بقلم د. عادل رفوش
لم يكن التنسيق مع شيخي الجليل العلامة بشار عوّاد معروف حفظه الله وهو خارج المغرب إلا ضرباً من الأماني ما زلت أسعى وراءها وأتخوف من تعثرها لبعد الشُّقة بين المشرق والمغرب؛ ولما يتخلل مثل هذه الفعاليات من عقبات وتحديات من هنا ومن هناك وربما فاجأتْكَ في آخر اللحظات.. ولم يحصل لي به الاطمئنان والفرح حتى رأيته معتلياً منبره ليحاضر في مراكش.. فإنه لما كانت ليلة مقدمه المغرب لم تكن أحوال الطقس بالتي تساعد على الحركة فخشيت أن يتجدد طارئ أو يتولد عارض.. فاتجهت إلى الدار البيضاء بنفسي لأكون في استقباله؛ ولكن لم يتيسر لي التواجد إلا ظهر الاثنين؛ لنجتمع في غداء علمي جددتُ فيه اللقاء مع شيخي حفظه الله كما عهدته منذ أيام الشارقة رفقة شيخنا المحقق حاتم الضامن رحمه الله والذي كان قد شرفني بكل كتبه وأذِن لي بطباعتها في المغرب.. فهرعت إليه كعادتي مقبلاً رأسه ويديه وهو يأبى كعادته في التورع والتواضع فقلت له: “يا سيدي لا أتمالك نفسي أمام يدٍ مباركة عايشت سنة الحبيب المصطفى وحققت في أحاديثها ورواتها مئات الألوف..” ليس تهذيب الكمال وأطراف المزي والمسند المعلل إلا بعض آثارها العظيمة..
وإن إمامنا البخاري لما ترجم لوالده إسماعيل ابن إبراهيم في التاريخ لم يقتصر على المحتاج إليه روايةً من سماعه من إمامنا مالك ومن حمّاد بن زيد بل زاد على ذلك قوله “وصافح ابن المبارك” مع أن هذا لا أثر له في الرواية مباشرة ولكنه شرف عظيم أن يرى بعينيه ويمس بيديه ذلك الإمام الكبير المبارك ابن المبارك حتى ولو لم يرو عنه فإنَّ ثَمَّت علماً لا علاقة للحروف به بل هو مددٌ لدنِّيٌّ وعطاءٌ روحاني كما قال جل ذكره: ﴿فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما﴾..
وكعادة شيخنا العلامة بشار عوّاد حفظه الله في الاستئناس والتودد؛ قام لي من كرسيه وجلب بنفسه كرسيا وجلس بجانبي؛ فسألني الفضلاء الأكارم الذين شملتهم تلك المائدة في قاعة الاستضافة “بدار الحديث الحسنية”.. عن أعمال مؤسسة ابن تاشفين فطفقت أتحدث بحسب “نظرية المِصعد” تركيزاً وإسراعاً؛ فهذا مجلس غداء والوقت ضيق جدا؛ مجلس يجتمع فيه رجال التحقيق وعلى رأسهم العلامة بشار عوّاد معروف من المشرق.. ومن المغرب الدكتور أحمد شوقي بنبين صاحب الباع الطويل في علم المخطوطات واليد الجميلة على أهله والمعتنين به جزاه الله خيراً.. وقد أبدى تفاعله الإيجابي مع المؤسسة ودعا لها بالتوفيق والسداد ومزيد عطاء؛ ونوه باللقاء الذي تستضيف فيه شيخنا العلامة الكبير فكانت من حسنات الدكتور بنبين وأخلاقه الكريمة؛ والتي أبى ونحن في مجلسنا معه؛ وخاصة بعدما صعدنا لاحتساء القهوة والشاي في القاعة العلوية “بدار الحديث الحسنية” إلا أن يُتَوِّجَهَا ببهجته المراكشية المعتادة؛ ويحدثنا عن بعض خصائصها التاريخية؛ والتي تفاعل معها الأساتذة الكرام ومنهم: د أيمن فؤاد السيد من جمهورية مصر العربية (وهو المؤرخ المعروف والكتبي المشهور ومن مؤلفاته القيمة: 1-دار الكتب المصرية تاريخها وتطورها 2-التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن 3-الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات.. وغيرها )
ود أحمد الدبيان من المملكة العربية السعودية ود محمد دريوش من الجزائر ود صالح شهسواري حفظهم الله أجمعين.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أطارح الدكتور بعض المراكشيات من المزاحات والنكات كيف لا والهوىٰ غلاَّبٌ..!! وكان شيخنا بشار عوّاد مهتما بكل فائدة تقال أو تحكى؛ حتى ولو كانت بالعامية فالشيخ على عادة العلماء في تقييد الفوائد وفي الانتشاء بالشوارد.. ولا يخليها من تعليق يثريها..
ولما تجاذب الدكتور شوقي أطراف الحديث حول الحضارة الإسلامية؛ وبعض مظاهرها في الاهتمام بالنظافة؛ وانتشار المياه والسواقي والحمامات في أشهر مدنها؛ أفادنا الشيخ بشار بالتشابه الكبير بين تلك الظواهر في كل العصور الإسلامية؛ وإلى آخر الدولة العثمانية؛ على ندرة ما قد يشوبها من محظورات حذرت الشريعة منها في جملة من الأحاديث.. وأفاد الدكتور أيمن أن من ميزات تلك العادة أنها هي الخطوة الأولى لبناء الأسرة واختيار الزوجة الصالحة من طرف أهل العريس؛ إذ ترى فيها بعضُ الأعرافِ فرصةً لأمِّ العريس وأهله أن يتعرفوا على العروسة عن كثَبٍ لا زورَ فيه ولا رُتُوش.. اللهم إلا مع زماننا هذا حيث تجاوز الخداع المدى وشاعَ التزوير في كل مجال حتى في صناعة الجمال.. وصارت عموم الحمامات ضراراً وخطراً لا يلجأ إليها إلا المضطرُّون وأما نوادي SPA فالمنكر الصراح إلا من رحم الله وسلَّم..
فاحذروا يا شباب المستقبل وعليكم في المصاهرة بأهل الدين والخلق والأصالة؛ وتخيروا لنُطَفكم فإن العرق دسَّاس ؟كما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
ثم أفادنا د أيمن المؤرخ فائدة لطيفة حول المثل المصري الذائع: “اللي اختشوا ماتوا” وأنه ليس ذماًّ للحشمة والحياء ولكن تخليد لواقعة وقعت في القاهرة إذ شبَّ حريق في أحد الحمامات النسائية؛ ومن شدة التدين والمحافظة في نساء ذلك الزمن أبينَ الهروب وهنَّ غير مستورات؛ فبقينَ داخل الحمَّام رجاء انطفاء الحريق ولم يخرج منهن إلا القليل؛ وكل من استحيت أن تُرى مكشوفةً كان مصيرها الموت داخل حريق الحَمَّام؛ فصار مثلا يضرب لضريبة الحياء الغالية؛ وأن أهله بحق لم يبق منهم إلا القليل؛ في زمان كثرت فيه الوقاحة وعمت فيه الجرأة ليس على الأعراف والأخلاق فقط بل حتى على الشعائر والمقدسات.. فسمعنا من الساقطات الاستهزاء بأَذان الصوامع؛ ورأينا من السفهاء التهكم بالمساجد!! “ومن يهن الله فما له من مكرم” وصدق من قال: “اللي اختشوا ماتوا”..
ثم انصرفنا نزولاً لقاعة المحاضرات ليلقي شيخنا الكبير محاضرته في رحاب دار الحديث الحسنية .. يتبع ..
( في الحلقة القادمة نحدثكم عن هوى شيخنا “المالكي”.. وتقديره “المَلَكي” للحسن الثاني رحمه الله..)
?مع تحيات: محبكم/عادل رفوش /المشرف العام والمدير العلمي لمؤسسة ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع بمراكش?
(المصدر: موقع د. عادل رفوش)