مقالاتمقالات مختارة

رسالة ابن تيمية إلى الشيعة في العراق (٢)

رسالة ابن تيمية إلى الشيعة في العراق (٢)

بقلم عبد الرحمن عبدالله الجميعان

ثمة أمر ينبغي التفطن له عند قراءة تراث ابن تيمية، قد يلاحظه من يتمعن في كتبه ورسائله، وذلك أنه رجل يُسأل كعالم مشهور أطبقت سمعته آفاق السماء. وثانيا أنه لا يدع سائلا إلا ويجيبه في أي أمر فقهي أو عقدي أو غيره من شؤون الدين والحياة. وثالثا: أنه يعطي الجواب للسائل بحسب أهميته، فقد يجيب بجواب لا يأخذ أكثر من سطر أو أكثر، وقد يجيب بكتاب كما في المنهاج أو الدرء، وذلك يعتمد على الأهمية، وخاصة إذا كان يمس أصول الدين والإيمان، فتراه يسهب في الرد والتوضيح، لأن أمر الدين وأصوله عنده من أهم المسائل التي ينبغي على العالم أن يوضحها ويبينها ويشرحها للناس، لأنها مدعاة للتفسيق أو الزندقة أو التكفير. من هذه المنطلقات الهامة، أرى أن الرسالة التي بين أيدينا، تأخذ أهمية خاصة لأنها مرسلة إلى من في العراق، بلد الخلافة العباسية، التي أسقطها التتار، وعاثوا فيها فسادا، فلا بد من إعادة التوازن وتصحيح الأفكار، بعد الكارثة.

نعود للرسالة، فنقول: معلوم أن الشيعة على اختلاف فرقهم، وتشتت طرق تفكيرهم ومعتقداتهم، يعتمدون في مصادرهم التشريعية والفقهية، على ما سمي بـ “مدرسة أهل البيت”، وبغض النظر عن مدى صوابية استمدادهم من هذه المدرسة، أو عدمه، ومدى دقة الفقه المأخوذ عنها، والمتصل إليهم، إلا أن المعول عليه في هذه القضية كلامهم الذي به يدينون وعليه يعتمدون وبه يتفقهون. لذلك نرى الشيخ، يهتبل الفرصة والمناسبة، لينفذ إلى صلب القضية التي يريد تأكيدها وعرضها، ونلاحظ أنه لم يترك منفذا ينفذ من خلاله إلى تصحيح الانتماء لهذه المدرسة، إلا ويطرقه، مع تعظيم سادتها، وعلمائها وكبرائها، ومحاولته سلوك طرق أخرى، اعتمادا على طريقته هذه ليعدل ويصحح ويصوب، محاولا جمع شظايا الصورة لعرضها من زاوية أخرى، هي أكثر مصداقية وصحة، كي تتطابق مع معتقد الأمة، ولا تنفر عنها، ولتشكل وحدة منصهرة، ومختلفة كل المخالفة عما سبق.

نلاحظ أول ما نقرأ في الرسالة، أن الشيخ يستدل بالأحاديث التي رواها الإمام علي رضي الله عنه في الباب، ثم لا يترك أثرا من آل البيت إلا ويستدل به في القضية المطروحة، لإقناع السائل ومن وراءه، كما مر معنا آنفا. كذلك، رأينا أن الإمام ابن تيمية، يكتب مقربا أهل البيت من الجميع، فنراه يدمجهم مع الأمة في عقيدتهم، من جانب، وفي الجانب الآخر، نرى تقديرهم واحترامهم وضمهم مع الصحابة والتابعين، كأمة واحدة لا يختلفون في المعتقد، ولا يتنافرون، كما لا حظنا ذلك في النص الآنف الذكر.

ومما هو جدير بالذكر والتنويه، من عمل ابن تيمية مع أهل البيت، تعظيمهم وتقديرهم، وإعطائهم المكانة اللائقة بهم في الإسلام وموقعهم بين الأمة، مع إضفاء الألقاب العظيمة التي يستحقونها عليهم، كما قال عن علي رضي الله عنه “أمير المؤمنين” في أكثر من موضع، وذكره في عرضه للسير قائلا (لا سيما سيرة أمير المؤمنين الهادي المهدي) ص٨٤، بل لا يقتصر على ذلك، إنما كان يسمي بعضهم أئمة أهل البيت مثل الصادق وزين العابدين والباقر كما في ص٨٨، وكذلك يثني على الحسين ويعد شهادته كرامة ليرفع الله تعالى منزلته عنده كما في ص٩١، وأيضا لاحظناه عند ذكره علي بن الحسين رضي الله عنه : يمدحه بقوله (علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام) ص٧٦، وفي ذلك كله تطييب للقلوب، وتقريب لها على الدين وتوحيد الأمة.

مكانة الصحابة نقلا وعقلا:

مع ذكره وتقديره لأهل البيت والقرابة، لا ينسى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يباشر ذكرهم مباشرة، بل يمهد لذكرهم، كالتوطئة للقضية ليتقبلها الطرف الآخر بأريحية، فيأتي على آية الفيء التي في سورة الحشر والتي تقول:(ما أفاء الله على رسوله) ، ثم يذكر بأن أصناف الفيء ثلاثة بناء على ذكرهم في السورة وهم ، ١-مهاجرون أخرجوا من ديارهم إيمانا وجهادا في سبيل الله، ٢- أنصار ناصروا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين ونصروا الله ورسوله، ثم يعرج على تفصيل الصنف الثالث، لأنه هو المعني عنده في الحوار، ،٣-هم الذين جاءوا بعد هذين الصنفين زمنيا، دون تحديد، ولهم صفة محددة ذكرتها الآية بوضوح، فيتكأ على منطوقها، ليخرج بقاعدة مفادها: (أن الفيء حصل بجهاد المهاجرين والأنصار، وإيمانهم وهجرتهم، ونصرتهم، فالمتأخرون-وهم الصنف الثالث- إنما يتنالونه مخلفا عن أولئك، مشبها بتناول الوارث ميراث أبيه….)، وهنا استلالة رائعة، وقياس محقق، لأنهم وارثون هذا الفيء، ولكن بشرط (الموالاة) والمحبة والاستغفار لمن سبق، فيقول: (فمن لم يكن مواليا له -الأب- لم يستحق الميراث، فلا يرث الكافر المسلم، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم، خرج عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء، حتى يكون قلبه مسلما لهم، وداعيا لهم….)، وهو هنا لم يخرج عن منطوق الآية ومفهومها، ليضرب تطاول البعض على الصحابة وسبهم.

المسلم بين الذنب والمعصية والمغفرة:

معلوم أن كل بني آدم خطاء، وأن الله تعالى جعل كلهم مذنبين بتفاوت، ولا يسلم آدمي من ذنب، وأن أهل السنة لا يكفرون بذنب، ولا يخلدونه في النار، بل قد تتناوله الرحمة في الدنيا والآخرة، فهنا مع هذا السياق، ومع سياق الفيء، يقول شيخ الإسلام: (ولو فرض أنه صدر من واحد منهم-الصحابة- ذنب محقق فإن الله يغفره له ١-بحسناته العظيمة، أو ٢-بتوبة تصدر منه أو ٣-يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته، أو ب٤-شفاعة نبيه..)، وهكذا، فهذا ليس مجال الحكم من البشر، وإنما لله وحده تعالى.

وكمقارنة، بين فعل حاطب وبين عموم الصحابة رضي الله عنهم، واشتراكهم في اقتراف الذنب، يذكر أولا قصة (حاطب بن أبي بلتعة) في رسالته إلى أهل مكة وقت الفتح، على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيضع فعل حاطب العظيم الخطأ أمام أخطاء الصحابة، التي لا تقترب من فعل حاطب رضي الله عنه، خطورة واعتقادا، وفق المنظور النصي للمعصية والمغفرة، ثم لا ينسى أن يقارن أيضا مع الخوارج وأفعالهم العظيمة المكفرة، ثم يضع قانونا (فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين-قتال الخوارج- وأصحابه وغبطه به من لم يشهده، مع ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته حب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه اللهم إني أحبه، وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع حروبه) ص٨٣، تأمل العبارة طويلا، هو هنا يريد أن يقول أن علي رضي الله عنه، قد اغتبط وسر من قتل الخوارج، في ذات الوقت الذي ساءه من قتال إخوانه في الجمل وصفين، ليؤكد على أن الإمام كان يحب الصحابة، ويعظمهم، ولكن الفتن عصفت بهم، فكان ما كان! وهذه حقيقة واضحة لمن قرأ وتأمل التاريخ، فعلي لم يسره القتال في المعركتين، بينما هو كان يستبشر ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم من قتل الخوارج! هكذا يمضي في تبيان أمثال هذه القضايا المهمة، وقد يكون لنا لقاء ثان مع هذه الرسالة المهمة لنستوفيها حقها من العرض.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى