ردود شعبية متواضعة أمام هجوم التطبيع .. لماذا؟
إعداد ماجد أبو دياك
لا شك أن للجماهير العربية كلمتها أولاً وأخيراً، وإن تسببت ظروف وضغوط معينة في إضعاف حركتها، فإن هذه الحالة تظل مؤقتة لا دائمة، في أمة حية وذات تاريخ طويل في البطولات وتحدي الظلم والظالمين ومواجهة الاعتداءات الخارجية والتصدي لها.
أثارت اتفاقية التطبيع المذلة التي أبرمتها الإمارات مع الكيان الصهيوني الاستنكار والاستهجان في العالم العربي، خصوصاً أنها جاءت في ظلّ استمرار حكومة الكيان في إرهابها ضد الشعب الفلسطيني، ووقفها المفاوضات مع السلطة الفلسطينية على أساس اتفاقات أوسلو، وتصعيدها سياسة الاستيطان والمصادرة للأراضي الفلسطينية ومحاولاتها تهويد مدينة القدس المحتلة.
ولعل المدلول الأهمّ في التطبيع الإماراتي هو المسارعة بالتنسيق الأمني والاقتصادي والإعلان عن زيارات رسمية متبادلة، وفتح خطوط الطيران المباشر لمواطني البلدين وقيام شباب إماراتيين بمبادرات تجاه الصهاينة بما يؤدي إلى تطبيع شعبي واسع لم نشهد له مثيلاً في السابق رغم توقيع الأردن ومصر اتفاقات سلام مع إسرائيل، إذ بقي التطبيع الشعبي بل وحتى الرسمي في حدوده الدنيا.
ردود شعبية متواضعة
وكانت ردود الفعل العربية الشعبية قوية في حدة تعابيرها وتتناسب مع حجم الجريمة المرتكَبة بحق الأمة، التي شاركت فيها البحرين لاحقاً، إلا أن حجم الاحتجاجات على الأرض لم يكن بالقوة الكافية مع خروج عدد من المسيرات في بعض البلدان العربية تضمنت في كثير منها إحراق صور زعماء الإمارات والبحرين وهتافات مناوئةً لهم.
وبالنظر إلى حجم الجريمة المرتكَبة بحق فلسطين وقضيتها فقد كانت ردود الفعل الشعبية ضعيفة في امتدادها الجغرافي، آخذين بعين الاعتبار طبعاً أن ممارسة حرية الاحتجاج ليست متاحة في العديد من الدول العربية. واللافت للانتباه أن حركة الجماهير في فلسطين المحتلة -المتضررة الأساسية من خطوتي الإمارات والبحرين- كانت دون المستوى المطلوب وضعيفة الزخم الذي اعتدناه خصوصاً في قطاع غزة!
وسائل التواصل .. دور محدود
وفي المقابل، فقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتوتير تصعيداً ملحوظاً ضد التطبيع وممارسيه مع صدور عدة وسوم مثل “التطبيع خيانة” و”فلسطين قضيتي” وغيرهما من الوسوم الغاضبة.
إلا أن هذه المنصات لم تشهد دعوات للتحرك والتصعيد، وتمكن العديد من التنفيس عن غضبهم وسخطهم دون أن يكون انعكاس كبير على أرض الواقع.
ومن المعلوم أن وسائل التعبير المؤثرة والتي تصل رسالتها بقوة إلى المعنيين هي تلك التي تحصل على الأرض ويشارك فيها مختلف فئات الشعب، مع عدم التقليل من أهمية وسائل التواصل التي يجب أن ترتبط بدعوات للتحرك على الأرض، وهو الأمر الذي رأينا فاعليته في الثورة المصرية، ودعوات المقاول والفنان المصري محمد علي الأخيرة للجماهير للنزول إلى الشوارع والاحتجاج ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وربما ساهمت وسائل التواصل بشكل غير مقصود في التنفيس عن غضب الناس وأراحتهم من ثقل التعبير عن موقفهم على الأرض بما قد يتضمنه ذلك من دفع ثمن عالٍ بالملاحقة والاعتقال أو ربما التعرض لأذى تفريق المظاهرات بالقوة!
إحباط وتراجع
غير أن هزالة الاحتجاجات وعدم تناسبها مع خطورة ما يجري يستدعي تحديد الأسباب التي تقف وراء ذلك في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها القضية الفلسطينية، خصوصاً أن حالة التطبيع جوبهت برفض سياسي قوي من كل قوى الشعب الفلسطيني الذي اعتبرها خيانة وطعنة له في الظهر.
وفي مقدمة هذه الأسباب برأينا حالةُ الإحباط واليأس مقرونة بالرعب والخوف من بطش العديد من الأنظمة العربية، خصوصاً تلك التي قررت السير في ركب مؤامرة التطبيع والترويج له، أو التي تتولى قمع شعبها المطالب بالحرية، أو الأنظمة التي تقوم بالممارستين معاً.
ومنذ الإعلان عن صفقة القرن اتخذ بعض الأنظمة العربية موقفاً مؤيداً لها، فيما تولى بعضها التسويق لها رغم المعارضة الشعبية، إذ باتت مواقف هذه الدول المتآمرة تزكم الأنوف وتبثّ جرعات التحدي لإرادة الأمة وتشيع اليأس في شعوبها. ويبدو أن استمرار هذه الحالة مقروناً بتردي أوضاع الدول التي شهدت ثورات شعبية نتيجة تآمر دول الثورات المضادة جعل خيانة الأنظمة تبدو عاديَّة وغير قابلة للتأثر بالمحيط الشعبي.
ولا شك أن دور القوى السياسية يمثل عاملاً فارقاً في تحريك الشعوب في قضايا الأمة خصوصاً ما تعلق منها بفلسطين، وقد عانت هذه القوى، وعلى الأخص قوى الإسلام السياسي، من بطش وملاحقة شديدة في ظل الحملة الشرسة عليها من قبل دول الثورات المضادة، وأدى ذلك إلى تراجع وضعف دور هذه القوى في تحريك الجماهير.
وتنشغل حواضر الأمة بهمومها الداخلية، ففي مصر تتعرض هذه القوى لبطش السيسي ونظامه في ظل تدهور الحريات والأوضاع الاقتصادية والسياسية، وفي اليمن تتنازع شعبَه التدخلاتُ الخارجية ضد ثورة الشعب التي أطاحت بعلي صالح، وفي سوريا يواصل نظام الإجرام بزعامة الأسد بطشه بالشعب وانتزاعه حريته وكرامته وتسليمه البلاد لإيران وروسيا.
أما في العراق فتعاني من الطائفية البغيضة والفساد المستشري في الطبقة الحاكمة المرتبطة بإيران.
وأينما طفت بنظرك في المنطقة تجد الفساد والأوضاع الاقتصادية المتردية ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه وتضييع حقوق الإنسان الأساسية واقتراف المظالم بما يشبع حالة من الإحباط واليأس لدى الشعوب وقواها السياسية المطارَدة والملاحَقة من الأنظمة.
الموقف الفلسطيني .. حدود الممكن
وأضف إلى كل ذلك، أن الشعب الفلسطيني صاحب القضية يعاني من سلطة ارتبطت مع الاحتلال باتفاقيات ثم هي تتباكى من تطبيع بعض العرب، في نفس الوقت الذي تعمل فيه على إحباط وإضعاف المقاومة في الضفة المحتلة!
وتسعى هذه السلطة لتحجيم ردود الشعب الفلسطيني ومنعه من الاحتكاك مع الاحتلال حتى لا تُغضِب المحتل، وتحت شعار المقاومة الشعبية السلمية يتم منع كل أشكال المقاومة الفعالة والتحركات الجماهيرية العنيفة!
أما في غزة فيضيق الحصار على الفلسطينيين ويخنقهم ويدفع المقاومة إلى تكييف دورها بما يمنع الاعتداءات الصهيونية وبما يحول دون نشوب حرب جديدة مع الاحتلال.
ولذلك فإن دور الشعب الفلسطيني في تحريك الأمة من خلال الاشتباك مع المحتل وتقديم التضحيات يشهد تراجعاً في المرحلة الحالية، وإن كان لا يزال هذا الدور حاضراً بقوة في مواجهة اعتداءات المحتلين ضد الشعب الفلسطيني ومقدساته.
ولكن بوصلة الأمة ثابتة
ومع كل المعوقات التي تُضعِف حراك الأمة ضد التطبيع مع الكيان، فإن حالة الرفض لذلك ستظل مستمرة بل ومتمددة، وحالة السخط بلا شك متصاعدة وسنظل نجد لها تعبيرات قوية بين الفينة والأخرى، وذلك لأن الخيانات التي يرتكبها البعض من الحكام تتصادم مع فطرة الشعوب ومعتقداتها وتضرب في إيمانها بقدسية فلسطين والقدس والمقدسات.
وكما أن موجات الثورات العربية ستظل تتجدد رغم الانتكاسات الأخيرة، فإن مواجهة التطبيع وكل أنواع العلاقة مع المحتل والتفريط في القضية الفلسطينية والتآمر عليها سيظل حاضراً ومستمراً بوتائر مختلفة.
ولا شك أن للجماهير العربية كلمتها أولاً وأخيراً، وإن تسببت ظروف وضغوط معينة في إضعاف حركتها، فإن هذه الحالة تظل مؤقتة لا دائمة، في أمة حية وذات تاريخ طويل في البطولات وتحدي الظلم والظالمين ومواجهة الاعتداءات الخارجية والتصدي لها.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)