رؤية العالم بعيون توحيدية .. قصة ميلاد أمة .. كيف نعيد سيرتها من جديد؟
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
ما إن نزل الوحي على رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقام ينذر ويبلغ أهله الأقربين، ويسعي في مكة وما حولها داعياً للدين الحق حتى أخرجه أهلها منها هو وصحبه الأولين الصادقين، فذهب مهاجراً إلى مدينته المنورة باحثاً عن قاعدة متينة لنشر دين الله بين العالمين بين أنصاره المجاهدين، حتى تغير كل شيء في حياة هذا الجيل الأول من الذين أسلموا وجوههم لله رب العالمين من الذين أنعم الله عليهم؛ وأنعم علينا وعلى أبناء آدم أجمعين بهم.
فقد فتح الإيمان بالله والرسول والقرآن تلك العقول والقلوب فاستقامت وأقامت على صراط الله المستقيم، فتولدت خلال 23 عاماً حياة جديدة، وتجددت معان للحياة درست بعد تحريف الدين من الأمم السابقة، وتوجهت قوى هذا الجيل القرآني الفريد لبناء أمة جديدة تعلم أن الله خلق ما في الأرض جميعاً لكل الناس بالسوية، وأن العدل حق لكل إنسان كما الحرية والكرامة والحياة الطيبة، فتولدت فيهم قوى إيمانية دافعة لا حدود لها أخرجتهم من جاهليتهم ومن ظلامهم مسرعين، فطفقوا يجوبون الأرضين ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، متسلحين برؤية كونية حضارية لنشر التوحيد ونوره المبين بين العالمين، وبناء حضارة إسلامية كانت نبراساً للبنائين المنشئين المقسطين.
ومع تباعد الزمان بيننا وبينهم وسقوط المجتمعات المسلمة في قبضة الركود ثم التبديد لكل قيم الإسلام التي بنت حضارتنا الإسلامية؛ وخصوصاً بعد تغلغل الاستعمار الغربي بقيمه ومؤسساته في تلك المجتمعات، فقدت أمتنا قدواتها الحقيقية ونجومها الصادقة من هذا الجيل العظيم، وأخذت تبحث لها عن نجوم آفلة كاذبة روجها الاستعمار وصنائعه، ومن هنا فإن واجب الوقت على الدعاة للإسلام أن يعيدوا نجومنا الصادقين إلى مكانتهم بين أبناء الأمة بكافة السبل المتاحة في عصرنا.
من هنا، كانت من أهم المشكلات التي تواجه الدعاة إلى الله اليوم تتمثل في كيف يقرأ شبابنا سيرة صحابة رسول الله في زماننا؟ وكيف يمكنهم أن يروها من منظور جديد يحقق فيهم ما تحقق لصحابة رسول الله من رؤية شاملة للدين والدنيا؟ وكيف تكون سيرة هؤلاء الصحاب أنيساً لهم في مختلف جوانب حياتهم، وكيف يستمد كل واحد وواحدة منهم زاداً وهدى يمكنه من استغلال ما حباه الله من طاقات وإمكانات مهما صغرت في سبيل تحقيق إنسانيته المؤمنة الموحدة وإضافة لبنة في بناء الأمة المسلمة في زماننا؟
ويستلزم تحقيق ذلك بيان كيف ولج هؤلاء الصحابة؛ رجالاً ونساء، إلى عمق الإيمان وسماحة الإحسان في كل قول أو فعل أو عمل عملوه بعد أن أسلموا لله وجوههم، وكيف يمكن لشبابنا أن يستعيدوا نضارة إيمانهم بعد ذبول طال قروناً عديدة ويعلموا أن لهم حقوق، وعليهم واجبات تجاه أمة ينتمون إليها، ودين ينتسبون إليه، ورب يحاسبهم على كل تلك النعم التي أنعمها عليهم، إن هم فهموا سيرة هؤلاء الصحب بطريقة تناسب زماننا.
كما يستلزم ذلك ، أيضاً، كيف نبدع مناهجاً وبرامجاً مكتوبة ومسموعة ومرئية تحوي صوراً مجملة لشخصيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، على اختلاف أصولهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، وتنوعهم بين النساء والرجال، واختلاف حظوظهم من العمل للإسلام ما بين حاكم ومحكوم، وتنوع أدوارهم في مختلف أطوار حياتهم، وكيف اجتمع لهم جميعاً أنهم أدوا ما عليهم وسألوا الله ما لهم، فلم يبخلوا بجهد أو مال أو مقدرات في سبيل بناء صرح هذا الدين وأمته المسلمة.
وكيف تتناول تلك الصور المجملة، كل شخصية أو جماعة من لحظة الإسلام حتى لحظة الممات عليه، هادفة إلى الإجابة على أسئلة كثير من شبابنا اليوم عن حياة هؤلاء وكيف تغيرت بإسلامهم، وكيف غيروا الدنيا عندما تغيروا حتى وصل إلينا الإسلام، وكيف أسهموا كل حسب قدرته واجتهاده في بناء أمة الإسلام وحضارته وكيف يستفيد منهم كل شبابنا حسب قدراتهم ومؤهلاتهم ويقتدوا بهم لنصنع جيل النصر المنشود؟
وكيف ترسم تلك الصور المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، خريطة واضحة تعبر عن منظومة القيم الإسلامية التي آمنوا بها، وكيف تم ترسيخها بداخلهم، وكيف تحولت إلى ومؤسسات وتصرفات تقاسموها وآمنوا بها، وكانت بمثابة الدليل الهادي لهم في كل المواقف والأزمات والتصرفات التي مرت بهم، وكيف نستعيدها لشباب اليوم مثل: العدالة، الحرية، المساواة، التكافل، الوطنية، الرحمة، والعفو، وغيرها.
وأن تبين تلك الصور كيف استطاع هذا الجيل تحويل كلمات القرآن المجيد والرسول الكريم؛ تلك الكلمات الجديدة التي علمتهم الكيفية التي يجب أن نعيش معاً في المجتمع، إلى ممارسات صارت جزءً من نظام الحياة اليومي لهم، وكيف خالط القرآن لحومهم ودماءهم، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، فتكونت أمة مؤمنة، بعضها أولياء بعض كالجسد الواحد، يكفل بعضهم بعضاً ويضيف كل منهم إلى رصيد أخيه، لتجتمع للأمة كامل القوة والمنعة والهيبة والشهود الحضاري.
وكيف يمكن لشبابنا أن يكونوا أمثالهم اليوم في تعامل جديد مع القرآن يستفيد من تطورات عصرنا، وكيف يعرضوا مشكلاتهم عليه، وكيف يكون جزءاً من تكوينهم ونظام حياتهم، بل كيف ينظم لهم حياتهم اليوم؟ وكيف يبدأ كل شاب وفتاة ومن أين يبدأ ليكون على طريق النور الذي سار عليه الصحب الكرام، فخرجت لنا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
وكذلك كيف كيف يقرأ الشباب المسلم سيرة هؤلاء، اليوم، بعيداً عن التهويل والتهوين وبعيداً عن التقديس الذي يجعلهم فلتات لا تتكرر ثانية في واقعنا المعاصر أو التدنيس الذي يراهم نماذج مشوهة، وكيف يستفيد شبابنا من سيرتهم لزماننا في حياتهم العملية اليومية، كل في مجال عمله ومجال تأثيره ومدى قدراته، وكيف ينوعون أدوارهم في الحياة مثلما نوع هؤلاء الصحب الكرام، ويكتشفوا قدراتهم وقابلياتهم ويديرونها ويستفيدوا منها في خدمة دينهم وعالمهم بكل ما يستطيعون وفي جميع الظروف- مهما ضاقت- ليبنوا كما بنوا وينشئوا كما أنشأ آبائهم الأولين.
وكيف يجد شبابنا في حياة ومواقف الصحب الكرام حلولاً لمشكلات اغترابهم عن دينهم ودنياهم، وكيف يواجهون لحظات انعدام المعنى والاحساس بالتفكك الاجتماعي التي تحاصر مجتمعاتنا المسلمة من خلال التأسي بهم؟
وكيف يمكن لشبابنا أن يولدوا أفكاراً ومؤسسات لمجتمعاتنا اليوم -كما فعل أسلافهم- تحقق التماسك الاجتماعي وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية وتسهم في إعادة بناء اجتماعنا الإسلامي من جديد.
وكيف نخاطب شبابنا من خلال مواقف بعض الصحابة، ليعيدوا فهم حياتهم على هدي ديننا، لتستقيم لهم حياتهم وتطيب، وتأخذ أمتنا وجهتها الصحيحة نحو مستقبلها، كيف تحول كل هؤلاء الصحابة، من مجرد مشروع فتى مبرز في قومه، أو عبد مطيع لسيده، أو زوجة فاتنة في بيت زوجها، أو أمة مرهونة بيد مالكها، أو قبيلة قوية أو ضعيفة في محيطها، إلى مثال أعلى لزمانه وغير زمانه.
ويحتاج ذلك كله إلى جهود متضافرة من العاملين للإسلام بمختلف تخصصاتهم لإعادة كتابة وتقديم مواقف هؤلاء الصحب الكرام بطرق جديدة تتناسب وزماننا، في: وسائله، وأدواته، ومتغيراته الكبيرة والمتجددة، حتى يقبل شبابنا على تاريخهم ويقرأوه بعيون جديدة وبرؤى جديدة تعيد له معنى حياته كما هدف إليه الإسلام، وتجعله مكوناً رئيسياً من مكونات شخصياتهم ونبراساً هادياً لهم في خطوات حياتهم، وهي المهمة الأولى بجهات الدعوة إلى الإسلام اليوم والتي يجب وضعها على قمة جدول الأولويات في لحظتنا التاريخية الراهنة.