مقالاتمقالات مختارة

د. البشير عصام المراكشي يجيب عن شبهة “الدولة الدينية”!!

د. البشير عصام المراكشي يجيب عن شبهة “الدولة الدينية”!!

بقلم د. البشير عصام المراكشي

سيقول قائلهم مثلا: “أنتم تدعوننا إلى الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي كانت متحكمة في رقاب الناس في القرون الوسطى، قبل أن تسقطها الشعوب المتشبعة بفكر الأنوار”.
والحق أن مشكلة من يقول هذا الكلام من وجهين اثنين، أولهما: قياس الحالة الإسلامية على الحالة الأوروبية؛ والثاني: الجهل بحقيقة المرجعية الإسلامية التي ندعو إليها. فجهلهم بما عندنا، فراغ معرفي يملؤونه بالعلم بما عندهم، وإن كان الفرق كبيرا!
فلنشرح هذين الوجهين، بما يوافق المقام من الاختصار:
أما الوجه الأول: فإن الحديث عن الدولة الدينية هو نظر إلى التجارب الإنسانية الزاخرة، بمنظار ضيق، هو منظار التاريخ الأوروبي الخاص، بتقلباته ومراحله المتعاقبة، التي أفرزت أفكارا ومصطلحات خاصة.
إن مصطلح “الدولة الدينية” مرتبط بتاريخ القرون الوسطى في أوروبا، حين كانت الكنيسة تتحكم في الحكام والشعوب بسلطة إلهية. فسلطة البابا مستمدة من الربّ مباشرة، وهو نائب المسيح على الأرض؛ لا يمكن مخالفته ولا الاعتراض عليه، لأن ذلك يكون اعتراضا على الرب نفسه.
وكان الحكام الزمنيون يحكمون بمنطق الحق الإلهي، فهم ما وُجدوا على رأس السلطة السياسية إلا لأن الرب اختارهم لذلك، فالاعتراض عليهم اعتراضٌ على مشيئة الرب. كما أن تنصيبهم في السلطة، وبقاءَهم فيها، مرهون برغبة بابا الكنيسة، ورضاه عليهم.
وهذا كله تسلط دنيوي باسم الدين، لا يجد مستندا له في دين صحيح ولا عقل صريح. ولذلك حين بدأت الحركة الإصلاحية الدينية، التحق خلق من الناس بها مختارين؛ ثم اكتمل التغيير بفكر الأنوار، وما انبثق عنه من أحداث كبرى، أنشأت الدولة المدنية الحديثة على أنقاض الدولة الدينية.
والسؤال الذي لا مندوحة لنا عن وضعه هنا: ما وجه الشبه بين الحالة الأوروبية والحالة الإسلامية، الذي يسوّغ إلحاق الثانية بالأولى؟
إن المنهج الإسلامي في الحكم -كما تدل على ذلك النصوص المتكاثرة- يقوم على أساس اختيار الحاكم بالشورى، ليكون وكيلا عن‎ ‎الأمة في تطبيق الشريعة وإقامة العدل وتحقيق مصالح الناس؛ للأمة الحق في محاسبته ومراقبته، والإنكار عليه إن أتى منكرا أو ضيع معروفا، وتقويمه إن اعوج، وعزله إذا استحق العزل بإتيانه ما يناقض مقصود الإمامة الشرعية. كما أن السلطة القضائية في التصور الإسلامي مستقلة عن السلطة التنفيذية، وللقاضي أن يستدعي الحاكم ويجبره على الامتثال لسلطان الشريعة. (وجميع ذلك مبسوط في دواوين العقيدة والسياسة الشرعية).
فما علاقة هذا بالدولة الدينية كما عرفتها أوروبا؟
ولكن أغلب هذه المعاني مجهولة عند العلمانيين المخالفين. وهذا يجرنا إلى:
الوجه الثاني: وهو أنكم – معاشر المخالفين – لا تعرفون عن المرجعية الإسلامية إلا نتفا من الأحداث التاريخية المنتمية إلى أزمنة حالكة من تاريخ أمتنا؛ وهي الأحداث التي ضخمها المستشرقون وأتباعهم، خِدمة لأطروحتهم المتمثلة في التسوية بين التاريخ الإسلامي والأوروبي، وبين الإسلام والمسيحية، في أفق التوصل إلى نتيجة واحدة، هي: كما جرفت الحداثةُ المسيحيةَ (أو على الأقل: جعلتها دينا منحصرا في القلوب، ذليلا، منزوع المخالب)، فلتجرف الحداثةُ الإسلامَ أيضا (والله متم نوره ..).
ونحن لا ننفي أن التاريخ الإسلامي عرف مراحل قاتمة طويلة، تملّص الحكام فيها من واجباتهم الشرعية، وأرادوها كِسرَوية ظالمة متجبرة؛ ولا ننكر أن جمعا من العلماء ساندوهم في بغيهم وسوغوه لهم – وإن كان آخرون قد صدعوا بالحق، وابتلوا بسبب ذلك، واعتزلت طائفة ثالثة تحت وطأة الإكراه.
ولكننا نقول: إن التاريخ الإسلامي عرف أيضا مراحل زمنية نيرة مباركة، نال الناس فيها أعلى ما يمكن من الحقوق الإنسانية، وتناغم الحاكم مع المحكوم، وخضعا معًا لحكم الله، الذي هو عدل كله، ومصلحة كلها.
ونحن حين نتحدث عن مرجعية إسلامية، فلسنا ندعو إلى فقه الظلم، الذي مارسه بعض الحكام وسوغه لهم فقهاء السلطان؛ ولا إلى فقه الضرورة، الذي مال إليه كثير من الفقهاء مضطرين، من باب تقليل المفاسد؛ وإنما ندعو إلى الأحكام النبوية، التي وضحها سيد الخلق بالقول والفعل، ومارسها الخلفاء الراشدون في أبهى صورها، في الشدة والرخاء، وفي الوفاق والخلاف؛ ثم تبعهم على ذلك بعض الحكام المستنيرين بأنوار النبوة، الخاضعين لحكم الله، المسلّمين لنصوص الوحي، المتبعين أحكام الشريعة المطهرة، المحققين للعدل بين الناس.
وهذه النماذج التطبيقية النيرة كافية للبرهنة على أن الأصل النظري الصحيح، ممكن التطبيق، لا كما يزعمه المبطلون؛ إذ النظرية إذا طُبقت مرة واحدة على الأقل، كان ذلك دليلا على عدم امتناع تنزيلها في الواقع.
فنحن ندعو إلى أن تكون مرجعيتنا هي هذه الشريعة الربانية، التي يتحقق بها العدل والصلاح للناس في دينهم ودنياهم، والتي تنضبط بها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تحت مظلة قيمية واحدة، تمنع الظلم والفساد. ولسنا ندعو إلى اتباع التاريخ الإسلامي حين انحرفت بوصلته في بعض قرون الانحطاط، فإننا نعد ذلك انحرافا مخالفا للأصل، كما يمكن أن يقع الخلل في أي نظام، فيعرف الناس أنه خلل يجب اتقاؤه.
ولعل للمخالف شبهة أخرى في هذا الباب، فلننظر فيها في مسامرة لاحقة إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا (ح5) من سلسلته مسامرات من وحي نقاش #الحريات_الفردية/قضية المرجعية..ج5.

(المصدر: هوية بريس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى