د. الناجي لمين يكتب: المنطق العلماني في خطاب الدعاة .. النقاب نموذجا
أقرر في البداية أن لا مشكلة عندي مع العلمانية “كمفهوم سياسي أو فكري أو أيولوجي”، إنما مشكلتي مع بعض “الدعاة” الذين يراجعون بعض الأحكام الشرعية المفروغ منها وهو يستبطن منطقا علمانيا “صاغطا”.
ومن أمثلة ذلك أنني استمعت إلى شريط متلفز يُنسب لأحد رموز الحركة الإسلامية ببلدنا الحبيب المغرب ينقل فيه عن الأستاذ عبد الحميد أبي شقة رحمه الله، صاحب الكتاب المشهور “المرأة في عصر الرسالة” أن النقاب عادة، وأيده وتحمس له.. وأحب ان أعلق على الجزء الذي استمعت اليه بما يلي:
1_ هذا خرق للإجماع ومخالفة للعمل المتوارث المستندَيْنِ إلى الايات والاحاديث التي تحث بعمومها على الستر والحشمة وإخفاء الزينة.. وهي معروفة لدى الاستاذ. أضف اليه الإجماع على وجوب الحجاب مطلقا بالنسبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، استنادا الى قوله تعالى: “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب”، بل مِن العلماء مَن يراه عاما في ازواح النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيرهن، ولكن نحن لا نتحدث مع الاستاذ الا بالاجماع.. اما الخلاف فإن الاستاذ ابا شقة والاستاذ المُشيد ببحثه ليسا أعلم من بعض الصحابة الذين أوجبوا على المرأة تغطية الوجه، على رأسهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود. مَن نُصدق: هذا الصحابي الجليل الذي عاش في الجاهلية وخبر عاداتها وتقاليدها ثم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله، أو نصدق الاستاذ أبا شقة؟.
وهل الأستاذ أبو شقة من أهل الترحيح بين المذاهب كلها، وهل تأليفُ كتاب من ست مجلدات مثلا كافٍ لصحة الفكرة.. ولكن هذه هي ثقافة “السوبرمان” التي ابتلينا بها في هذا العصر. نحن انتظرنا نحو أربعة عشر قرنا حتى جاء هذا الاستاذ ليكتشف هذا المستور..
(أما مَن قال إنه بدعة فقد كثرت الردود عليه في القرن الماضي).
ثم إن المذاهب الأربعة في المتون المحررة وشروحها اتفقت على وجوب تغطية الوجه عند تحقق الذريعة.
2_ استعماله لمصطلح “الضلاميين” يؤكد الفكرة التي جعلتُها إطارا لهذا المنشور، وهي “استبطان” الفكر العلماني في خطاب بعض الدعاة.
3_ كتاب الأستاذ أبي شقة “المرأة في عصر الرسالة” هو تطوير وتسويغ لكتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، والقاسم المشترك هو أن أغلب رموز “الصحوة الاسلامية” متأثرون بمدرسة المنار، وكل من الاستاذين قاسم أمين ورشيد رضا تلميذ للشيخ محمد عبده..
4_ تَعلُّل الاستاذ بالنواحي الامنية وبعض الاجراءات القانونية هو مجرد “هواجس” وليست تعليلات تتغير بها الاحكام، بدليل أن هناك نساء بالمغرب وغيره يتعذر إحصاؤهن يلتزمن النقاب.. وهذا الالتزام لا يعرقل لا وظيفة الجهاز الامني في الدولة، ولا سير بعض الاجراءات القانونية.. وقد كان القضاة والعدول في المغرب يُلزمون النساء بكشف وجوههن عند الشهادة او عند الزواج.. بل نص الفقهاء على انه يجوز للطبيب عند الضرورة أن يطلع على بعض ما لا يجوز كشفه من المرأة..
وليعلم الاستاذ أن تَسَتر الرجال في ثياب النساء كان عادة لرجال المقاومة بالمغرب قبل تاريخ ميلادي وتاريخ ميلاده، ولا نعلم الى حد الآن أنَّ تستر الرجل في ثياب المرأة أصبح ظاهرة متفشية بين المجرمين واللصوص..
ثم إن هذه التعاليل وغيرها هي التي يتعلل بها العلمانيون الذين يَنصب الاستاذ لهم العداء، وهو يسير وراءهم بدون زيادة ولا نقصان، بل تعليلُه أخطر، لأنه مغلف بغلاف الشريعة، كما يفهمها الأستاذ.
وعليه أن لا ينكر على العلمانيين الذين يرون في لباس المرأة المسلمة عموما إعاقة في الحياة المدنية والدولة الحداثية..
5_ ما قاله الاستاذ “الداعية” من ان الاحكام الشرعية لا تُميز بين الأمَة والحرة عجيب غريب، لأن هناك أحكاما شرعية كثيرة خاصة بالإماء وليس عدم النقاب فقط، منها قوله تعالى في الإماء: “فإذا أُحصِنَّ (أي الاماء) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب”، وقوله تعالى: “ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ماملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات”، وقوله تعالى: “والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواحهم او ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين”…. ثم إن الأَمَة إذا كانت تحت العبد أعطتها السُّنةُ الحقَّ في أن تنفصل عن زوجها العبد بمجرد أن تُعتَق، دون حاجة الى إجراءات قضائية، كما يدل على ذلك حديث بريرة، وهو صحيح مجمع عليه، في حين أن الحرة إذا كانت تحت العبد لا يحق لها ذلك الا بإجراءات قضائية كالخلع مثلا، او العيب الموجب للفراق.. ثم إن العبد والأَمَة يجوز بيعُهما قطعا والحُر والحرة لا يجوز بيعهما قطعا.. الى غير ذلك من الاحكام الخاصة بالعبيد. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بأحكام العبيد.. هذا مع تشوف الإسلام الى الحرية، وإنكاره الشديد للاستعباد، كما قرر ذلك الفقهاء.. وهذا موضوع آخر.
ثم إن هذه المقارنة بين الأمة والحرة التي تحدث عنها الاستاذ يترتب عليها شيء آخر لا يقول به الاستاذ (على ما أعتقد فيه)، وهو أن الامة ليس عليها تغطية الشعر ولا الساق، ولا الصدر..
فإذا كان الاستاذ غافلا عن هذه الامور البدهية في الشريعة فالواجب عليه أن يتقي الله تعالى في نفسه وفي الشباب الذين يقلدونه، والله سبحانه وتعالى يقول: “ولا تقف ما ليس لك به علم”، وأن لا يشغل الناسَ بقضية محسومة من قديم الزمان.. ويحسن به أن يوجه جهوده في المجال الذي يحسنه..
6_ أما إشارته الى حث السُّلطات لمنع النقاب إن رأت في ذلك “مصلحة” فإن الدولة ليست في حاجة الى هذه النصيحة.. وأُذَكر الاستاذ بأنه قد جَمَعَ قبل سنوات خلت مع بعض إخوانه آلافَ النساء للتظاهر عندما ظهر ما يسمى “خطة إدماج المرأة في التنمية”، فإذا كنتَ الآن يا استاذ تنصح الدولة بهذه النصيحة وأنت فرد، فلماذا عِبتَ على غيرك ما أبحتَه لنفسك؟، ولا فرق بين التصريح والإشارة اذا كان المعنى ظاهرا.
7_ لنفرض جدلا ان النقاب عادة ورثها المسلمون من الجاهلية، لكن هذه العادة توطنت فيهم عبر القرون، وأصبحت جزءا من هويتهم الثقافية. وعليه فلا يمكن أن نستحيب الى المنطق العلماني الحداثي الغربي فنشير الى إمكانية منع هذه العادة قانونا، ونُنيطُ منعها بتوهمات أمنية. فالهوية أمر مركزي في حياة الشعوب الحرة. لأنها جزء من تاريخهم الحضاري.
مثلا: الآن التحرش في الغرب والاغتصاب.. أصبح ظاهرة متفشية حتى بين السياسيين والمشاهير، مع وجود قوانين صارمة لعقاب الجناة.. ولكن الدولة لا تستطيع أن تمنع العري، ولا الاختلاط غير المشروط… لأن هذه الامور جزء لا يتجزأ من ثقافة الحداثة.
8_ حديث الاستاذ عن الحرية الشخصية في ارتداء النقاب: هو ايضا نزعة علمانية، لأن فيه خروج مسألة النقاب من الفضاء الفقهي الى الفضاء العلماني. وعلى الأستاذ بهذا المنطق ألا ينكر خروج المرأة نصف عارية، لأن ذلك داخل في الحرية الشخصية، وعليه ألا يَعُده مُنكراً، بالمنطق العلماني..
9_ كان العلماء ومنهم طائفة من الحركة الاسلامية منشغلين في القرن الماضي بما يُلقيه بعض “المتنورين” من شبهات حول بعض الاحكام الشرعية المحسومة، يُلقُون هذه الشبهات لتضييع الجهود، وإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية. وها نحن في هذا القرن بدأنا ننشغل بِمَن كنا نظن فيهم أنهم نذروا انفسهم للدفاع عن الشريعة وعن معالجة المشاكل الحقيقية للمجتمع. والذي يظهر لي ان عند بعضهم شريعة خاصة بهم، وهي التي يدافعون عنها، وليست الشريعة التي ورثناها. الله المستعان.. والله أعلم وأحكم.
(المصدر: هوية بريس)