما فعله الصَّليبيون في الحرب الأولى سنة 1099 م، وبسبب حمايته لكنيسة القيامة، وأماكن مسيحية أخرى كثيرة، وسيتذكر الجميع تسامحه تجاه أهل الأديان الأخرى، وتجاه الأماكن المقدَّسة للدِّين المسيحي، ويبدو: أنَّ أفعاله اعتُبرت عَلَماً، ونموذجاً على كيفية سلوك المسلك الصالح، فبسبب عفوه، ووجوه الخير، المتعدِّدة في طبيعته، وسلوكه تجاه أعدائه سيظلُّ مشهوراً إلى الأبد باللُّطف، والتَّسامح، والحكمة”.
كما رأى المؤرخ والفيلسوف الفرنسي ستيفن رنسيمان: “… المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة، والإنسانية، فبينما كان الفرنج – ومنذ ثمان وثمانين سنة – يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرَّض الآن دارٌ من الدور للنَّهب، ولم يحلَّ بأحدٍ من الأشخاص مكروه؛ إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع، والأبواب يمنعون كلَّ اعتداءٍ يقع على المسيحيين”.
وقال المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه ما نصُّه بالحرف: بعكس الصليبيين نفَّذ صلاح الدين وعوده بشرفٍ، وبشعورٍ إنساني، وبروحٍ فروسية، مما أثار إعجاب المؤرخين اللاتين الذين سردوا أحداث تلك الفترة…. ويستطرد غروسيه قائلاً: “طلب بعض المتعصِّبين من صلاح الدين هدم معابد المسيحيين، وتدمير كنيسة القيامة بهدف إلغاء حجِّ المسيحيين المؤمنين بالثَّالوث المقدَّس فصدَّهم عن ذلك بكلمة منه، قال: لماذا الهدم، والتدمير، طالما أنَّ هدف عبادتهم هو مكان الصَّليب، والقبر المقدس، وليس البناء الخارجي؟ وحتَّى لو سويت الأبنية بالأرض، فإنَّ مختلف الطوائف المسيحية لن تتخلَّى عن السَّعي للوصول إلى هذا المكان. لنفعل إذاً كما فعل الخليفة عمر الذي احتفظ بهذه الأبنية عندما فتح القدس في السنوات الأولى للإسلام”. ويعلِّق غروسيه على ذلك بالقول: “إن كلَّ ما يتحلَّى به هذا السلطان العظيم من حرية الرأي، والمعتقد يبرز في هذه العبارة الجميلة”.
يا حضرة البابا: إننا نعتقد بأن دفاعنا عن المستضعفين، سواء من المسلمين أو من غيرهم من بني الإنسان، من القُربات التي نتقرب بها إلى خالق الكون سبحانه وتعالى، والذي عَرَّف عن نفسه بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا، وقال: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (الحشر: 22 – 24). وإلى الله ترجع جميع الخلائق، فيُحاسبهم على أعمالهم خيرها وشرها، ومن ثم المصير إلى الجنة أو النار، بعد الانتقال من عالم البرزخ المخيف إلى يوم البعث العظيم.
يا حضرة البابا: إن الاختراق الكبير الذي حصل في الحضارة والقيم الغربية من قبل بعض الكُتاب والمؤرخين ورجال الدين، والمحرّفين المحسوبين على الصهوينة، وادعاءاتها الكاذبة حول فكرة هيكل سليمان، وعقيدة أرض الميعاد، والتي بسببها تُسفك دماء الأبرياء اليوم دون وجه حق، إنما هي أكاذيب وانحرافات باطلة عارضها كثر من رجال الدين المسيحي، وعلماء الآثار في بحوثهم الجادة والموضوعية، حتى من اليهود أنفسهم، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فلنتشتاين، وهو أكاديمي من جامعة تل أبيب، والذي شارك بالرأي عدد من الباحثين اليهود والغربيين بأن كل عمليات الحفر والتنقيب تحت الحرم المقدسي والمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة لم تقدم دليلاً واحداً على صحة أرض الميعاد وقصة الهيكل. وإن ما أثبته عالم في الآثار من جامعة تل أبيب البروفيسور زائيف هرتزوج، والذي شارك في كثير من مهام وأعمال الحفر الأثري في القدس وأريحا ومناطق واسعة من فلسطين، جعله يصل لنتيجة واحدة: “إن الوقت قد حان للتوقف عن البحث عن شيء لم يكن موجوداً”.
كما يَعترف الحاخام كن سبيرو الذي يجلب طلاب الدين اليهود من كل أنحاء العالم إلى أريحا، بأن الدليل العلمي على صحة القصص اليهودية حول أرض الميعاد مهلهل أو يكاد يكون ضعيفاً. وهي حقائق أكدها القس الدكتور منذر إسحق، العميد الأكاديمي لكلية بيت لحم للكتاب المقدس وراعي كنيسة الميلاد اللوثرية في كتابٍ مهمٍ للغاية عنوانه “أرض الميعاد”، وتوصل لنفس القناعات عالم النقد الأثري الإيرلندي الأمريكي جون دومينيك كروسان حول الرابطة الوهمية بين “الوعد التوراتي”، وما توصل له البحث الأثري المعمق في القدس وفلسطين. وهذه بعض الدلالات والمؤشرات، التي تجعلنا يا حضرة البابا نؤكد على أهمية الإنصاف والميل للحقائق التاريخية المبنية على الأدلة العقلية والمنطقية، بأن شعب فلسطين هو شعب أصيل وصاحب حق تاريخي، يجعله يتمسك بأرضه، ويدافع عن عِرضه ومقدساته، وتجعلنا نبرر لهم تمسكهم بذلك الإرث الحضاري الإسلامي والمسيحي في القدس وفلطسين أمام الاحتلال الذي بنى كل رواياته على حجج وبراهين واهية ولا أساس لصحتها.
يا حضرة البابا: إن الظروف الإنسانية الصعبة التي يمرُّ بها الشعب الفلسطيني تقتضي منكم من منطلق إنساني وأخلاقي التدخل ل:
- رفض ما يقع على المدنيين الأبرياء في فلسطين وغزة، وأهمية حمايتهم بعيداً عن ساحات الحرب.
- رفض وإدانة الانتهاكات اللا إنسانية، من تدمير المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات ومراكز الدفاع المدني والمخابز ومحطات الكهرباء والطرق الحيوية، ومحطات المياه والأحياء السكنية الآمنة. وحماية مراكز إيواء النازحين المدنيين “الأونروا”.
- رفع الحصار الظالم عن أهل غزة، والمستمر منذ عام 2006 وحتى الآن. وإنهاء المعاناة الإنسانية لشعب فلسطين بشكل عام.
إن رسالتنا هذه يا حضرة البابا، لا نُرسلها دون معطيات علمية وتاريخية، ورؤية تؤسس لقِيم التعاون والحوار والتسامح، ونحن لدينا رؤيتنا المتكامله حول دعوة المسيح (عليه السلام) في تصديه للظلم والإفساد، ومنهج الإسلام في تحقيق السلام والعدل والتآخي الإنساني، ولدينا إيمان بدعوة الأنبياء الملوك داوود وسليمان (عليهما السلام)، وكما الأدلة دامغة على الحق الفلسطيني في أرض فلسطين، وهذه القناعات والأسس، تجعلنا مستعدون للتفاهم والحوار بين الثقافات والحضارات والمعتقدات بدلاً من الرؤية الأحادية العدوانية، التي كلفت البشرية أنهاراً من الدم، وتركت آثاراً نفسية واجتماعية ومادية، وحلّت الخراب والخوف والعنف في أرجاء واسعة من المعمورة، وقطعت أواصر التواصل والتقارب بين الشعوب والثقافات، وهو ما يعارض دعوة المسيح عيسى (عليه السلام)، والرسالة المحمدية خاتمة الرسالات السماوية في السلام والمحبة والتعاون والاستخلاف، وعمارة الكون.
والحمد لله رب العالمين
كتبه
الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
نائب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
07 ربيع الآخر 1445ه/ 22 أكتوبر 2023م