بقلم حمدي شفيق
أمر الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بإحضار أحد علماء مكة ذات ليلة -أثناء حجّه- ليسأله عن بعض أحكام المناسك. واصطحب الحرس رجلًا منهم بالقوة إلى مجلس سليمان.. وما أن واجه العالم الحاكم حتى هتف: “إن هذا المجلس سيسألني الله عنه.. يا أمير المؤمنين: إن صخرة كانت على شفير جُب في جهنم، هوت فيها سبعين خريفًا، حتى استقرت قرارها.. أتدري لمن أعدّها الله؟ قال :لا.. ويلك.. لمن أعدّها؟ قال : لمن أشركه الله في حكمه فجار وظلم”.. فارتعد سليمان من شدّة الوعيد، وبادر العالم الجليل بالانصراف قبل أن يُفيق.. وهذا الرجل هو نفسه الذي جلس إلى جواره أحد أبناء الخليفة، فلم يكلّمه ولم يلتفت إليه..وعندما سألوه عن السبب أجاب: “أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه”.
وطلب منه عمر بن عبد العزيز أن يرفع حاجته إلى الخليفة، فرد عليه: “ما لي إليه حاجة”! واحتال مندوب أحد الولاة لحمل صاحبنا على تغيير موقفه من الوالي وقبول هديته، ففشل، واضطر إلى مغافلته وإلقاء كيس المال في أحد جوانب بيته البسيط.
وبعد فترة بلغ الوالي أن هذا العالم الجليل ينتقد مظالمه، فأرسل مبعوثه لاسترداد المبلغ، فوجد الكيس على حاله، في ذات المكان الذي دسّه فيه ببيت الرجل، وقد غطّته خيوط نسجها العنكبوت! هذا الرجل صاحب تلك المواقف الخالدة هو العالم العابد الزاهد المجاهد، طاوس بن كيسان اليمانى،أحد كبار أصحاب بحر العلم عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، الذي لازمه سنوات وتتلمذ على يديه، وروى أيضًا عن عدد كبير من علماء الصحابة،كزيد بن ثابت، وعائشة،وأبي هريرة،و زيد بن أرقم، وجابر بن عبد الله، وسراقة بن مالك، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن عمر،و عبد الله بن عمرو بن العاص، وزياد الأعجم، وغيرهم.. وروى عنه هو عشرات الألوف من التابعين و ما تلاهم من أجيال، رضي الله عن الجميع.. وشهد له أستاذه ابن عباس بقوله: “إني لأظن طاوسَا من أهل الجنة”.
ووصف قيس بن سعد ما كان لطاوس فى اليمن من منزلة رفيعة قائلًا: “هو فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة”. وحلف إبراهيم بن ميسرة أمام الكعبة: “ورب هذه البنية ما رأيت أحدًا،الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة،إلا طاوسًا”.
وقال تلميذه عمرو بن دينار: “ما رأيت قط مثل طاوس، وما كان فينا أصدق لهجة منه”.. ووثّق روايته للحديث الشريف أئمة هذا الشأن، فقال يحيى بن معين وأبو زرعة الرازى: “طاوس ثقة”.. وكتب عنه الإمام بن حبّان:” كان من عُبّاد أهل اليمن، ومن سادات التابعين،مُستجاب الدعوة،حَجّ أربعين حجة”.
وكتب عنه الإمام الذهبى: “الفقيه القدوة عالم اليمن الحافظ” و”حديثه في دواوين الإسلام، وهو حُجّة باتفاق”.. وقال حبيب بن أبي ثابت: “اجتمع عندي خمسة لا يجتمع مثلهم عند أحد: عطاء وطاوس و مجاهد و سعيد بن جبير وعكرمة”.. ومن أقوال طاوس المأثورة:
*”تعلّم لنفسك ، فإن الناس قد ذهبت منهم الأمانة”.
* “لا يتم نسك الشاب حتى يتزوّج”.
* “من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله”.
*و كان من دعائه: “اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل”.. رضي الله عنه وأرضاه.
(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)