رحيل علامة العربية الدكتور محمد بن عبدالمعطي الأزهري
بقلم د. محمد عاطف التراس
ترجَّل عن عالَمِنا علَّامةُ العربية البصير فضيلة الأستاذ الدكتور المتفنِّن: محمد بن عبدالمعطي، مدرِّس اللُّغويات بكلية اللغة العربية بمدينتنا العامرة إيتاي البارود، جامعة الأزهر.
وُلِد الشيخ في الثامن من رجب 1370هـ الموافق 1951م تقريبًا، وعاش حياته الحافلة بالعلم والدعوة إلى الله بمدينة طنطا محافظة الغربية بمصر، وتُوفِّي يوم الاثنين 14 محرم 1440هـ الموافق 24 سبتمبر 2018م.
ولقد كان رجُلًا من رجالات العربية، لم تقع عيني على سَميٍّ له في اللغة بفنونها، وكان رحمه الله يحفَظ القرآن كاسمه، لا يكاد يُسأل في مسألة إلا ويسرد شواهِدَها من القرآن والحديث والشعر، ويَستطرد شارحًا ومُعقِّبًا، كأنك تَغرف من بحرٍ لا تُكدِّره الدِّلاءُ.
وكان لا يَمَلُّ ولا يُمِلُّ، كنتُ كغيري أقرأ عليه في حِلِّه وتَرحاله، قرأتُ عليه طرفًا من شرح الأشموني على الألفية، وطرفًا من رسالتي في الماجستير، وطرفًا من رسالتي في الدكتوراه، وكان يأنس بصُحْبتي أيَّما أُنْسٍ، ويسأل عني دومًا، رغم انشغالي عنه وانقطاعي لعملي، بل كان يتفقَّد أحوالي الشخصية، ويدعو لي ولزوجتي ولبُنيَّتي، كنتُ أتَّصِل عليه أُكلِّمُه ساعاتٍ طويلةً، يسمع ويُدقِّق، ويتعقَّب ويُضيف، ويُرشد رحمه الله رحمةً واسعةً.
وكان رحمه الله خفيفَ الظل، طيِّبَ المعشر، صاحب دُعابة رغم عُلوِّ كعبه في فنون العربية قاطبةً، صاحب هيبة بين طُلَّابه ومُريديه، وقلَّما يجتمعانِ في شخص!
ذات يوم حدَثَتْ قصةٌ طريفةٌ تُبيِّن مدى حرصه رحمه الله على اللغة العربية الفصحى، وهِمَّتِه في نَشْرها، كنا نقرأ عليه من شرح الأشموني بمسجد قباء بمدينتنا العامرة إيتاي البارود، إذ دخل علينا حجرة الإمام رجلٌ ليُضيء مِصْباحَ المحراب من داخل الحجرة، وإذا به رحمه الله – كعادته في دعوة المسلمين قاطبةً لدراسة اللغة العربية، حتى ظننتُ أنه ربما يدعو غير المسلمين لها – يسأل الرجل قائلًا:
ما اسمُكَ؟
♦ ردَّ صاحبنا: فوزيْ (كذا بتسكين الياء).
♦ فقال رحمه الله: ما مؤنَّثُكَ؟
فبُهِتَ الرجُل فاغِرًا فاهُ، وكان تقريبًا في سنِّ الخمسين، يظهر عليه أنه من أهلنا من الفلَّاحين.
♦ فردَّ رحمه الله: مؤنَّثُكَ (فوزيَّة) بتشديد الياء، هلَّا شدَّدْتَ ياءَكَ يا (فوزيُّ)!
وإذا بنا جميعًا نكتم الضحك حرَجًا من الرجل، ونتوارى من سماعه رحمه الله لصوتنا، مهابةً له وإجلالًا لمنزلته العليَّة، وإن كان محبًّا للمُزاح صاحب دُعابة.
♦ ثم سأله رحمه الله ثانيةً: ما عملُك يا فوزيُّ؟
♦ فوزي: مدير مدرسة ابتدائي.
♦ فقال رحمه الله: ما شاء الله، أنت من رجال التعليم، هلا تعلَّمْتَ النَّحْوَ يا فوزيُّ، حاوِلْ أن تحضُر معنا!
هكذا أحبابي كان أستاذُنا رحمه الله لا يفتأ يدعو الناس كل الناس لدراسة علوم العربية، ويبذل من وقته وجهده رغم أنه كفيف، ويسافر يقطع المسافات الطويلة لينشر العلم، مقارنةً بغيره من المبصرين الذين ركَنوا إلى الدنيا وزُخرفها، الذين يتكبَّرون على طُلَّاب العلم، ويستنكفون أن يجلسوا بينهم في مسجد بحجة أنه أستاذ جامعي.
وكان رحمه الله لا يَدَعُ خطأ لُغويًّا إلا عقَّب عليه، يحكي الشيخ الدكتور أحمد سمير – وهو من تلاميذه الكُثر – قائلًا: سأل أحدنا: أين تسكُن؟
قال: أبو حُمُّص.
قال له: (فُعُّلٌ) ليست في العربية.
قل: (أبو حِمَّص) فهو وزنٌ من أوزان اللُّغة.
كان رحمه الله – كما قيل في الشافعي – كالشمس للدنيا والعافية للناس! يُضيء للمسلمين طريقهم بعلمه وعمله، كان إمامًا عالِمًا عاملًا، أحسَبه من المجتهدين الربَّانيِّين في علوم العربية، ما كان يدع خطبة الجُمُعة إلَّا مِن عُذرٍ أو مرضٍ، ولقد حقَّ فيه قول شوقي:
شيَّعُوا الشمسَ ومالُوا بضُحاها *** وانحنى الشَّرْقُ عليها فبكاها!
وإن كان رحمه الله قد قلَّتْ مصنفاته لذَهاب بصره، غير أنه كان ذا طُلَّاب كثيرين ينتشرون في ربوع مصر كلها.
فرحمه الله، وأجزَل له المثوبة، إنه بكل جميلٍ كفيلٌ، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
(المصدر: شبكة الألوكة)