رجال من التابعين.. الشهيد السعيد بن جبير
بقلم حمدي شفيق
كان سعيد بن جبير رضي الله عنه من كبار علماء التابعين العاملين. ويكفى أن نعلم أنه كان من أنجب تلاميذ بحر العلم عبد الله بن عباس رضي الله عنه.. وبلغ من نبوغه أن ابن عباس أذن له بالإفتاء ورواية الأحاديث في وجوده، وقال لأهل الكوفة: “تسألونا وعندكم ابن جبير”؟! وكذلك فعل ابن عمر، رضي الله عنهما، إذ كان يُحيل من يستفتيه في المواريث إلى سعيد بن جبير.. وقد روى سعيد أحاديث كثيرة أيضاً عن السيدة عائشة وعن علماء كثيرين من الصحابة، كأبي سعيد الخدرى، وابن مسعود، وأبى هريرة، وعبد الله بن الزبير، وعدي بن حاتم، وأبي موسى الأشعري، وأبي مسعود البدري، والضحاك بن قيس، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين.. أما تلاميذه فكانوا ألوفًا مُؤلّفة بمكة والمدينة والعراق وفارس.
وأثنى عليه العلماء، جيلًا بعد جيل.. قال ميمون بن مهران: “لقد قُتل سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه”.
وقال أشعث بن إسحاق: “كان يُقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء” يعنى من كبارهم وأعلامهم البارزين، الخبراء بعلوم القرآن الكريم والحديث والفقه وغير ذلك. ووصف خصيف تلاميذ ابن عباس قائلَا: “كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير”.
وأكّد هذا المعنى علي بن المديني بقوله: “ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير”. ووصفه الإمام الذهبي بأنه: “الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد، أبو محمد، مولاهم الكوفي، أحد الأعلام” و”كان من كبار العلماء”.
و لم يكتف سعيد رضي الله عنه بما نشر من علوم الإسلام ،فتصدّى للظلم و الطُغيان.فقد كان يعلم أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأنه لا يسع العالم السكوت على جرائم الحاكم.. ولهذا أبى أن يسكت على ما يرتكبه”الحجّاج الثقفي” والى العراق، غير عابئ بما يُصيبه نتيجة لذلك.
وطارده زبانية الطاغية في كل مكان.. ولم يظفروا به إلا بعد 13 سنة،عانوا خلالها الأمرّين من سياط كلماته وعظاته.. وجيء به إلى مجلس الحجّاج أخيرًا.. ورفض سعيد الاعتذار للطاغية، للإفلات من القتل -كما صنع آخرون- لأنه لم يفعل أكثر من الجهر بكلمة الحق، و هذا جهاد واجب،و ليس ذنبًا يستغفر الله منه، أو خطأ يعتذر لأحد عنه.. و قبل استشهاده بلحظات،هتف رضي الله عنه: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله.. خذها مني يا حجّاج،حتى تلقاني يوم القيامة”.. ودعا ولى الله على الطاغية -قبل قتله- قائلًا: “اللهم لا تُسلّطه على أحد بعدي”.
ويُروى أنه بعد انفصال رأسه عن جسده الطاهر،ظل لسان سعيد بن جُبير رضي الله عنه يُردّد: “لا اله إلا الله” ثلاث مرّات.
وهكذا فاز رضي الله عنه بأعظم أنواع الشهادة، وهي القتل بسبب كلمة حق قالها عند سفّاح ظالم، ودفع ثمنها من دمه الزكي.. واستجاب الله لدعائه، فلم يعش الحجّاج الثقفى بعد قتله، إلا 15 يومًا فقط، هلك بعدها بمرض خبيث، افترس جسده. عليه من الله ما يستحق.
وظل طوال الأسبوعين ينتفض فزعًا من نومه، صارخًا في رُعب وحسرة: “مالي وسعيد؟! مالي وسعيد”؟! ويُقال أنه استدعى الحسن البصري رضي الله عنه، وشكا إليه حاله،لعلّه يدعو له. ولكن الحسن رضي الله عنه صفعه قائلًا: “قد نهيتك عن التعرّض للصالحين فلم تطعنى”. وانصرف عنه. وعندما بلغه بعدها خبر هلاك الحجّاج،سجد الحسن رضى الله عنه شكرًا لله.
وبقى علم سعيد بن جُبير وقصة جهاده واستشهاده، رضي الله عنه، نموذجًا وقدوة حسنة على مرّ السنين لكل المسلمين.. وما عند ربّه خير له وأبقى..
رضي الله عنه وأرضاه.
(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)