ذكوريّة الفقه الإسلامي.. مكابرةٌ في غير مكانها
بقلم ديما مصطفى سكران
طُرح هذا السؤال مؤخرا كثيرا، وكانت الإجابات دوما واقعة في حقول التوتر العالي لنقاشات النسوية والذكورية، دون أن تحظى هذه المسألة بفرصة التأمل الهادئ. وبالوسع الإجابة عن هذا السؤال من زوايا مختلفة، لعل أهمها الزاوية الفقهية، لكن فهم السياق التاريخي لنشوء معاهد التعليم الفقهية في الحضارة الإسلامية، لا غنى عنه، لتفكيك العقد التي لن يفككها التناول الفقهي في هذا السياق، ولكن قبل تناول هذا الأمر، لا بد من بعض التوضيحات الضرورية.
يلحظ المرء حالةً من التداخل بين الإسلام والفقه الإسلامي في أذهان الناس، بحيث يعتبر الحديث عن الفقه حديثا عن الإسلام نفسه، والدعوة إلى النظرة النقدية له دعوة إلى نقد الإسلام نفسه، على الرغم من الفرق بينهما، إذ إن بينهما عمومٌ وخصوص، وعلاقة كلّ مع جزء، فالإسلام مظلة واسعة، ينضوي الفقه تحت ظلها في مساحة ضيقة ومحددة.
وبينما يمثل الإسلام هدياً إلهيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يمثل الفقه الجانب القانوني من الإسلام، والذي تأتى عن مجهود بشري، فهو يخضع لاجتهادات الفقهاء في استنباط الأحكام العمليّة من أدلّتها التفصيليّة، لذا فإن نقد الاجتهاد الفقهيّ أمر يجب ألّا يخضع إلا لمعايير المحاكمة العلمية المتخصصة، دون أن يُستخدم في ذلك فزاعات التقديس، واتهامات الجرأة على دين الله.
كما أن لدى الناس نتيجة الاعتقاد السابق أيضا خلطًا بين الدينيِّ الأخلاقيِّ والفقهيِّ القانونيِّ. إن الحكم الفقهي في مسألة ما هو عملية استنتاج قانوني، ومن المفروض للنتائج أن تتطابق مع ما هو حلال في موازين الله، لكن هذا قد لا يحصل دائما، لأن الحِلّ والحرمة أمور تعود إلى عوامل عديدة، قد لا يكون الفقه قادرًا على قياسها جميعها، كالنية المحجوبة في طوية المرء، والمعطيات الناقصة، ثم الظروف الزمانية والمكانية المتغيرة، وأخيرا زاوية نظر الفقيه نفسه، ومدى تمكنه من موضوع الفتوى، لذا كان الفقه مختصًّا بالتّصرّفات العمليّة، من حيث الصّحّة والبطلان، والحلّ والحرمة، فهو يحكم على الظّاهر، تاركاً السّرائر موكولةً لله تعالى.
إن الفقهاء أنفسهم يقولون بأنّ الأحكام تقوم على غلبة الظنّ، ولذا فإن الحساب في اليوم الآخر، لا يكون وفق كتب الفقه، وحلالها وحرامها فحسب، بل وفق ما تخفيه الصدور، التي ركب الله فيها الضمير، فالمقياس الأكثر دقة للحلال والحرام، هو ما اجتمع فيه إخلاص الضمير مع صواب الحكم الفقهي، والفقهُ الإسلاميّ يقيم أحكامه على وجود الصّواب وعدمه.
وعلى هذا يكون تعاملنا مع كتب الفقه، على أنها تمثل دين الله، بكونها مقاييس للحلال والحرام، أمرا يستغفل الفارق الشاسع، بين السؤالِ الفقهي القانوني، والسؤالِ الدّيني الأخلاقي، واللذَين لا يجب أن يطغى أحدهما على الآخر، فالقانون يعجز عن أن يحل محل الأخلاق، في أي مجتمع من المجتمعات.
كما أن ازدهار العلوم الفقهية في الحضارة الإسلامية، وإغداق الثروات عليها، وتربعها على عرش العلوم، جعل الفقه بدوره القانوني، يظلل الحياة الاجتماعية على نحو واسع جدًا، لنجد أن الفتاوى الفقهية تشعبت في قضايا كثيرة، بما فيها قضايا الأسرة، في الوقت الذي كان من الممكن فيه أن تتراجع قليلا، مفسحة المجال للقواعد والبديهيات الأخلاقية العامة، التي جاء بها الإسلام، لتبت في كثير من هذه القضايا، كحكم تطبيب الزوجة عند مرضها، أو حكم خدمة الزوجة في بيتها مثلا.
لكن ذلك لا يعني أننا نلوم الفقه وأهله على ذلك، فقد كان الافتتان بالفقه هو روح ذلك العصر، وكان على الفقهاء أن يجيبوا على تساؤلات الناس، من زاويتهم القانونية، مهما كانت.
إن الفقه، ونظرا لاستناده في غالبه على الاجتهاد في فهم النّصوص واستحضار الأدلّة، يحوي إذن جانبا ذاتيا بشريا، وإن إنكار الجانب الذاتي البشري في الفقه، لن يساعد في الإجابة على أي تساؤل متعلق به، بل على العكس سيساهم في تأجيل طرح القضايا الإشكالية الملحة.
لقد ازداد الميل إلى حجب النساء في صدر العصر العباسي بشكلٍ كبير، بسبب تدفّق الجواري للمجتمع، وشيوع حياة الترف، ومجالس الطّرب والغناء. ولذا فإنّ النّظرة للمرأة بدأت منذ ذلك الوقت تتغير، ليسيطر عليها الجانب الجنسي، الأمر الذي يبدو واضحًا في أدب العصر العباسي، وما يحتويه من وصف دقيق لجمال النساء وأجسادهن. لذا تقيدَ خروج المرأة الحرة، واختلاطها بالرجال، بسبب هذه الثقافة الجديدة في المجتمع الإسلامي، وأوكلت أكثر الأعمال للجواري، اللواتي لم يكن ثمة بد من مزاولتهن لأعمال تتطلب مخالطة الرجال، أو التنقل معهم ومحادثتهم.
وكان هذا الوقت ذاته، هو الوقت الذي شهد ظهور مذاهب الفقه الأولى، التي كانت إذ ذاك مذاهب جغرافية مرتبطة بالمدن التي نشأت فيها، وكان على مؤسسي هذه المذاهب أن يتعاملوا فقهيًّا مع مجتمعات المدن التي يعيشون فيها، وما تحويها من تعقيدات، لذا فإن فتاواهم كانت تحضّ بدورها على تقييد خروج المرأة وحجبها عن الرجال.
وفي هذا الوقت أيضا بدأت معاهد تعليم الفقه بالازدهار، ولم تكن هذه المعاهد في الحقيقة إلّا المساجد، التي يجتمع فيها الرجال في حلقات مع أساتذتهم لتحصيل العلوم. ثم نشأ ما عرَّفه جورج مقدسي بمجمع المسجد- الخان، الذي ظل الشّكل الأهم لمعاهد العلوم الإسلامية، حتى ظهرت “المدرسة” في القرن الرابع الهجري، والتي كانت تحوي أيضًا غرفًا لإقامة الطلاب، كبديل عن الخان الذي كان يقوم بذلك الدور فيما سبق.
وكان الفضل في الانتشار الكبير لمجمعات المساجد والخانات، ومن ثم المدارس، يعود إلى أموال الوقف، التي كان ميسورو المجتمع الإسلامي يغدقونها على تعليم الفقه، لكونه العلم الأرفع مكانة في المجتمع، كبدر الدين بن حسنويه الكردي، الذي أقام ثلاثة آلاف مجمع للمساجد والخانات في أقاليم شتى في القرن الرابع الهجري. وكذلك يعود هذا الفضل إلى رجال السلطة، الذين كانوا مهتمين بتمويل معاهد العلم إلى حدٍّ كبير، كالمدرسة النّظامية، التي أنشأها السّلاجقة في القرن الخامس الهجري في بغداد، لمزاحمة نفوذ الخليفة العباسي في عاصمة خلافته.
إنّ نشوء معاهد التّعليم، في الوقت الذي بدأ فيه التشديد الفقهي والاجتماعي، على حجب النساء في المنازل، جعل العملية التعليمية بحد ذاتها تتأثّر تأثرًا كبيرًا بهذا الأمر، حيث كان نظام التعليم يتبلور في جوهره، ليستبعد النساء تمامًا من غالب مؤسساته.
إنّ تحصيل العلم كان شفهيًّا بالدرجة الأولى، ويتطلب الحضور المباشر، ونسخ ما يقوله الأستاذ من ملاحظات، وكانت العلاقة بين المدرّس وطلابه في نظام الحلقات والدروس علاقةً مباشرة، يستحيل تخيّل السماح بها فقهيًّا واجتماعيًّا في ذلك الوقت بين الرّجال والنساء، كما أن الامتحانات كانت شفهية أيضا، وتتطلب قراءة الكتب على الأساتذة في جلسات مطولة.
بل إن أكثر الطّرق نفعًا في تحصيل العلم كانت تسمى بالصحبة أو الملازمة، حيث يلازم الطالب شيخه في قيامه ومنامه، وطعامه وصلاته لعدد من السنوات، حتى يأخذ عنه علمه كله، الأمر الذي لم يكن متاحا إلا بين الرجال بالتأكيد.
أما إثبات الكفاءة العلمية، فكانت تلعب فيه المناظراتُ الدور الأكبر، والتي تحضرها جموع غفيرة، تتضمن رجال الدولة وكبراء المجتمع أحيانا، حيث كان نجاح الفقيه في المناظرة، هو الذي يكفل له الشهرة اللازمة، للوصول إلى كراسي التدريس في المدارس الفقهية المعتبرة، الأمر الذي لم يكن ليكون متاحا لأية امرأة ممارستُه في ظل تلك الظروف. كما أن تعيين المدرسين يتم غالبا أيضا بناء على توصية من الأساتذة، الذين يرشحون أحدا من أندادهم أو طلبتهم النجباء، والذين تربطهم بهم علاقة متينة، في مجتمع رجالي مئة بالمئة.
يضاف إلى ذلك طولُ مدّة تعلُّم الفقه، التي كانت تستمر أربع سنوات، وتتطلب من الطالب حضورًا مستمرًّا للحلقات، لذا كان الطّلاب يقصدون المدن الكبيرة من كلّ أصقاع البلاد، للإقامة فيها بقصد الدراسة، إما مستفيدين مما يقدمه نظام الوقف من معونات للطلاب، تتضمّن المبيت والطعام والنفقة، أو معتمدين على ثرواتهم الخاصة. وإن مشقة السفر وكلفته، بل والإقامة في بلد آخر كلّ هذه المدة الطويلة، لم تكن أمورا متخيّلًة بالنسبة للمرأة في ذلك العصر، فضلًا عن أن تكون مقبولًة اجتماعيًّا أو فقهيًّا.
إنّ هذه المؤسسات العلمية نفسها، والتي نشأت في ذلك الجو الميّال لحجب النساء، هي ذاتها التي كانت تتابع إنتاج الفتاوى الفقهية، التي تؤكد على هذا الحجب. وبالتالي كان نظام التعليم والفقه الذي ينتجه، يعزز أحدهما الآخر بشأن استبعاد النساء من المؤسسات العلمية الدّينية، ليصبح الفقه اشتغالًا رجوليًّا خالصًا.
إن المرور على كتب تراجم الفقهاء، يترك الانطباع بأنّه لم يكن ثمّة أيّة نساء على الإطلاق في ذلك العصر، حيث لا وجود إلا لعددٍ محدود من مساهمات النساء، اللواتي كنّ محظوظات بما فيه الكفاية للتربي في بيت علم، يسهِّل عليهن تحصيل هذا العلم، متجنباتٍ كل تلك العوائق، التي يكون تخطيها في العادة مستحيلا على المرأة.
لذا لا عجب أن يكون فقه القضايا الاجتماعية، قد تأثر بوجهة نظر رجال تلك العصور لتلك القضايا. إن الاعتراف بوجود الجانب الذاتي في الفقه، هو الذي سيسهل علينا فهم أية انحيازات طبيعية موجودة فيه، فالفقيه ليس إلا ابن مجتمعه، وسيكون من المنافي للمنطق، أن نتخيل أنه قد مارس علمه، دون التأثر بمجتمعه، وما تحكمه من مسلمات.
لا يبدو الأمر الآن مختلفًا كثيرًا في المؤسسات العلميّة الدينيّة، حيث لم تُحدث إتاحة دراسة العلوم الشرعية للنساء إلا فرقا ضئيلا، فمجتمعاتنا لا تزال محتفظة بالنظرة الجنسية للمرأة، على الرغم من انقضاء عصر الجواري، ولا يزال ثمة ثنيٌ مبالغ به عن “اختلاط” النساء مع الرجال، أو سفرهن لتحصيل العلم، ولا تزال تُغرس في النساء مفاهيمٌ مغلوطة عن الحياء، ومبالغاتٌ في غير مكانها عن دور المرأة الزوجي والأمومي. إن كلّ هذه الأمور تشكل عائقا أمام النساء لتحصيل العلوم الدينية، وإثبات وجودهن الأكاديمي فيها.
كما أن الاستبعاد الهيكلي للنساء في المؤسسات العلمية ما يزال موجودًا، حيث تقوم عملية التعيينات والترشيحات على العلاقات الشخصية بالدرجة الأولى، لأنها تتيح الاطلاع الكافي على الكفاءة، لذا تغيب النساء عن الكوادر التدريسية والمؤتمرات العلمية. ولا تزال النظرة الدونية لكفاءة المرأة العلمية، تجعل إنتاجاتها الفقهية دوما محل ريبة وشك، بحيث تتأثر صحة القول في مسألة ما كثيرا بجنس الشخص الذي يقوله، لذا يكون لزاما على المرأة غالبا ترديد ما يقوله الرجال أنفسهم، ما يخنق لديها الجرأة اللازمة، لإحداث التغييرات الضرورية بأدواتها الفقهية الصحيحة.
إنّ من المستحيل تخيّل عدم وجود انحياز جنسي ما، في أي علم متعلق بقضايا اجتماعية، عندما يسيطر على هذا العلم جنس واحد فقط، ولذا فلن يكون ثمة تفكير أكثر عقلانية، من التفكير الجاد بتشجيع النساء على الدراسات الفقهية، وبدمجهن في المؤسسات العلمية بشكل حقيقي، لأن الانحياز الذكوري في الفقه بات يشكل نقطة ضعف كبيرة، تتهدد المنظومة الفكرية للإسلام ككل، بسبب التداخل سابق الذكر بين الإسلام كدين شامل، وبين الجانب الفقهي فيه، الأمرُ الذي بات منفذًا مفتوحًا لتسلّل الناس، وبخاصة النساء، من الدين كله.
وعلى صعيد آخر، تؤدي المكابرة عن الاعتراف بالتحيز الذكوري في المدرسة الفقهيّة، إلى ما نشهده من بوادر نشوء إسلام نسوي، يكون فيه الانحياز للمرأة هذه المرة انحيازًا متعمدًا ذا نتائج كارثيّة، في حين لم يكن الانحياز الذكوري في الفقه الإسلامي يوما، أمرًا متعمّدًا مارسه الفقهاء بنية مبيّتة!
(المصدر: الجزيرة)