مقالاتمقالات مختارة

د. حامد ربيع.. مفكر الأمة الإستراتيجي الغائب الحاضر

د. حامد ربيع.. مفكر الأمة الإستراتيجي الغائب الحاضر

بقلم محمود المنير

تمر هذا الشهر (أبريل) ذكرى ميلاد د. حامد ربيع، الذي يعد واحدًا من أهم علماء الفكر الإستراتيجي العرب في القرن العشرين، ينتمى لجيل الرواد الكبار في تاريخ أمتنا، الذين حملوا اعتزازًا شديدًا بهويتهم العربية والإسلامية وبتراث أمتهم، ومن المؤمنين بقدرتها على بناء مستقبلها، واستعادة ريادتها الحضارية وقد ترك لنا د. حامد ربيع تراثًا علميًا رصينًا في مجال العلوم السياسية والإستراتيجية، لم تستفد منه أمتنا العربية حتى اليوم الاستفادة الكاملة، وفي هذا المقال، إطلالة سريعة على حياة وفكر د. حامد ربيع الإستراتيجي.

لمحات من سيرته

ولد الدكتور المفكر الإستراتيجي حامد عبدالله ربيع في أبريل 1925م، والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1945، ثم التحق بسلك النيابة، لكنه لم يستمر فيه طويلًا، حيث التحق بالعمل الأكاديمي في جامعة الإسكندرية التي ابتعثته إلى الخارج للدراسة، فذهب إلى إيطاليا عام 1948، حيث حصل على 4 درجات دكتوراه من جامعة روما 1950، ثم حصل على درجتي دكتوراه في فلسفة القانون وفي العلوم النقابية عام 1954 من جامعة باريس، وتوفي رحمه الله بالقاهرة في 10 سبتمبر 1989م.

الدكاترة.. في فنون عدة

حصل في مسيرته العلمية الطويلة على خمس رسائل دكتوراه؛ اثنتين من باريس، وثلاث من روما، وست دبلومات في تخصصات مختلفة، حيث حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع التاريخي مع التخصص في مجتمعات البحر المتوسط، من جامعة روما في صفر 1370هـ/ نوفمبر 1950م، ونال الدرجة نفسها في فلسفة القانون مع التخصص في النظرية الاجتماعية بعد عدة أشهر، في ربيع الآخر 1370هـ/ يناير 1951م.

وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم النقابية مع التخصص في اقتصاديات العمل، في شوال 1373هـ/ يونيو 1954م، كما حصل على درجة الأستاذية في القانون الروماني، في رجب 1375هـ/ فبراير 1956م، ثم نال درجة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس، في جمادى الآخرة 1379هـ/ ديسمبر 1959م، ثم درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس، في 1383هـ/ 1963م، ودرجة “الأجريجاسيون” من الجامعات الفرنسية.

مناصب علمية

حصل على خمس رسائل دكتوراه اثنتين من باريس وثلاث من روما وست دبلومات في تخصصات مختلفة

تقلد د. ربيع العديد من المناصب العلمية والأكاديمية، وكان له دور بارز في مجال البحوث والدراسات السياسية والإستراتيجية، ومنها:

– عام 1961، عمل مساعداً للمستشار الشخصي العلمي للرئيس جمال عبدالناصر.

– عام 1979، عمل مديرًا لمعهد البحوث والدراسات العربية ببغداد، ثم مستشاراً سياسياً للرئيس العراقي صدام حسين.

– عمل أستاذًا ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

– كان أستاذًا خارجيًا في جامعات الخرطوم، بغداد، روما، باريس، وجامعات دمشق والجزائر والكويت والإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة ميشيغان الأمريكية.

– قام بإنشاء مركز الدراسات الإنمائية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأشرف على إنشاء المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية قبل انتقاله للعمل في معهد البحوث والدراسات العربية في بغداد.

إنتاجه الفكري

ترك د. ربيع تراثًا علميًا كبيرًا، يربو إلى 200 كتاب ودراسة، فضلًا عن مئات المقالات العلمية، من أهمها:

– إطار الحركة السياسية في المجتمع “الإسرائيلي”.

– مصر تدخل عصر النفايات الذرية.

– الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي.

– اتفاقيات كامب ديفيد.. قصة حوار بين الثعلب والذئب.

– الاستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر.

– من يتحكم في تل أبيب؟

– النموذج “الإسرائيلي” للممارسة السياسية.

– نظرية الأمن القومي.. والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط (دار الموقف العربي 1984).

– سلوك المالك في تدبير الممالك– تحقيق.

– نحو ثورة القرن الحادي والعشرين: الإسلام والقوى الدولية.

– التجديد الفكري للتراث الإسلامي وعملية إحياء الوعي القومي.

– التعاون العربي والسياسة البترولية المعاصرة.

كما نشر عشرات المقالات في جريدتي “الأهرام” و”الوفد”، ونشرت دار الشروق الدولية بمصر مجلدين كبيرين يضمان بعض أعمال د. ربيع، مما لم ينشر من قبل، وذلك بجهود تلاميذه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة.

قدّم أكثر من 45 كتابًا وكتب أكثر من 350 دراسة منشورة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية

3 قوى تنخر في جسد الأمة

في آخر مقالاته التي عنونها بـ”سوف أظل عربيًا”، أشار د. ربيع إلى أن هناك 3 قوى تنخر في جسدنا، وتتسلل في منطقتنا، لتكون نوعًا من السرطان الذي هو وحده قادر على شل الإرادة، هي:

أولًا: القيادات غير الواعية.

ثانيًا: الثروة التي وضعت في أيدٍ غير صالحة وغير أمينة على استغلالها.

ثالثًا: أهل الفكر الذين خانوا قضية أمتهم، وأضحوا أبواقًا وظيفتها القيام بعملية الزفة السياسية للحاكم أو للمستعمر الذي لا يزال ينشب بأظفاره في جسدنا، ولم نستطع بعد أن نزيله كلية عن قدراتها الحقيقية.

قوة الشعوب الحقيقية

ينصح د. ربيع الأجيال الجديدة ويدعوها لتدرك جيدًا أن “قوة الشعوب ليست فقط في أن تعرف كيف تخلق قياداتها الصالحة الواعية والقادرة على تحمل المسؤولية، بل إن القوة الحقيقية للأمم الخلاقة وللشعوب الحية اليقظة هي أن تملك تلك الفئة المختارة، القادرة على أن ترتفع عن مستوى الفرد العادي، لتبرز كإرادة للتحدي، مغامرة بنفسها لتصحيح مسارات الطبقة القيادية، ولو على حساب حياتها”.

متى تنهض أمتنا؟

يؤكد د. ربيع -رحمه الله- ثقته في نهوض أمتنا من كبوتها، لكنه بعلميته الصارمة لا يجعل ذلك حلمًا أو همًا يستكين إليه، لا، ولكنه يرى أن ذلك لن يتحقق، ولن تقف أمتنا على قدميها إلا إذا عادت إلى “تعاليم آبائنا تنهل منها رحيق القيم وقصة البطولة وعظمة الإنسانية المسلمة”.

جوهر وجودنا السياسي

يرى د. ربيع أن العروبة هي جوهر الوجود السياسي لهذا الجزء من العالم الذي ننتمي إليه، فالعروبة ليست كلمة تطلق أو شعارًا يرفع، لكنها قناعة منبعها الإيحاء الداخلي الذي لا يعرف التفسير المنطقي للأشياء، ولا يقتصر على التبرير السلوكي للمواقف، إنها دين يسيطر على المشاعر فيغلفها بوعاء الانتماء، ليجعل كل نبضة في الجسد، وكل جزء في الذات، وكل قطعة في الكيان، وهي لا ترتجف ولا تستجيب إلا لكلمة واحدة، ولا تنطلق منها إلا صرخة واحدة: “أنا عربي، وسوف أظل عربيًا، وليس ذلك مرده إيمان أعمى بانتماء فرض عليّ بحكم الميلاد، بل إنه نتيجة قناعة متعددة الأبعاد، هي الخلاصة النهائية لمتابعة تاريخ الإنسانية”.

الوجود السياسي.. وموقع الإسلام

كان د. ربيع يؤكد أن الحضارة لا تنشأ من العدم، وكان الذي يشغله موقع الفكر الإسلامي من التراكمات الحضارية في العالم، حيث إن الخبرة الحضارية الإسلامية لم تكن مغلقة على نفسها، ولكنها ملكت قدرًا من الانفتاح على الآخرين سواء في الشرق أو الغرب وتعاملت مع كافة الحضارات في العالم، ولم تقف أمامها موقف السلبية، وإنما أوجدت قنوات من الاتصال معها، ومنطق الوجود يفرض أنه لا تعامل بدون تأثير وتأثر.

الخطر الصهيوني

رأى أن الكيان الصهيوني يمثل خطرًا على الأمن القومي العربي، وأن الصراع بين العرب و”إسرائيل” هو صراع وجود وليس صراع حدود، ومن ثَمَّ فلا مكان للحديث عن التعايش بين العرب و”إسرائيل”، ويرجع وجهة نظره إلى عدة مبادئ اعتبر أنها حاكمة لإدراك النخبة “الإسرائيلية” بغض النظر عن اتجاهاتها السياسية، أهمها أن السلام يعني من وجهة نظرهم توفير الحد الأدنى من الأمن للدولة العبرية، بما في ذلك حقها في استباق التطورات التي يمكن أن تشكل تهديداً على سلامتها.

وتناول د. ربيع في كثير من مؤلفاته الخطر الصهيوني، وبيَّن لنا كيف نواجهه ونفهم جذوره الممتدة في أمريكا وأوروبا، واتسمت كتاباته في المسألة الصهيونية بالصرامة العلمية والدأب الشديد والدقة في تناول كل كبيرة وصغيرة، وفوق هذا كانت كتاباته تمتاز بما تحمله روح الإباء والكبرياء العربي، وتأمل قوله عن الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، لتعرف كيف يكون العالم الحقيقي: “هل يستطيع عالم عربي، مؤمن بقضية أمته، وقد وضع نصب عينيه أن يجعل من ثقافته وعلمه أداة من أدوات التحول الفكري والإيناع الحضاري لتلك الأمة، أن يكتب عن “إسرائيل” دون كراهية؟! وهل يستطيع أن ينسى أن الدولة العبرية هي مصدر لجميع المآسي التي يعيشها الواقع العربي؟”.

د. ربيع: الهجوم اليهودي الصاعق المقبل سوف يبدأ بالدول الثلاث البعيدة عن حدودها.. العراق وليبيا واليمن

دور الأجيال القادمة

خاطب د. ربيع الأجيال العربية الجديدة، مؤكدًا أن المحنة التي تمر بها أمتنا ليست محنة جيل واحد، ومشددًا على أهمية أن تعي الأجيال الجديدة أن الآباء بذلوا جهودهم للنهوض بالأمة، وأنهم أصابوا وأخطؤوا، ودور الأجيال الجديدة أن تتعلم من الأخطاء، وأن تبني ممارساتها الجديدة على هدي من العلم والإيمان والثقة بالذات الحضارية والاعتقاد في رسالة أمتنا ووظيفتها الحضارية.

معاركنا التي يجب أن نخوضها

يعتقد د. ربيع أن هناك معارك كثيرة على الأمة أن تخوضها لتحقق نهضتها وتبدأ في بنائها الجديد، ومسؤولية قيادة هذه المعارك تقع على عاتق الرجال الذين يجب أن يحملوا إيمانهم وعلمهم ويشقوا طريقهم وسط جماهير الأمة، يعلمونهم تقاليدهم وقيمهم وتراثهم، مكونين جيش التحرير الفكري الذي من عنده تبدأ مسيرة الأمة نحو مستقبلها المأمول.

3 عناصر للتغيير

لا تعدو عناصر التغيير في أي مجتمع -كما يقول د. ربيع- 3 عناصر، هي: الشباب والعقول والقيادات.

فالشباب بطبيعته متحفز، والعقول وظيفتها الحقيقية هي التجديد والإبداع، والقيادات لا تصير كذلك إن لم تكن مستعدة لأن تقود المجتمع في مسالك جديدة تسمح بحل مشكلاتها دون أن تفقد تقاليدها.

المفكر ضمير أمته

يشدد د. ربيع على أن هناك لحظات في تاريخ المجتمعات، يتعين فيها على المفكر والفيلسوف أن يخاطب رجل الشارع، يبث فيه عناصره النفسية الدفينة، ويدفع -من خلال قرع الضمير الجماعي- ذلك الرجل العادي ليحيله إلى قوة خلاقة، تنطلق في عملية إيمان بالذات لتصير فيضانًا يتحكم في مصائر الحركة، فمهمة العالم الكفاحية تتمثل في إرشاد أمته وترقيتها من حالات التخلف إلى الرقي والحضارة والتمدن.

فالمثقف موقف، والمفكر السياسي إبداع في التعامل مع الموقف، ومعنى أن تكون عربيًا اليوم، أن تعيش حياة مليئة بالمخاطر، ومعنى أن تكون مفكرًا عربيًا في زمن السقوط هو ألا يقف أي عائق بينك وبين تصميمك على مجابهة هذا كله.

لحظات فاصلة

يؤكد د. ربيع أن في تاريخ كل أمة تمر لحظة معينة، فإذا بها تصاب بنوع من الغشاوة الحقيقية، تضطرب مفاهيمها، ويصيب مدركاتها عدم الوضوح، ويسيطر على عقلها عدم الصلاحية، أما قياداتها بجميع مستوياتها فهي مهلهلة لا تدري أين الطريق الصحيح، قيادات سياسية فقدت الوعي، وقيادات عسكرية يصيبها الترهل، أما عن القيادات الثقافية فهي لم تعد سوى أبواق تهلل وترقص وتطبل.

ولا خروج من هذه اللحظة إلا بالتمسك بتراث الأمة وقيمها، والقيام بوظيفتها التي تحتمها عليها قيمها، والانطلاق من إرادة واثقة في الله والناس للتغيير، وقدرتنا على تحويل أنفسنا وعالمنا من رعب الضياع والتفكك الذي تعيشه أمتنا.

مفتاح الإمساك بالمستقبل

عاش د. ربيع عقدًا كاملًا من حياته راهبًا في محراب العلم، ثم نزل إلى واقعنا المعاصر ربانًا وقائدًا ومعلمًا في مجال التفكير الإستراتيجي، ليسلط الأضواء على ما نمتلك من إمكانات وقدرات وموارد، وباعثًا في طلابه أهمية تأصيل الهوية، باذلاً كل الوسع لغرس الوعي الجمعي في أبناء الأمة بتراثهم الحضاري، من خلال القيام بالدور الحضاري للأمة، باعتباره مفتاح الإمساك بالمستقبل.

الوفاة الغامضة

وقد توفي د. ربيع بالقاهرة، في 8 صفر 1410هـ/ 10 سبتمبر 1989م، وهو يهم بكتابة مقاله الحادي عشر في سلسلة مقالاته “مصر والحرب القادمة”، حيث جاءت وفاته في ظروف غامضة، وقد تحدث البعض عن وجود شبهة في وفاته، نظراً للظروف الغامضة التي لابست الوفاة، ولكن لا يوجد أي دليل ينفي أو يثبت ملابسات وفاة هذا المفكر والعالم الكبير، فهي من الأسرار التي دفنت بوفاته رحمه الله.

ربيع.. الغائب الحاضر

رغم أن د. حامد ربيع غاب عنا بجسده، فإنه حاضر معنا بفكره وعلمه وآرائه وتحليلاته الصائبة ورؤيته الثاقبة لما تمر به الأمة من معضلات وتحولات سياسية وإستراتيجية، ومن المحتم علينا اليوم أن نعيد قراءة فكر د. ربيع بعيون واقعنا المعاصر، وسنجد الكثير من الإجابات الشافية للكثير من معضلاتنا السياسية والفكرية والإستراتيجية.

رحم الله عالمنا د. حامد ربيع رحمة واسعة، وسلام عليه في الخالدين.

 

 

 

___________________

مصادر ذات صلة:

1- حامد ربيع.. الموهوب المغبون (في ذكرى وفاته: 8 صفر 1418هـ)، مصطفى عاشور، إسلام أوين، https://bit.ly/39DvLtu

2- نيفين مسعد: حامد ربيع راهب في محراب العلم– مجلة الهلال السنة (111) أغسطس 2003م.

3- أخطر ما قال حامد ربيع، هشام الحمامي، https://bit.ly/2OkGem8

4- حامد ربيع: التجهيل المُريب لسيرة رجل عظيم! بقلم.. محمد السيد أبو ريان، https://bit.ly/3wlyl0R

5- د. حامد ربيع.. عالم الأمة وعدو “إسرائيل”، رؤيا للدراسات المتخصصة، https://bit.ly/3du8fjN

6- حامد ربيع أحد الأعلام في الفكر السياسي الإسلامي، محمد سيد بركة، https://bit.ly/3uhYg7N

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى