مقالاتمقالات مختارة

رحلة الإنسان بين الإسلام والوجوديَّة

بقلم عبد المنعم أديب

قدَّرَ اللهُ على الإنسان في الحياة أنْ يكون ذا أطوار وأحوال؛ بل ركَّب عُمرَه كُلَّه من هذه الأطوار والأحوال، تنتهِبُه انتهابًا حتى إذا فرغ منها علِمْنا أنَّ أخًا لنا قد قُبِر. فتاريخ الإنسان في نظرة الإسلام هو سجلُّ ما تعرَّض له من أحوال، وما تقلَّب فيه بين المخايب والآمال. هكذا سطَّرَ الإسلام تلك النظرة العظيمة في العهد المكيّ، في قوله -جلَّ وعلا-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) -البلد 4-. يقول الإمام “القرطبيّ” في تفسير الآية: “أيْ في شدَّة وعناء من مُكابدة الدنيا. وأصلُ الكَبَد الشدَّةُ … ويُقال: كابدتُ هذا الأمرَ: قاسيتُ شدَّته” -الجزء العاشر، طبعة الشعب-.

فلسفة الإسلام في رحلة الإنسان

الإنسان

ولعلَّ المُسلم هو أسعد الناس حظًّا في هذه الحياة؛ لأنَّ لديه كتاب الإرشاد الذي لا يستطيع أحدٌ من البشر أنْ يُقدِّره حقَّ قَدره، لذا أوجب اللهُ -تعالى- الإيمانَ به. وهذه الدرجة أقصى ما قد يصل إليه الإنسان بقُصُور فهمِهِ وتدبُّرِه، تجاه الكامل بتمام مَعناه ومَظهرِه.

وهذا الكتاب الذي يُريح المُسلمَ أشدَّ الراحة، ويجيبه عن الأسئلة العُظمى جميعها؛ يُعرِّفه أنَّ رحلة الحياة هي مُكابدة من ذات الإنسان وفي ذات الإنسان. يصنع تلك الحالَ العامَّةَ -المُلاصقةَ للإنسان لا تنفكُّ عنه- عددٌ من المُكابدات والمُصارعات. منها:

1- مُكابدة الإنسان لنوازع نفسه تجاه الأشياء والأشخاص؛ وهذه يختصُّ بها ما يُسمَّى بالانفعال.

2- ومُكابدة الإنسان لأفكاره. وهذا النوع من المُكابدة عظيم القَدر حتى يدخل فيه مسألة “الإيمان بالله” نفسها. وأحبُّ أنْ أنوِّه -حتى لا نتيه بين المعايير- أنَّ قضيَّة الإيمان بالله مُركَّبة في الإنسان فطرةً، أمَّا الأحوال التي تطرأ عليها وتعتوِرُها فهي ناجمة من مُكابدة النَّفس ونوازعها، والعقل وأفكاره.

3- وتأتي أخيرًا مُكابدة من ذات الإنسان لغيره. هذا الغير القريب والبعيد؛ في المكان، والزمان -تجاه إنسان قد مات حتى من خلال أثره أو كُتبه-، والرُّوح -هناك أناس نألفهم وآخرون ننفر منهم-، والعلاقة الاجتماعيَّة -أقارب وأصدقاء-.

الإسلام في مواجهة الوجوديَّة

الإنسان

لعلَّ تفسير الإسلام هذا لرحلة الإنسان يُقابله ذلك التِّيْه الذي في إحدى أظهر مذاهب القرن العشرين “الوجوديَّة”. والمذهب الوجوديّ له تصوُّرانِ رئيسانِ: الوجوديَّة المُؤمنة، والوجوديَّة المُلحدة المُنكرة. والأخيرة هي صاحبة الشُّهرة والسطوة، وهي المقصودة مع الإطلاق -أيْ دون تحديد بصفة أو سياق-. ولعلَّ أشهر اتجاهاتها في نظرة الإنسان لرحلة حياته تتمحور حول: أنَّ الإنسان قد أُلقِيَ به هُنا -أيْ على الأرض-، وأنَّ الآخرين هُم الجحيم، وأنَّ الإنسان لا بُدَّ له من أنْ يصنع ذاته باختياره وحُريَّته لأنَّه قد وُجِد “هكذا”! دون سابق إنذار أو إعلام أو تخطيط!

ونجد صاحبها الأشهر “جان بول سارتر” وهو أديب فرنسيّ وفيلسوف (يهوديٌّ يقول عن نفسه مُلحد، في ظاهرة تتكرَّر مع كثيرين من الأشدّ تأثيرًا في الاتجاهات الفلسفيَّة). وهو كاتب عملاق في حقيقة الأمر لا أستطيع أنْ أنكر مهارته البالغة، وفنَّه البارع، وتأثيره النافذ من خلال ما يكتب. إنَّه باختصار الشيطان الرجيم حقًّا! وقد قرأت له عددًا من الكُتب .. أقول: نجد صاحبها هذا يُصوِّر في مقالاته ومسرحيَّاته وأدبه تلك المحنة الإنسانيَّة التي يُدخل الإنسان فيها؛ بعدما قرَّرَ ابتداءً أنَّه من دون خالق، وأنَّ كونه من دون مُدبِّر.

وخلُص من هذا -ونبع منه أيضًا- أنَّ هذه المصائب (كالحرب العالميَّة الثانية التي عاينها، وعاين آثارها المُدمِّرة) التي تصيب الإنسان هي عبث في عبث، وأنَّ النظر في المُصيبة هو عين الإشارة لهذا العبث الضاري الذي يفتك بالإنسان. فلا حكمة في نظره القاصِر المُشيطَن والمُشيطِن لأنْ يلقى الإنسانُ في حياته الآلام والأحزان، لذا لا داعيَ للاهتمام بأخلاقيَّة -الأخلاقيَّة هنا بالفهم العامّ، وإلا فما تَصَوَّرَه هو أخلاقيَّته أيضًا- ردّ الفعل تُجاه هذا الكون القاسي، وهؤلاء الآخرين الذين هُم ذئاب في حقيقة الأمر. ويكفي مُطالعة كتاب من كُتب الرجل أو مسرحيَّة من مسرحيَّاته -كالجحيم مثلًا- حتى تشعر بالاختناق، أو بـ”الغثيان” الذي سمَّى به رواية من رواياته.

ويجب أنْ أدرج ملحوظة هامشيَّة هنا: أنَّ المسرح ليس هو التمثيل التهريجيّ الذي اعتاد المُتلقي العربيّ مشاهدته في التلفاز في سهرات آخر الأسبوع، بل هو -في النصوص المكتوبة- نوع أدبيّ خالص من أرقى وسائل عرض التفكير الفلسفيّ؛ لذا يجد القارئ الكريم كثيرَ ذِكرٍ للمسرح والمسرحيَّات في تنظير الفلسفة أو التأريخ لها. وقد وجب التنبيه حتى أفكَّ هذا الاشتباك والاضطراب في الرؤية.

ولا داعيَ أنْ أدعو القارئ الكريم لتخيُّل مَآلات تلك النظرة الخرقاء التي تدعونا إليها “الوجوديَّة”؛ فما حدث أمام عينَيْه في أوربا، وفي العالَم العربيّ من بعض المتأثرين بطامَّة “الوجوديَّة” -وقد كان تأثير سارتر ضخمًا في أرجاء العالَم- من جراء هذه التصوُّرات واضح بيِّن. والوجوديَّة المُلحدة هذه من فلسفات عصر “ما بعد الحداثة” عندما داس الإنسان في الغرب على العقل الذي مجَّده وأعلاه وعبده، وجميع فلسفات ما بعد الحداثة تميل إلى الميوعة لا إلى الحسم والوضوح.

لذا نرى نحن في جلاء ووضوح غيام الرؤية للإنسان في صُلب الضمير الغربيّ من خلال “الوجوديَّة”؛ وسؤال: ما هو؟! مَن أنا؟! الذي لا تجيب عليه إلا في غموض تامّ بقولها: أنا مَن سأكون! فلا تدري هل كان السؤال مَن سأكون أمْ مَن هو الإنسان ابتداءً؟! وإجابة “الوجوديَّة” تلك تقرير لعدم الإجابة بالالتفاف حول مضمون السؤال، وبالقطع لا يمكن لها إلا أنْ تتنحَّى وتحوِّل الإجابة بعدما قامت على إنكار الأصل .. مرورًا بسؤال: كيف سأعيش؟ الذي لا تجيب عنه إلا إجابة ما أشدّ غموضها: سأعيش بحريَّة .. وصولًا إلى سؤال المصير الذي تحمل فيه إلينا “مِسك الخِتام” في فكرة العدميَّة المُطلقة؛ فالإنسان هو ربُّ الكون الذي يموت -كما مات في المسيحيَّة- ثمَّ يمضي دون شيء خلفه.

هذا مثال واحد فقط من أمثلة كثيرة لفلسفات أخرى تعرض على الإنسان رؤيتها لحياته ومسيرته فيها. ومن هنا نعلم كمْ هو محظوظ ابنُ الإسلام الأصيل! وكم هو مُقصِّر في فهم هذه النعمة التي عرضتها الآية الكريمة -المائدة 3-:

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمِ دِينًا)

ويا لها من نكتة سخيفة أنْ يُدير المُسلم ظهره لهذه النعمة التي ارتضاها الله له؛ ليتنعَّم بجحيم عبدٍ مِثلِهِ لمُجرَّد أنْ كَتَبَ على جهنَّمه يافطة: “تلك جنَّة فادخُل”!

لماذا تصيبني المِحَن؟

الإنسان

وأعود هنا لأقول إنَّ إجابة هذا سؤال رحلة الحياة، وسؤال مصائب الحياة تتعلَّق بصُلب العقيدة الإسلاميَّة نفسها، بل تُمثِّل الإجابة رُكنًا ركينًا في التصوُّر العَقَديّ للإسلام. لأنَّها تتعلَّق بالإيمان بوجود مُدبِّر للكون ابتداءً، ولأنَّها تتعلَّق بمبدأ إسلاميّ أصيل لا انفكاك لتصوُّره عن إسلام الإنسان؛ وهو مبدأ “الاستخلاف”. وهو المبدأ الذي عرضه الله في قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) -البقرة 30-.

ولننظُر سويًّا في آيات أخرى تعرض القضيَّة بشكل قصصيّ بارع؛ حيث نبدأها من مشهد الحشد الذي يدور بين “فِرعون” وحاشيته في تآمُرهم على أهل الإيمان مع سيِّدنا “موسى”. تأتينا آية بقول الحاشية: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، ثُمَّ تُكمل لتُعرِّفنا قرار “فرعون” بعدما امتلأ من حشد الحاشية: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) -الأعراف 127-. وبعدها تنتقل الآية التالية إلى مُعسكر “موسى” -عليه السلام- وهو يقول: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) -الأعراف 128-.

وبعد هذا وذاك تُتحِفُنا الآيةُ التاليةُ، وهي تكشف لنا حِكمة هذا المبدأ الأصيل “الاستخلاف”: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) -الأعراف 129-. والخلاصة في قوله (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فهذا النصب الساري على الفعل “فينظرَ” يدلُّ على ارتباطها وتراتُبها على الاستخلاف، وكان الأصل -أقول الأصل فقط، فللرفع أيضًا تأويل وتخريج- في عدم التراتُب الرفع هكذا “فينظرُ كيف تعملون”.

والآية الكريمة تكشف لنا عن حِكمة “الاستخلاف”، وعن حِكمة التمكين للمؤمنين أو التمكين على المؤمنين -كما كان حال المؤمنين في الآية السابقة- من مصائب الدنيا على الفرد المؤمن أو الجماعة المؤمنة. وكلُّها تعود بأحوال الدنيا وأطوارها إلى قيمة “النظر في فعل الإنسان كيف يكون”: هل ستؤثِّر عليه صُرُوف الدنيا فيشكّ في الله من ضيق صدره وعمل السُّوء في نفسه وبنفسه؟ أمْ سيشتدُّ إيمانًا بالله مُحوِّلًا هذه الصُّرُوفَ والمصائِبَ إلى مُحفِّزات؟ كما كانت تلك الحفنة من المُسلمين -الذين هُم يهود ذاك العصر- في التعبير الرقيق الذي يسلبُك إرادةَ قلبك حتى تحلَّ محلَّها تلك المعاني الرفيعة الهفهافة -الأعراف 126،125-:

(قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)

ووالله لا أريد أنْ أكتب حرفًا بعد هذه الآية؛ فما بعدها من حديث وقد تحوَّلتْ كُلُّ المعاني أمامنا إلى طاقة من السَّعادة والسُّكُون والرُّسُوخ واليقين، ونبعًا للنُّصرة والثبات والتمكين حتى على حالٍ من الاستضعاف؛ فالتمكينُ في القلب أصلُ التمكين في الظاهر. ويبقى أنْ أذكِّر أنَّ الحديث عن المصائب له شقُّ آخر، لعلَّ الله يُمهلني لأبثَّه في حديث يأتي.

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى