د. محمد الصغير يكتب: سياسة طالبان.. تبشر بنضج التجربة وسعة أفق الحركة
بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي وخروجه من أفغانستان سنة 1989 بعد احتلال دام عشر سنوات، دخلت البلاد في دوامة خلافات وصراعات أدت إلى حرب أهلية بين أمراء الحرب وقيادات الكتائب، لاسيما وأن تركيبة أفغانستان تتألف من عرقيات مختلفة يأتي في مقدمتها البشتون والأوزبك والطاجيك، وحاول كل فريق أن تكون كلمته هي العليا، وبدأ في السيطرة على ما تحت يده، مما أحدث صراعات داخلية واشتباكات تفككت معها بنية الدولة، وذهب عنصر الأمن وظهرت عصابات السلب والنهب، حتى وصل الأمر إلى الاختطاف!
وتعددت صور قطع الطريق وفرض الإتاوات مما أثار حالة من السخط العام لدى المجتمع الأفغاني المحافظ بطبعه، وأدرك أن شركاء الأمس المتشاكسون اليوم كل يسعى إلى مصلحته الخاصة وتحقيق مجده الشخصي دون اعتبار للمصلحة العامة، ومن هنا نشأت فكرة مجموعة “الاحتساب” أو جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية المجتمع من عبث العابثين – وهي قريبة الشبه بفكرة اللجان الشعبية التي ظهرت في الأحياء المصرية إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 – انقدحت الفكرة في رأس أحد أساتذة المدارس الدينية، وشرع في تنفيذها وهو من عرف بعد ذلك بالملا محمد عمر، ومعه مجموعة من طلابه الذين يطلق عليهم باللغة الأفغانية “طالبان” أي طلاب العلم، والملا هو من أنهى مراحل طلب العلم الأولى وأصبح قادرا على التدريس، فإذا أنهى مراحل الطلب أصبح “مولوي” أي الشيخ أو العالم، وكانت مجموعة الطلاب الأولى “طالبان ” التي قبلت فكرة الملا عمر، وخرجت معه لإنكار أول منكر حوالي خمسين طالبا، ومع نجاح الفكرة أصبحت خمسة عشر ألف طالب ومحتسب، وساعد على نجاح المهمة احترام المجتمع الأفغاني لعلماء الدين وطلبة العلم، وحاجته إلى محاربة الانفلات الأمني وانتشار الجريمة، واستطاع الملا عمر وطلابه استعادة الأمن وإزاحة نقاط قطع الطريق من ولاية “قندهار” ثاني أكبر ولايات أفغانستان ومسقط رأس الملا عمر، والتي أصبحت عاصمة حركة طالبان بعد ذلك.
بدأت تتسع دائرة طالبان وأصبح زي أهل العلم هو الزي الرسمي الذي يميزهم، وبدا واضحا الترحيب الشعبي بهم، واتسعت حسبتهم إلى البلاد المجاورة، بل وأصبحت بعض البلدان ترسل إليهم ليعيدوا الأمن إليها كما فعلوا في قندهار، ومن هنا تطورت الفكرة وتخطت مرحلة استعادة الأمن ومكافحة الجريمة إلى إدارة هذه المناطق، ونظرا لأن السلاح يمثل جزء من ثقافة الشعب الأفغاني وعاداته مثل الجنبية “الخنجر” في اليمن، تحولت الحركة إلى كتائب مسلحة ودخلت حربا مفتوحة مع أمراء الحرب الذين أدركوا أن طالبان باتت خطرا عليهم جميعا، ولجأ بعضهم للتحالف ضدها كما حدث بين قلب الدين حكمتيار وبرهان الدين رباني، وفي 26 سبتمبر من عام 1996 ترك حكمتيار ورباني كابول، واتجها شمالا وتخليا عنها لتصبح في يد طالبان التي تسلمت مقاليد الأمور في العاصمة، وأنشأت إمارة أفغانستان الإسلامية وتمت البيعة للملا محمد عمر ولقب بأمير المؤمنين، ونظرا لأن عامة طالبان تنتمي إلى عرق البشتون كانت المعارضة لحكمهم قوية في الشمال على يد أحمد شاه مسعود الذي يمثل الطاجيك، و عبدالرشيد دوستم زعيم الأوزبك، وهو الأمر الذي تدراكته طالبان الثانية الآن، والتي تنتمي إليها كل العرقيات الأفغانية كما ظهر في خطتها الجديدة في معالجة النزعات العشائرية والمناطقية، حيث ركزت جهودها على ضم الولايات غير البشتونية أولا، والتي دخلت تحت حكم طالبان التي تضم كل شرائح المجتمع الأفغاني، ولعل هذا من أبرز ما يميز طالبان في نسختها الثانية.
ومما سهل مهمة طالبان الآن إكبار الشعب الأفغاني المعتز بنفسه وتاريخه لصبرها ودورها في هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية وضمها إلى قائمة هزائم الامبراطوريات الكبرى إلى جوار الاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى!
وسيصبح بعد نجاح هذه الاستراتيجية دخول الولايات ذات الأغلبية البشتونية تحت حكم طالبان تحصيل حاصل، وسقوط كابل في أيديهم مسألة وقت، لاسيما بعدما صرح بايدن بأنه غير نادم على الانسحاب من أفغانستان، وعلى قادتها أن يوحدوا صفوفهم ويقاتلوا دفاعا عن أنفسهم!
يعتبر هذا التخلي عن دعم الحكومة الموالية لأمريكا شهادة وفاة لحقبة مضت، وإعلان مبكر عن سقوط كابل، وضياع للمليارات التي أنفقتها أمريكا في حربها وإنشائها للجيش الأفغاني الذي دربته وسلحته بأحدث الأسلحة، ولم يصمد أمام حركة طالبان التي غنمت ما تركه الأمريكان!!
من وراء طالبان؟
نظرا لأن أمتنا نسيت طعم الانتصارات، وطال عليها زمن الهزائم، أصبحت ترتاب في بوادر النصر، أو تراه فخاً لها، وإن تحقق فسرته من خلال نظرية المؤامرة!
وهناك فريق يرى في نجاح مشروع طالبان كحركة تحرر وطني اعتمدت المواجهة وتركت المراوغة والمداهنة، إعلانا عن فشل خطتهم وفساد طريقتهم، فلجأوا لسؤال من وراء طالبان؟ وطرحوا خيارين للإجابة: أنها الذراع الأفغانية لباكستان، أو هي صنيعة الأمريكان، فهي إما عميلة أو مأجورة !
وأي متابع لسير الأحداث وتسلسلها لا يقبل بأي الخيارين، لأن طالبان ظهرت وترعرعت أمام أعين الأفغان ومن نسيجهم، وما دعم باكستان لها إلا لحرصها على أمنها القومي وحماية حدودها، وفي استتباب الحكم ووجود حكومة إسلامية تحقيق لمصالح اقتصادية وسياسية أهمها أن طالبان لن تكون في صف الهند الغريم التقليدي لباكستان كما كانت حكومة كابل الحالية.
أما كونها صنيعة أمريكية فهل تصنع أمريكا من يحاربها عشرين سنة، ويخرجها دون تحقيق أهدافها بعد أطول حرب خاضتها في تاريخها ومعها كل حلفائها؟!
أما من يخشى على مستقبل طالبان فهو خوف مشروع، لكن الأشهر الأخيرة أظهرت أن الحركة على دراية كافية بالتحالفات السياسية وتحسن تطويعها لمصلحتها، وأن العشرين سنة الماضية أفرزت لديها كوادر قادرة على خوض المعارك الدبلوماسية والدولية بنفس خبرتها في المعارك الميدانية،
كذلك سياستها الخارجية في طمأنة دول الجوار والجلوس مع الدول الكبرى مثل الصين وروسيا ودول أوروبا، وسياستها الداخلية في إعلان العفو داخل البلاد المفتوحة، وفتح صفحة جديدة مع كل من يقبل السلام معها، مبشرات بنضج التجربة وسعة أفق الحركة، ولولا أن الشعب الأفغاني رأى ذلك وتأكد منه، لما دخلت أغلب الولايات في طاعتهم دون مقاومة تذكر، كذلك بدا واضحا حرص حكومة كابل على العودة إلى مائدة المفاوضات، وتعيين وسيط نزيه، والتوجه إلى قطر لامتلاكها الأدوات التي تحقق ذلك،
لقد أصبحنا فعلا أمام عالم ترسم ملامحه من جديد.
المصدر: الحقيقة بوست