إعداد أ. د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
هذه قصةُ طالبِ علمٍ طموحٍ ولد في قرية بني بكر بمدينة النماص قبل مائة عام، بعيداً عن حواضر العلم في زمانه، في بيئةٍ ريفية قروية لم يكن العلمُ وطلبه من أولوياتها، لقسوة الحياة، وقلة الموارد، وغلبة الأمية على المجتمع حينذاك.
إنه محمد بن صالح كدمان بن ردعان البكري رحمه الله، حيث ولد عام 1338هـ، أي قبل مائة عام تماماً في قبيلة بني بكر التي تسكن وسط مدينة النماص اليوم بمنطقة عسير جنوب المملكة العربية السعودية، من قرية “الحارقة” من بني بكر.
وكانت حياة الزراعة والرعي والحياة القروية هي الغالبة على أهل النماص، شأنها في ذلك شأن كل المناطق والقرى على جبال السروات، حيث نشأ في أسرة متواضعة تشتغل بالزراعة والرعي كسائر الأسر في المنطقة، وفي عام 1357هـ تقريباً سافر إلى مكة للحج ربما أو للعمل، غير أنه لقي صديقاً له من أقرانه من بني بكر هو العم غرم بن ظافر بن جاري رحمه الله، كان قد سافر من النماص مع عدد من أقرانه والتحق بالسلك العسكري في مكة المكرمة، فأعطاه غرم مبلغ مائة ريال ليشتري بها غنماً له ويربيها مع غنمه، وقال إذا عدت للنماص واشتريت الغنم فأخبرني برسالة، لأستقيل من العسكرية وأعود للنماص لرعي غنمي والعيش في النماص، ولما عاد محمد كدمان للنماص بحث عن غنم مناسبة، فوجدها في تنومة واشتراها لغرم بن جاري، وطلب من البائع أن يسوقها له إلى النماص، ولم يكن يعلم أنها مصابةٌ كلها أو معظمها بداء الَجَرب، فلما أدخلها بين غنمه انتشر بها داء الجرب وهلكت جميعاً، فكانت هذه الجائحة رغم ثقلها عليه خيرة له، حيث اضطرته للسفر لمكة، وكان ذلك في ذي الحجة عام 1358هـ تقريباً، وكان حديث عهد بزواج، فاضطر بعد هلاك غنمه للسفر إلى مكة، ليلتقي بصديقه غرم بن ظافر البكري ويخبره بما حدث لغنمه ويلتمس منه العذر فيما حدث، ولعله يستطيع سداد هذا المبلغ الذي ذهب في هذه الجائحة دون تعمد منه، ولعله يبحث عن وظيفة يسترزق من ورائها، ولعل مما دفعه للرحيل أيضاً الجوع والقحط والفقر الذي أصاب أهل النماص في ذلك الزمن، مما دفع كثيرين للرحيل بحثاً عن لقمة العيش في ذلك الزمن الصعب، الذي كان يسميه آباؤنا “زمان الجوع” من شدة قسوته، وانقطاع المطر في بلاد السراة ينعكس على جميع جوانب الحياة، فتجف الآبار والأودية، وتهلك المواشي، وتتوقف الزراعة، شأنها في ذلك شأن كل البيئات الزراعية المعتمدة على المطر.
سافر من النماص على قدميه حتى وصل مكة والتقى بصاحبه وأخبره بالخبر، فرحب به وبحثوا له عن عمل في مكة فلم يجدوا، ووجدوا فرصة عمل في السلك العسكري في مدينة جدة، وكان ذلك في أول عام 1359هـ ومكة والحجاز في ذلك الوقت قد دخلت تحت الحكم السعودي منذ ثمان سنوات فقط، والملك فيصل رحمه الله هو الذي كان يشرف على الحجاز نيابة عن والده الملك عبدالعزيز رحمهم الله.
وقد بدأ العمل في مدينة جدة، واستطاع جمع بعض المبلغ من المال، وبعث بشيء منه لغرم بن جاري في مكة كقضاء لبعض المبلغ الذي ذهب، وأخبره في رسالة أرسلها له أنه بلغه أنه رزق بمولود في النماص في أوائل عام 1359هـ.
ويبدو أن هذا الطالب الطموح قد جلس في مجالس العلم في جدة وفي المسجد الحرام بمكة المكرمة وسمع أهل العلم في مجالسهم ودروسهم فتاقت نفسه لطلب العلم، والانقطاع له، والاستزادة منه، فقرر الاستقالة من الوظيفة العسكرية، والتفرغ لطلب العلم والدراسة، وقد بدأ في جدة بتعلم القرآن والقراءة، ومبادئ العلوم، ثم يبدو أنه سمع من بعض الطلاب من أهل فلسطين في تلك المجالس بجدة ومكة المكرمة عن المدرسة الأحمدية الشهيرة بمدينة عكا بفلسطين، وأنها مدرسة نظامية يوجد فيها علماء متفرغون للتعليم، مع توفر الإسكان والإعاشة، فتاقت نفسه للرحلة لطلب العلم في تلك المدرسة في مدينة “عكا” بعد أن مكث في الحجاز مدةً ليست طويلة. وقد أخبرنا بذلك صاحبه في تلك المرحلة عبدالرحمن بن قروش الشهري من قرية آل زينب بالنماص.
وحزم أمره وانطلق من مكة المكرمة إلى “عكا” على قدميه حوالي عام 1361هـ بعد أن أخذ عنوان المدرسة الأحمدية بعكا من أصحابه الذين لقيهم في المسجد الحرام، وقد سلك طريق قطار الحجاز الذي أنشأته الدولة العثمانية في أواخر أيامها، وكان مشروعاً عظيماً في زمانه ينطلق من مدينة أسطنبول عاصمة الدولة العثمانية حتى المدينة المنورة مروراً بدمشق والقدس وغيرها من مدن الشام الكبرى، وكان طريق القطار حينذاك لا تزال بقاياه ظاهرة يمكن السير بجانبه حتى لا يضل المسافرون عن الطريق، وكانت رحلة شاقة طويلة مضنية، كان يهدف من ورائها إلى طلب العلم الذي يستحق أن يبذل في سبيله كل غالٍ نفيس من الوقت والمال والجهد وهكذا فعل رحمه الله، وقد رافقه في رحلته رفقة من بني شهر غير أنهم سافروا طلباً للرزق ولم يرحل لطلب العلم منهم سواه، وكان هو الذي ينفق عليهم طيلة تلك الرحلة حسب كلام بعضهم.
وقد لقي في طريقه نفراً من بني شهر وغيرهم، فتعارفوا ورأى الحاجة ظاهرة على هيئاتهم فأقرضهم مبلغاً من المال، وكتب ذلك في ورقةٍ وصلت لأسرته بعد ذلك، ونشرت في بعض الكتب التي أرخت لتلك الحقبة، كتب فيها “بسم الله الرحمن الرحيم وبعد أخبركم بأني صادفت في طريقي يوم ذهبت فلسطين ثلاثة أشخاص، اثنان منهم من بني شهر وواحد من خثعم ووجدتهم لا يملكون شيئاً من الدراهم فأقرضتهم مبلغ ستة وأربعين ريالاً عربياً، منها على فايز بن محمد من أهل الظهارة تسعة وعشرين ريالاً، وعلى علي بن عثمان من أهل الخاضرة عشرة ريالات عربي، وعلى سعيد بن حنش من خثعم من أهل الفوقاء سبعة ريالات عربي، خذوها منهم وسلموها عبدالرحمن بن صالح. إلا إذا كانوا فقراء فلا تأخذون منهم شيئ. المعرّف محمد صالح عبدالله ردعان الشهري من بني بكر”، وقد ذكر بعض من نشر هذه الوثيقة أنها بتاريخ 1372هـ، وهذا غير دقيق، بل إنني أقدر أنها قبل ذلك بعشر سنوات أو أكثر، حيث غادر هو الحجاز عام 1361هـ وكانت هذه القصة في تلك السنة، ولعله كتب الرسالة في وقتها، أو بعدها بعام مثلاً عام 1362هـ.
ويظهر من خلال هذه الورقة حسن خطه ووضوحه وقلة الأخطاء فيه، مع بعض الأخطاء النحوية التي تدل على المستوى المتوسط الذي بلغه في طلبه للعلم وقدرته على الالتزام بقواعد النحو في الكتابة، وهو لم يتعلم إلا في جدة بعد قدومه إليها عام 1359هـ.
ويظهر من هذه الرسالة كرمه وسماحة نفسه، مع أنه حديث عهد بقدوم من النماص، وقلة ذات يده، وبالرغم من ذلك عمل مدةً في جدة حتى تمكن من التزود بشيء من المال استعان به على الرحلة لفلسطين وهو غريب منقطع يسافر إلى مكان بعيد جداً لا يعرف فيه أحداً، تاركاً خلفه في النماص زوجته، وابنه الوحيد “علي” الذي لم يره، وقد وصلته رسالة تخبره بأنه قد رزق بمولود، وأخبر بذلك أصحابه في مكة، ولعله بعث معهم لزوجته وأسرته مبلغاً من المال، وأبلغهم بعزمه على السفر لطلب العلم إلى فلسطين. وعبدالرحمن بن صالح الذي طلب تسليم المال إليه هو شقيقه، وكان مريضاً، سافر بعده إلى مكة المكرمة، ومرض ودخل إلى مستشفى إجياد بجوار المسجد الحرام، وتوفي به بعد سفر شقيقه محمد بقليل عام 1363هـ رحمهم الله جميعاً.
لقد سافر الشاب محمد بن صالح بن ردعان من النماص طلباً للرزق، ثم تغيرت أهدافه وارتقت نحو طلب العلم بعد أن ذاق حلاوة العلم، وجلس في مجالسه، ولما رأى المستوى العلمي دون طموحه سافر لفلسطين وفي نفسه آمال عريضة بأن يطلب العلم ثم يعود إلى أسرته في النماص وقد حاز علماً وافراً شأنه في ذلك شأن كل علماء الإسلام الذين رحلوا جميعاً في طلب العلم، ودونت قصصهم في كتب التراجم، والذي يطالع في قصص رحلات العلماء في كتب التراجم يجد قصصهم تشبه قصته في تفاصيلها، والذين بلغتنا تراجمهم وقصصهم قليل من كثير من علماء الإسلام رحمهم الله.
إنَّ قصص العلماء المسلمين في طلب العلم مليئة بالطموح والصبر والمعاناة والفقر والحاجة، وقديماً قيل: من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرق. وكانت هذه الهمة العالية التي دفعته للرحيل لطلب العلم نادرةً جداً في بيئته، فقد اشتغل معظم – إن لم يكن كل- أقرانه بشؤون الحياة المعتادة، وبعضهم عاد للنماص ليشتغل بالزراعة والحرث وإنفاق كل ما ادخروه من عملهم في مكة وجدة وغيرها في الزراعة وبناء البيوت والزواج ونحو ذلك، فماتوا رحمهم الله ولم يتعلم أكثرُهم القراءةَ والكتابة، في حين كانت همته العالية دافعةً له لطلب العلم والاستزادة منه في جدة والمسجد الحرام وعلى يد علمائه، ثم الرحلة بعد ذلك لفلسطين.
وصل بعد رحلة شاقة متعبة إلى مدينة “عكا” وهي بلدة ساحلية تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط في فلسطين، بين حيفا الفلسطينية اليوم والناقورة اللبنانية، وهي من أجمل مدن فلسطين، ولها في تاريخ الدولة النورية تاريخ عريق، ولها في أيام الحروب الصليبية قصص كفاح عظيمة، وفي عهد الدولة العثمانية كذلك.
استقر به المقام في مدينة عكا وبدأ في طلب العلم هناك، بالمدرسة الأحمدية، ويسميها بعضهم “المعهد العلمي الديني الثانوي” وهي مدرسة ومعهد إسلامي كبير ثانوي تتبع للأوقاف، كما تتبع للمجلس الإسلامي الأعلى، وجميع الطلبة المنتسبين إليها من المسلمين، وقد أنشأها أحمد باشا الجزار حاكم ساحل فلسطين والشام لأكثر من ثلاثين عاماً، وذلك عام 1196هجري، وأنشأ لها مسجداً، ويتبع لها ما يقارب خمسين غرفة سكنية للطلاب، وحاول أن تكون مدينة علمية على غرار الأزهر بالقاهرة، وأجرى عليها المخصصات والرواتب والمكافآت للمعلمين والطلاب، واشترط أن تكون مدرسة دينية علمية، ويدرس فيها الطلاب من الصف الخامس حتى المرحلة الثانوية، وتشتمل مكتبتها على مخطوطات كثيرة نفيسة (ينظر:المدارس الإسلامية والوطنية في فلسطين في حقبة الانتداب البريطاني 1339 – 1368هـ للدكتورة فاطمة الوحش).
ولم تصلنا أخبار كثيرة عن مرحلة طلبه للعلم في عكا، سوى أنه استمر في طلب العلم بعكا منذ وصوله حوالي عام 1362هـ حتى وقعت الكارثة باحتلال اليهود لفلسطين عام 1367هـ الموافق 1948م، فتشرد أهلُ عكا وحيفا ويافا وما حولها من المدن الفلسطينية الكبيرة، ولم يعد في المدرسة من يقوم بالتعليم، وعاث اليهود قتلاً وتشريداً للمسلمين في فلسطين، ونهبوا المخطوطات من المكتبة الأحمدية، في قصة من القهر والغبن والظلم والانتهاك لكل الحقوق لا زلنا نعيش فصولها حتى اليوم، ويقيننا بالنصر كبزوغ الفجر.
وأثناء دراسته بعكا كان يدرس معه بعض الطلاب من مصر، وبعد احتلال اليهود لعكا غادروا إلى مصر، وكانوا يراسلونه ليلحق بهم للدراسة في الجامع الأزهر بالقاهرة، وأن هناك فرصة لطلب العلم والدراسة هناك، وأنه يوجد سكن وإعاشة للمغتربين من طلاب العلم، فانطلق من عكا وحيداً إلا من طموحه الذي يدفعه للمعالي عبر المدن والقرى الفلسطينية متجهاً إلى الجامع الأزهر بالقاهرة، ولم يكن معه إلا جعبته وكتبه على ظهره يحملها حتى ترك ذلك أثراً في ظهره وكتفه، كان سبباً في مرضه بعد ذلك ووفاته.
ولما أراد الدخول إلى مصر استوقفه الجنودُ الإنجليز ومنعوه من دخول مصر لعدم حمله أي إثبات يدل على هويته، فرجع لفلسطين يبحث عن مخرج، وكان المزارعون من سيناء يعبرون إلى رفح وغزة لبيع منتجاتهم من البطيخ وغيره ويعودون يومياً.
فقيل له: إن هؤلاء المزارعين المصريين الذين يأتون لبيع البطيخ يمكنهم أن يحملوك معهم كعامل من العمال، ترتدي ملابسهم وتدخل معهم، فاتفق مع أحدهم على مساعدته بالدخول لمصر بهذه الحيلة المصرية الطريفة، وهكذا كان.
وكان يسير ويسأل عن الطريق حتى وصل إلى القاهرة ووصل للجامع الأزهر، ويبدو أن أصحابه هناك استقبلوه وساعدوه للالتحاق بالجامع الأزهر والانضمام لصفوف الطلاب في ذلك الوقت عام 1367هـ.
بقي يدرس في الجامع الأزهر أربع سنوات منقطعاً لطلب العلم والدراسة مع زملائه من أنحاء العالم الإسلامي الذين يتوافدون للدراسة في الجامع الأزهر العريق، ولعله انضم للمرحلة الثانوية في الأزهر بعد اختباره، حيث إن دراسته في جدة ثم في المدرسة الأحمدية بعكا قد أهلته للالتحاق بالمرحلة الثانوية الأزهرية، وقد استمر بها حتى تخرج في من الأزهر في شعبان عام 1370هـ كما كتب ذلك في رسالةٍ لأسرته في النماص.
وفي تلك الأثناء قامت حركةٌ جهادية عظيمة لمحاربة اليهود المحتلين لبلادنا شارك فيها أهل فلسطين أولاً ثم المسلمون في بقية دول العالم الإسلامي القريبة من فلسطين، فقد تنادى المسلمون للجهاد، وجاءوا بصدق للتصدي لليهود، وكانت الدول العربية حينها قد جيشت جيوشها لمحاربة اليهود في ظروف بالغة الصعوبة، حيث كان معظم تلك الجيوش في بداية تكوينه، والخبرات العسكرية لم تكن متقدمة.
وكان من بين تلك الجيوش الجيش السعودي بقيادة وزير الدفاع الأمير منصور بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، وسافر المشاركون من الجيش السعودي من جدة إلى مصر عبر البحر الأحمر، وبعضهم عبر الجو، ووصلوا مصر واستقروا في منطقة قريبة من غزة بصحراء سيناء، وخاضوا عدداً من المعارك مع اليهود تحت قيادة الجيش المصري في غزة ودار سنيد وما حولها من البلدات، وكان منهم عددٌ كبير من بني بكر خصوصاً ومن بني شهر وسائر قبائل المملكة، وكان منهم والدي معاضة بن حنش بن عبدالله البكري رحمه الله وأصحابه من بني بكر عبدالله بن حمسان البكري وعبدالله بن زاهر البكري وعلي بن هشبل البكري وعلي بن ريّضة البكري ويحيى بن غرامة البكري من الفضول وعلي بن سعيّد البكري وعلي بن رافع البكري، وعبدالله بن مغرم البكري وعلي بن دحمان البكري وغيرهم كثير رحمهم الله.
فلما استقر بهم المقام في صحراء سيناء تذكروا صاحبهم محمد بن صالح كدمان البكري وأنه يدرس في الجامع الأزهر، فقرروا أن يرسلوا له أحدهم ليأتي به إليهم ويطمئنوا على أحواله في مصر، وقام بهذه المهمة العم عبدالله بن حمسان البكري رحمه الله، حيث طلب من قائدهم الضابط المشهور اللواء سعيد بك الكردي – وكان وقتها عقيداً – أن يأذن له بالسفر للقاهرة للاطمئنان على صاحبٍ لهم يدرس في الأزهر فاستغرب الكردي وجود طالب من السعودية يدرس في الأزهر حينها وكان ذلك مستغرباً، وأذن له وبعث معه سائقاً خاصاً لتوصيله للقاهرة وإعادته.
يقول عبدالله بن حمسان رحمه الله : لما وصلت إلى الأزهر سألت عنه فلم يعرفه أحد، فقيل لي: صل في الجامع الأزهر وسل الإمام عنه فقد يعرفه، فلما صلى مع الإمام تقدم للإمام وسأله، فقال: لا أعرفه ولكن اذهب إلى هذا المبنى فهو إسكان للطلاب وبعث معه مشرف الإسكان لمساعدته، وقال له إذا توسطت تلك الغرف في المبنى فناد عليه باسمه فسيخرج إن كان في غرفته.
قال : فذهبت ودخلت للسكن وناديت باسمه، وكان يعرف في الأزهر باسم “محمد صالح حجازي” نسبة للحجاز، فسمعني وخرج، فلما عرفته بنفسي وأخبرته بخبر قدومنا لمصر من أجل محاربة اليهود في فلسطين فرح بذلك، وأراد أن يصنع لي إبريقاً من الشاي فشكرته وقلت له : أريدك أن تأتي معي للمعسكر لتسلم على الزملاء هناك، ثم نعيدك للأزهر فوافق، وارتدى ملابسه الأزهرية، وانطلقنا حتى وصلنا للمعسكر، ولقي الأصحاب وبقي معنا عدة أيام يصلي بنا ويعظنا بمواعظ، ويحثنا على الصبر والثبات، ويحدثنا عن فضل الجهاد في سبيل الله، وفضائل بيت المقدس، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فضل الجهاد والمجاهدين، وكانت تدور أحاديث عن النماص وعن الأهل هناك، وأخبروه بحال أهله وابنه “علي بن كدمان” الذي سافر وهو حمل في بطن أمه لم يولد بعد عام 1359هـ ، وكان ذلك العام عام 1368هـ تقريباً ، أي قبل عشر سنوات تقريباً، فقد بلغ ابنه علي من العمر عشر سنوات وهو بعيد عنه، وهذا يدل على تلك الهمة العالية، والصبر على الغربة، في سبيل تعلم العلم، والوصول فيه لمستوى متقدم.
والمطلع على تاريخ الأزهر يجد أنه قد تولى مشيخة الأزهر في ذلك الوقت الشيخ محمد مأمون الشناوي، ثم الشيخ عبدالمجيد سليم، ثم الشيخ إبراهيم حمروش رحمهم الله، وقد حرصوا خلال توليهم للمشيخة حينها على التوسع في استقبال طلاب العلم من العالم الإسلامي، وإكرامهم وتعزيز دور الأزهر في بث العلم ونشره في أنحاء العالم الإسلامي، وهي رسالة رائدة حملها الجامع الأظهر قروناً في تاريخ العالم الإسلامي، ولا يزال.
بقي محمد بن صالح كدمان مع أصحابه عدة أيام، وكان يرفض النوم على سرير أحد من زملائه مع رغبتهم الشديدة في إكرامه بالنوم على أحد الأسرّة وهم ينامون في الأرض ولكنه رفض ذلك كما أخبرني بذلك حفيده محمد بن علي بن محمد بن كدمان. وكان يقول لأصحابه من بني بكر: سأعود بإذن الله للنماص وأحاول تعليم الناس وجمع القلوب على الحق والخير، وكان لديه أملٌ في تخريج طلبة العلم ونشر العلم في المنطقة إذا رجع إليها.
وقد تلقى فنون العلم الشائعة في الأزهر وفي عكا قبل ذلك من القرآن والتفسير والحديث والفقه والعربية وغيرها، وكان الجامع الأزهر منارة للعلم في ذلك الوقت، وليس له منافس في العالم الإسلامي يقوم بمثل دوره، وله ما للأزهر من العراقة والعلماء المشهورين والمتمكنين من فنون العلم، ومن العلماء المشهورين الذين كانوا يدرسون في الأزهر في تلك المرحلة العلامة محمد الخضر حسين التونسي الذي تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك، والعلامة عبدالرحمن تاج، والشيخ محمود شلتوت وغيرهم، وكانت القاهرة في ذلك الوقت حاضرة العالم العربي ثقافة وعلماً ونشاطاً أدبياً، وكانت دار الكتب المصرية نشطة تطبع أمهات كتب العلم والأدب والتاريخ، وقبلها مطبعة بولاق الشهيرة التي صدر عنها أمهات كتب اللغة والأدب والفقه والحديث وغيرها، وكانت الصالونات الأدبية لكبار الأدباء أمثال طه حسين ومصطفى العقاد وغيرهما تستقطب الأدباء من أنحاء العالم العربي، وكانت المجلات المشهورة كالرسالة والثقافة والمقتطف تنشر المقالات الرصينة لكبار الأدباء في مصر والشام والعالم العربي، ويتلقفها الأدباء يقرؤونها بنهم كبير، فكانت مرحلة مليئة بالعلم والأدب والثقافة، وأحسب أن صاحب القصة محمد بن صالح البكري رحمه الله قد استفاد من تلك البيئة، وتابع الكثير من ذلك النشاط العلمي والثقافي فيها، وربما التقى بعدد من أولئك العلماء والأدباء واستفاد منهم.
وقد رجع لمقر إقامته في الأزهر بعد هذه الزيارة للجيش السعودي في مصر، ومرض خلال تلك المدة فدخل أحد المستشفيات الخاصة الإنجليزية، ولما أراد الخروج طالبوه بالسداد ولم يكن يملك شيئاً، فكتب رسالة لأصحابه في سيناء يطلب منهم المساعدة في دفع تكاليف علاجه في المستشفى فساعدوه وبعثوا له بالمال المطلوب للمستشفى مع علي بن رافع البكري وعبدالله بن مغرم وعلي بن دحمان البكري رحمهم الله، وذهبوا فزاروه في المستشفى وسلموه المبلغ، فما أجمل الصحبة الصالحة الصادقة في الغربة. فقد كانوا مثالاً في ذلك يغيثون الملهوف البعيد فضلاً عن أخيهم وابن عمهم.
وقد توفي الأمير منصور بن عبدالعزيز وزير الدفاع حينها في 25 رجب 1370هـ، وصلى عليه المشاركون في فلسطين بمقرهم بسيناء صلاة الغائب، ونقلت صلاة الغائب في الراديو، وكان الذي صلى بهم هو محمد بن صالح كدمان البكري رحمه الله كما أخبر بذلك صاحبه عبدالرحمن بن قروش الشهري حيث عرف صوته من خلال المذياع.
وتخرج محمد كدمان في شعبان عام 1370هـ ، وانتهى من الدراسة الأزهرية، وكتب لأهله رسالة كانت هي آخر رسائله لهم في شعبان 1370هـ أخبرهم فيها بتخرجه، وأنه سيغادر مصر عائداً لمكة المكرمة للحج، ثم يعود للنماص بعد ذلك ، ولكنه مرض بعد ذلك في رمضان وتوفي في شوال عام 1370هـ، وقيل إن سبب وفاته مرض أصابه بسبب ما تركته حقيبته في كتفه من آثار حمله لها في رحلته من عكا بفلسطين إلى القاهرة بمصر والله أعلم بحقيقة ذلك، وترك خلفه مكتبةً متواضعةً جمعها أثناء إقامته في القاهرة، من أمهات كتب العلم في التفسير والفقه والعربية وغيرها، ومكينة خياطة صغيرة، وقد بيعت تلك المكتبة في القاهرة بثمانية وستين جنيهاً مصرياً، بعد أن بعثوا للنماص بطلب وكالة شرعية وصك حصر ورثة حتى يتمكنوا من بيع تركته في مصر، وكان الذي تابع هذا الأمر هو القاضي بمحكمة أبها في ذلك الوقت الشيخ عبدالله بن يوسف الوابل رحمه الله إن لم أكن مخطئاً، وقد بيعت بعد ذلك وأرسلت قيمتها لأسرته في النماص، وكانت مبلغاً جيداً حينها، وتسلمها ابنه علي بن محمد كدمان حفظه الله من القاضي ابن مونّس رحمه الله قاضي النماص حينذاك عام 1374هـ كما أخبرني بذلك العم علي بن محمد بن كدمان، وكانت جنيهات بالعملة المصرية الورقية، صرفت وقتها بحوالي ثمانمائة ريال عربي، وهو مبلغ كبير وقتها.
وكان في رسائله لأهله في النماص يحثهم على إلحاق الأبناء بالمدارس النظامية التي افتتحت في النماص، ويشدد على ضرورة ذلك، وأهمية التعليم للأبناء، ويبدو ذلك ظاهراً في مراسلاته لما عرف من قيمة العلم وأهميته.
وهكذا أسدل الستار على قصة طالب علم طموح في زمان مبكر من حياتنا المعاصرة في النماص، قصة لم يكتب لها الاستمرار في تأسيس مشروع علمي في النماص قبل سبعين عاماً تقريباً، ربما لو طال به العمر وعاد للنماص لكان أحدث شيئاً من الحراك العلمي في المنطقة، ونقل تجربته في التعلم في مكة وجدة وعكا والأزهر إلى النماص، ولا أعرف شخصاً من النماص يشبهه في تلك الرحلة العلميَّة في مثل ذلك الوقت المبكر، ولكنَّ الأجل قد عاجله ولم يكمل رحلته، ومات وحيداً فريداً في القاهرة ودفن بها، بعيداً عن أهله وعشيرته في قمم جبال السروات بمدينة النماص في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية.
لقد سمعت طرفاً من قصة محمد بن صالح كدمان البكري كثيراً مع ابنه العم علي بن كدمان ومع غرم بن جاري ومع والدي معاضة بن حنش رحمهم الله جميعاً، إلا أنني لم أسمعها بكامل تفاصيلها إلا مؤخراً في منزل حفيده الأخ العزيز محمد بن علي بن محمد كدمان البكري، فأثار في نفسي الكثير من الذكريات العذبة لرحلات علماء الإسلام في طلب العلم، وعزمتُ على أن أكتب لكم هذه القصة حتى يعلم أجيالنا أن الخير لم ينقطع في هذه الأمة، وأننا في النماص رغم بعدنا عن حواضر العلم في ذلك الزمن الذي عاش فيه محمد بن صالح كدمان إلا أنه كان لديه من الوعي والهمة والرغبة الجادة ما دفعه للسفر والغربة البعيدة طلباً للعلم والتزود بالمعرفة رغم انعدام الناصح الذي يوجه لطلب العلم في ذلك الوقت، ولو كان غرضه تعلم القراءة والكتابة لاكتفى بما حصله في جدة وعاد إلى النماص مع من عاد من رفاقه وهم كثيرون، ولكنه تميز عنهم بهمته وبُعد نظره فلم يعد معهم، وأكمل رحلته لفلسطين ثم القاهرة.
وحسبه فضلاً أنه لقي الله وهو على طريق طلب العلم، ويكفيه شرفاً هذه الهمة العالية النادرة، فالذين كانوا يرحلون لطلب العلم خارج حدود الجزيرة العربية في زمانه قليلون جداً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة”.
إن هذه القصة رسالة لطلاب العلم اليوم بوجوب الصبر والمصابرة في سبيل طلب العلم، وتحمل مشقاته وعقباته مهما بلغت، فاليوم قد ذللت طرق طلب العلم تذليلاً، وأصبح المعسور ميسوراً لمن علت همته وصدقت عزيمته، وتبقى مثل هذه القصص نبراساً لنا نحن الأحفاد لمواصلة رحلة الأجداد في طلب العلم وبذله وإنفاق العمر والمال في سبيل الوصول إلى أعلى الدرجات العلمية خدمة لديننا وأمتنا وأوطاننا، وقصة الطموح بالأمس هي قصة الطموح اليوم لم تتغير، وإنما تتغير الشخوص، وتبقى هي هي.
ولا زلت أتذكر وأنا طالب في المرحلة الابتدائية بالنماص صورة بعض الطموحين من آبائنا الذين رجعوا للدراسة في مقاعد المدارس الليلة وكان منهم والدي يذهبون للتعلم في المساء في المدرسة الخالدية الابتدائية في بني بكر بالنماص، وكان منهم العم علي بن كدمان ابن صاحب هذه القصة الرائعة، وقد انقطع أغلبهم من مواصلة الدراسة، ولم ينقطع علي بن كدمان حتى حصل على الشهادة الابتدائية والمتوسطة، وهو رجل مثقف على علم واطلاع وحكمة، ولديه خبرة واسعة بشؤون تربية النحل، وسمعت منه مراراً قصصاً وطرائف في ذلك، وهو يسير في ذلك على خطى والده رحمه الله من علو الهمة، والتغلب على عقبات الطريق في سبيل التعلم والمعرفة.
إن قصة محمد بن صالح كدمان البكري قصة طريفة غريبة في بيئتنا التي لم يكن العلم من أولوياتها، وكانت الأمية غالبةً على المجتمع، وبعد رحيله بسنوات بدأت المدارس النظامية تفتح في المنطقة، ولم يكن قبل ذلك هناك من يشار له بالبنان في العلم من أهل المنطقة إلا قليلاً.
رحم الله محمد بن صالح كدمان البكري وغفر له وجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم، فقد جددت لنا قصته الصلةَ الوثيقةَ بيننا وبين حواضر العالم الإسلامي في جدة ومكة وعكا والقاهرة في طلب العلم، وأن الأمة الإسلامية أمة مباركة لم ينقطع فيها الخير حتى اليوم.
الرياض في 28 شوال 1438هـ