رحيل أعرق السياسيين السودانيين في أشد ظروف السودان حرجاً
إعداد أسامة الأشقر
لا يمكنك أن تختزل تجربة إمام الأنصار السيد الصادق المهدي الذي رحل عنا قريباً بأوصاف جاهزة، فالرجل زاخر التجربة عميق الأثر في السياسة السودانية على مدار ستين عاماً أو يزيد.
هو سياسي محترف تخرّج في عائلة سياسية عريقة مزجت بين التصوف الشعبي والنفوذ السياسي والممارسة العملية للعمل السياسي بكل جوانبه في السلطة والمعارضة.
ولأنه سياسي محترف فإنه يمارس السياسة بتكتيك طويل النفَس وثبات مشهود، ويضع بين عينيه رؤيته الاستراتيجية التي لم تهتزّ على الرغم من كثرة الانعطافات التكتيكية الخطرة أحياناً.
مما يميز الإمام الراحل -رحمه الله- أنه فيلسوف مفكر يضع مقدمات بيّنة ويبسطها لجمهوره إذا أراد تأسيس مسار سياسي، ولا يميل إلى الآراء الحاسمة والأحكام الجاهزة المبتوتة في السياسة بقدر ما كان حريصا على وضع اتجاهات ومسارات محددة ذات معالم واضحة، مما جعل بعض خصومه يتهمه بأن موقفه ليس معلوماً فلا هو نعم ولا هو لا، ويسخرون أحياناً بالقول إنه يحسن أن يقول: لعم، وهذه إن صحّت فيه فهي تعني أنه يزِن الأمور ويقدّر ظروفها بحساسية أكثر، ولا يفتح معارك ثانوية يمكن تجنّبها أو تنفيس ضغطها.
ومع أنه مثقف فقيه يغرف من ماعون الثقافة بعمق ويعرف مصادرها ولا يكف عن الاستزادة بالمطالعة، فإنه إذا جلس بين أحبابه من طائفة الأنصار -كما هو المعتاد في وصف كل أنصاري “حبيب”- فإنك تجده يتبسّط لهم في مفرداته وأساليبه ويخاطبهم بالحكمة والمثل الشعبي والحكاية القصيرة الهادفة، فيقترب منهم أكثر كلما التقاهم ويتواضع لهم ويكرمهم، وكان يحب أن يصفه الناس بأنه من رواد الصحوة الإسلامية وحُماة تراثها، وكانت إسهاماته الفكرية في منابر الوسطية تعزز هذا المفهوم وتؤكده، فهو متدين متصوف له أوراده وطريقته داخل التراث المهدي الذي ورثه عن أبيه وجده، وهو رجل سياسي ذو مرجعية دينية.
وفي القضايا الحاسمة التي قد يلجأ بعضهم إلى تدويرها أو تسطيحها أو الانتقاء منها إذا لم يفهم تعقيداتها، فإنه يميل إلى كتابة رأيه بنفسه في أوراق عديدة يشعر فيها أنه أوضح رأيه من كل الجوانب، ويحرص مكتبه النشيط على توزيعها على المعنيين والاطمئنان إلى وصولها.
لم تكن إمامة السيد الصادق لطائفة الأنصار العريضة أمراً سهلاً فقد قاد الطائفة بعد أن فهم حقيقتها، فهي تيار متديّن محافظ وليست حزباً، ومقتضيات التيار تختلف عن مقتضيات الحزب، فجمع بين إمامته للأنصار وكوّن لهم هيئة تدبّر شؤونهم “هيئة شؤون الأنصار” ومنحها كل ما يستطيع من إمكانات، وأنشأ حزباً سياسياً “حزب الأمة” قاده أيضاً مع فريق سياسي متنوع المشارب خاض به دروب السياسة السودانية بكل تعقيداتها، وفي كلا الكيانين استطاع أن يتجاوز الكثير من المطبات الداخلية والاعتراضات التنافسية التي تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى.
ومع أنه من أشد أنصار الديمقراطية والمؤمنين بجدواها، فإنه كان يعرف خصوصية المجتمع السوداني العميق وثقافته الاجتماعية الحاكمة، فتجده يقف في منتصف الطريق إلى الديمقراطية لتعديل المسار أو تصحيح الاتجاه، حتى لو أدى به الأمر إلى العودة من نقطة البداية إذا لزم الأمر، ويمكن أن نفهم ذلك بوضوح في العديد من المحطات التاريخية التي خاضها وكان آخرها الثورة السودانية التي كان حزبه واحداً من صانعيها وقائديها والمؤثرين في اتجاهها.
وكان أبرز مواقفه التي اختتم بها حياته السياسة رفضه للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وحرص أن يكون ذلك الموقف مدوّناً مكتوباً وحرص على تعميمه وشرح رؤيته فيه، ولم يكن ذلك الموقف جديداً فقد حدد موقفه من التطبيع قديماً، وكان يجدده في كل مناسبة بما يعزز قناعته بأن هذا التطبيع يمسّ السيادة ويخترق المجتمع ويضر بالبلد ويزيد العبء الأمني والسياسي عليه.
ومع أن الإمام الصادق عاش معارضاً مدة طويلة من حياته وكان مضطراً إلى العيش في بلدان عديدة لها أغراضها ومصالحها المتضاربة في بلاده، فإنه لم يُحسَب مرة على هذه الجهة أو تلك، وكان حريصاً على اتزان المسافات ويسمح بامتدادات محسوبة صغيرة خارج حدود الميزان في بعض الظروف لا تلبث أن تعود إلى مربعها المتوازن مرة أخرى، وكان يغضب كثيراً من القفزات غير المحسوبة التي يجتهد بها بعض المحسوبين عليه، ويسعى لتفكيك آثارها داخلياً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان في حالة الاستقطاب الخليجية الأخيرة حريصاً على التوازن والحياد الإيجابي، فقد استمر في علاقته الإيجابية مع الإمارات والسعودية وأطلق تصريحات سياسية تدعو لاعتبار وزن تركيا الإقليمي والتاريخي في أي صياغة استراتيجية لمستقبل العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.
ومن المعروف عن الإمام الصادق أنه صريح في صراعاته السياسية المكشوفة، ولا يخشى في ذلك المعارضة الشديدة، ولا يكترث لردود الأفعال التي يمكن أن تحرّكها موجات كلامه ذات السقوف العالية، وهذا جعله محل هيبة واحترام بين خصومه وأعدائه وأصدقائه داخل السودان وخارجه.
رحيل السيد الصادق الإمام سيترك فراغاً كبيراً في السياسة السودانية في ظروف بالغة الصعوبة في مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم تتسم بالسيولة الشديدة والارتدادات الحادة، كذلك فإن ترتيب البيت الداخلي في طائفة الأنصار وفي حزب الأمة يحتاج إلى مخاض صعب مع تعدد الأقطاب والاتجاهات ومراكز القوى التي استطاع السيد الصادق إدارة تقاطعاتها بأقل الخسائر الممكنة، وسيكون الأنصار وحزب الأمة في مفترق صعب إذا لم يستطيعوا إدارة ملف الخلافة في الإمامة والسياسة.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)