أكد فضيلة الدكتور حسن عبد الغني أبوغدة أستاذ الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية بجامعة الملك سعود بأن العالم الحديث عرف ثلاثة أنظمة اقتصادية : أولها : نظام الاقتصاد الحر ” الرأسمالي ” , وثانيها : نظام اقتصاد الدولة أو الاقتصاد الجماعي ” الاشتراكي “، وثالثها: النظام الاقتصادي المختلط .
وقال: إن نظام الاقتصاد الحر يقوم على مبادرات الأفراد المطلقة وغير المحدودة للحصول على أقصى منفعة بأقصى حرية , بمنأى عن تدخل الدولة في آلية الحياة الاقتصادية جملة وتفصيلا إلا ما يتصل بمصالح الأمن الداخلي والخارجي. ونظرا لتزايد الأزمات وتسلط أصحاب الأموال على العمال , وبروز المظالم الاجتماعية في توزيع الثروات , اضطرت الدولة الآخذة بهذا النظام إلى التدخل لعلاج هذه الآثار السلبية , علما بأن هذا التدخل منها غير مسموح به أصلا في نظرية الاقتصاد الحر , وإنما قامت به من قبيل الإجراءات التنظيمية الاستثنائية , لأن أصل النظرية يؤكد على إبعاد الدولة عن النشاطات الاقتصادية . وهكذا صار معنى تدخل الدولة مفروضا ومقحما على نظرية الاقتصاد الحر وليس أصيلا فيها .
أما النظام الاقتصادي الجماعي الموجه, فيقرر أن الدولة وحدها هي المسيطرة مطلقا على آلية النشاط الاقتصادي وأدوات الإنتاج هي وحدها المؤهلة للقيام بعبء التوزيع, كما أنها وحدها تنفرد بالاستيراد والتصدير. أما الأفراد: فليسوا سوى عمال لديها, تلقي إليهم تعليمات الدولة فينفذوه. وهذا لاشك , يناقض الفطرة الإنسانية في التملك والحيازة ويحد من المبادرات والإبداعات الفردية . وأما النظام الاقتصادي المختلط فمأخوذ بعضه من احد النظامين السابقين.
وعن موقف الدولة من النشاط الاقتصادي ذكر فضيلته:
إن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي على سبيل الإشراف والتوجيه أمر مقرر ابتداء في الإسلام بمعنى أن الحرية الاقتصادية هي الأصل في النظام الإسلامي , وتقوم الدولة بمقتضى هذا الأصل , بمراقبة هذه الحرية , لئلا تخرج عن مقاصدها في تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الأفراد وتأمين التوازن والكفاية في المجتمع .وإذا كان النظام الاقتصادي الحر لا يبيح للدولة أصلا التدخل في النشاط الاقتصادي, بعكس النظام الاقتصادي الجماعي الذي يمنح الدولة كل شيء ويمنع الأفراد من كل شيء فإن النظام الاقتصادي الإسلامي هو وسط بين هذين الاتجاهين , حيث أعطى الدولة الحق الطبيعي في مراقبة وتوجيه النشاط الاقتصادي الذي يعتمد أصلا على المبادرات الفردية والحرية الاقتصادية.
وتابع حديثه قائلا: إن الحرية الفردية الاقتصادية أمر مقرر في الإسلام, فالفرد المسلم حر في التملك , يمتلك وسائل الإنتاج وغيرها , وهو حر في إقامة المشروعات الفردية والشركات الخاصة دون أن يضر أو يؤذي الآخرين .
وللمسلم اختيار النشاط الاقتصادي الذي يريده , وأن يعمل العمل الذي يراه صالحا له ومنتجا فيه , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((اعملوا , فكل ميسر لما خلق له )) رواه الطبراني.
وللمسلم أن ينتج السلع والخدمات التي تروق له, وأن يتاجر في السلع والخدمات التي تناسبه, وأن يتنافس مع غيره تنافسا شريفا, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون )) رواه ابن ماجه. وفي حديث آخر رواه مسلم: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم ببعض )).
وتحقيقا لمبدأ الحرية والتراضي, منع الإسلام بيع المكره وبيع المضطر, وحرم الغش والغرر والغبن الفاحش, لأن حرية المسلم تنتهي عندما يبدأ حق الآخرين, فلا يجوز أن يستعمل حريته في الاعتداء على حقوقهم.
هذا عن الحرية الاقتصادية في الإسلامية, وأما عن موقع الدولة من هذه الحرية, فهو موقع الرقيب الموجه الذي يشجع الحرية الفردية ويكبحها من أن تتعدى على مصلحة المجتمع. والأصل في وظيفة الدولة الرقابية قول الله تعالى: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )). الآية 104 من سورة آل عمران.
والأصل فيها أيضا ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام – أي كومة قمح – فأدخل يده فيها , فنالت أصابعه بللا , فقال ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يارسول الله – أي أصابه المطر – قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس , من غشنا فليس منا . هذه هي سلطة الرقابة في الإسلام .
وبناء على ماتقدم , يكون تدخل الدولة في المجال الاقتصادي أصلا معترفا به في الإسلام , إقامة الميزان الدقيق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة , وهذا التدخل له حالات :
وضرب الدكتور أبوغدة أمثلة عن تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية :
ومن هذه الحالات : منع الأعمال والنشاطات المحرمة في الإسلام كالقمار والربا والفجور وصناعة الخمور والمخدرات وتوزيعها وأعمال الغش في الصناعات والتجارات , وأعمال الرشوة في الوظائف والإدارات وغير ذلك.
ومن هذه الحالات : مراقبة العلاقة بين أرباب العمل والعمال , ومنع ظلم بعضهم لبعض , وضبط الأجور وساعات العمل ورعاية العمال , وصيانة حقوق أرباب العمل من تحكم العمال , ولفت النظر إلى الاهتمام بالصناعات والسلع التي يحتاجها المجتمع وإزاحة البطالة والحث على توفير فرص العاطلين عن العمل , روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره , خير له من أن يسأل أحدا , فيعطيه أو يمنعه)).
ومن حالات تدخل الدولة المقرر أصلا في الإسلام : مراقبة حركة السوق في الإنتاج والتوزيع والعرض والطلب , ومنع افتعال الأزمات و التحكم في الأسعار و السلع , وحذف الوسطاء الذين يغلون الأسعار, ومن صور هذه الأمور منع الاحتكار وتلقي الركبان , وبيع الحاضر للباد والغبن الفاحش للمشترين , وحلف الأيمان الكاذبة لترويج السلع , ونحو ذلك مما وردت فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أثناء تجواله في الأسواق ومراقبته لها .
أما أجهزة الدولة التي تمارس الرقابة والتوجيه والتدخل في نظام الإسلام فهي جهاز القضاء , إضافة إلى جهاز الحبسة المعروف في التاريخ الإسلامي , والذي وزعت بعض اختصاصاته اليوم على عدة إدارات رسمية من أجهزة وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية والداخلية والتجارة والصناعة وغيرها.
مختتما حديثه بأن الحرية الاقتصادية في الإسلام حرية مراقبة منذ البداية بسلطان الدين والدولة, لتنظيم الحياة وإقامة العدل ومنع الظلم وتحقيق مصالح الناس وتأمين الخدمات لهم. وصدق الله العظيم القائل: ((قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) الآية 16 من سورة المائدة .
المصدر: الملتقى الفقهي.