مقالاتمقالات مختارة

د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: المفتاح السحري.. لفقهاء السلطان

د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: المفتاح السحري.. لفقهاء السلطان

أعود ثانية لفتوى الأستاذ اللغماني التي أسسها على رأي كلسون في التمييز بين تأويل العلماء وتأويل من يمثلون سلطة من طبيعة عمى عنها ولم يحدد طبيعتها حتى يمرر ما أراد تمريره.

ولهذه العلة اعتبر فتواه من جنس فتاوى فقهاء السلطان ووصفتها بالحداثية لأنها بدلا من أن تقول قال الله أو قال الرسول تعوضهما بقال فلان أو فلان من الفقه الوضعي.

ومهما بحثنا في قواعد التأويل التي يتكلم عليها فقهاء القانون الحديث لن نجد أحدا ينسب سلطة التأويل النهائي للنصوص القانونية أو الدستورية لغير القضاء.

ومن ثم فإن الأستاذ اللغماني يضمر أن الرئيس قاض وله حق سلطة التأويل في الغاية التأويل الذي أقره واعتبره تأويلا رسميا أخيرا. ولو كان ذلك مقبولا عقلا وقانونا لكان وجود المحاكم الدستورية عبثيا.

وهو خطأ في فقه القضاء لأن الرئيس ليس قاضيا أولا ولا يحق له أن يدعي أنه قاض لعدم توفر شروط القضاء فيه حتى لو سلمنا بأنه “يعرف” القانون. إذ ليس كل من اختص في القانون له سلطة قضائية.

ولهذه العلة كان ردي على فتواه أنه أخطأ مرتين في مهربه من الموقف الشجاع في المسألة الموقف الذي يحافظ على أخلاق العلم. لكنه في ما بدا لي فضل كعادته -سابين القصد بهذه الإشارة- التهرب من تحمل المسؤولية العلمية.

وقد حاولت تأويل تلميحه للمقابلة بين التأويلين بالمقابلة الكلسنية التي لا تنطبق في الحالة لكنها تثبت عدم نفي شرعية التأويل المقابل لتأويل الرئيس:

1-الأستاذ اللغماني أخطا في اعتبار موقف إحدى السلط من غيرها من السلط في الدولة يمكن أن تكون سلطة قضائية. فذلك يتنافى مع التمييز بين السلط في النظام الديموقراطي.

وجسامة هذا الخطأ تتضاعف لأن ذلك يؤول إلى وضعية سيصبح فيها صاحب السلطة التنفيذية متفردا بالسلط كلها عندما يحل البرلمان -في غياب حكومة فعلية لأنها بشهادة رئيس الدولة نفسه ستبقى حكومة تصريف أعمال.

فتكون فتواه مؤسسة لنظام الاستبداد المطلق لفرد ليس له رادع تشريعي ولا رادع تنفيذي وهو الغاية من التاويل الذي حرف الدستور ليحقق الرئيس انقلابا تاما بجرة قلم وفتوى من أستاذ قانون.

2-وأخطأ ثانية -حتى لو قبلنا الخطأ الأول بحجة عدم وجود سلطة قضائية حاليا لعدم وجود محكمة دستورية وهي كذبة لأن هيئة مراقبة الدستورية موجودة- لأن الفتوى تجعل القاضي قاضيا ومتقاضيا في آن.

ففي القضية الحالية الرئيس متقاض مثل المجلس إذ هو تنازع سلطات بينهما فيكون الرئيس بذلك قاضيا ومتقاضيا لأنه يقضي في الخلاف بين السلطة التشريعية وجزء من السلطة التنفيذية حول فهمين لأحد نصوص الدستور.

فيكون الأستاذ اللغماني بفتواه قد نفى أهم أسس الديموقراطية في الحكم واهم أسس العدل في القضاء لأنه طبق تمييز كلسون في غير محله.

فكلسون يتكلم على قواعد التأويل ليميز بين:

1-قواعد التأويل النظري الذي يبقى مفتوحا دائما لأنه ليس مضطرا للحسم في نزاعات عينية.

2-وقواعد التأويل الذي يمكن وصفه بالعملي لاضطرار القضاة للحسم في نزاعات عينية.

ثم إن مشكل كلسون الأساسي لا يقتصر على القانون الخاص في نظام قانوني خاص بدولة واحدة بل هو يتكلم خاصة على ما بين القوانين الخاصة التي لدول مختلفة من تنازع بين المعاني القانونية في الأنظمة القانونية المختلفة.

وقد بينت أن هذه الإشكالية ليست مقصورة على التأويل القانوني فحسب بل هي موجودة في كل تأويل وخاصة:

1- في تأويل النظريات عند تطبيقها التجريبي: وهو تأويل نازل.

2- وفي تأويل التجارب عند ترجمتها النظرية: وهو تأويل صاعد.

وهما إذن نوعان من القواعد للتأويل النازل من النظرية إلى تطبيقها التجريبي ومن التأويل الصاعد من التجربة إلى ترجمتها النظرية.

ويحصل ما يشبههما في القانون:

فالنزول يكون من النصوص إلى النوازل (القضاء في الابتدائي والاستئننافي).

والصعود يكون من النوازل إلى النصوص (النقض).

ولهذه العلة فإن محاكم النقض تعتبر شبه تشريع لأنها بنحو ما سلطة الغاية في التأويل. ولهذه العلة كذلك كان عملها متعلقا دائما بالشكل وليس بالأصل وخاصة بالاجرائي وليس بالمضموني. وكلاهما من أهم شروط الجمع بين التأويلين العلمي والعملي.

والآن حتى لا أكون ظالما للأستاذ اللغماني فلأشرح علة قولي “كعادته” حتى وإن كانت مشاركته في فتوى الفرائض الشهيرة فيها ما يفيد المعنى. لكني أقصد شيئا آخر حصل في حادثة سابقة لا علاقة لها بالقانون.

إنها حادثة وقعت ذات مرة في ندوة نظمتها بيت الحكمة قبل هجرتي إلى ماليزيا وكانت حول حوار الأديان. لم أكن اعرف الرجل. لكني يومها سمعته “يسخط” على الغزالي -ككل حداثيي العرب- ويمدح القديس طوما الأكويني -ككل حداثيي العرب- معتبرا الأول ظلاميا وجاهلا والثاني فيلسوفا وعلامة.

عجبت لكلام الرجل ورددت عليه وقد يكون نسي. وكان المجال مجالي وليس مجاله لأنه ليس في القانون بل في الفلسفة. فبينت له أن كلامه دليل تحامل على الغزالي و”تجامل” مع توما الاكويني. وقد يكون ذلك لجهله بالرجلين أول للتقرب من ذوي الجاه :

فأولا الغزالي أستاذ ابن رشد حتى في الفلسفة ناهيك عنه في الفقه. وابن رشد بنحو ما أستاذ توما الاكويني على الأقل في العلم بفلسفة أرسطو الذي لم يتجاوزه لا هو ولا ابن رشد.

والغزالي هو الذي حاول تجاوز أرسطو في تهافت الفلاسفة أو على الأقل تجاوز اشهر المتتلمذين عليه أعني اكبر فيلسوفين عربين الفارابي وابن سينا.

وكلاهما أكبر من ابن رشد ومن توما الاكويني لكنهما دون الغزالي ليس علما بارسطو فحسب بل علما بالعلوم الأدوات أو المساعدة وقدرة على النقد الفلسفي العميق.

وثانيا حتى لو سلمنا بأن توما الاكويني عظيم كما يزعم من ينتظر الاعتراف به من أهله ككل المعقدين من حداثيي العرب فإن ذلك لا يقتضي التحقير من الغزالي إذ يمكن أن يكون كلا الرجلين عظيما كل في مجاله وفي حضارته.

ولست أفهم لماذا يحتاج “الحداثيون” العرب للتحقير من حضارتهم التي يجهلونها حتى يعترف بهم في حضارة يجهلونها كذلك لأن المعرفة بالحضارات لا تكفي فيها قراءة الكتب.

ثم إني لست واثقا من أن الأستاذ اللغماني قرأ كلسون في نصه ولا اعتقد أنه رغم الاختصاص نجح في الانتقال من المعرفة الصحفية إلى تطبيقاتها العينية ودلالاتها الحضارية. ولا اعتقد أن المرء يمكن أن يستعمل قواعد كلسون في التأويل من دون شرطها الذي يعتبر سلطة التأويل في الغاية ممكنة لغير القضاء.

فالتأويل الغاية أي الذي يحسم في دلالة النصوص القانونية لا يمكن أن يكون لغير من لهم شرعية التأويل الغاية أي القضاة. وفي حالتنا قضاة المحكمة الدستورية. ولا يمكن في كل الأحوال أن يكون منافيا منافاة التناقض مع التأويل العلمي.

وليتني أعلم إن كان الأستاذ اللغماني الذي يتكلم على التأويل عامة والتأويل القانوني خاصة ويعلل قابلية نظرية كلسن في قواعد التاويل القانوني للتطبيق في الحالة التي يفتي فيها

إذ إن سعيد:

1- ليس قاضيا

2- وليس قاضيا في محكمة دستورية

3- وهو طرف في النزاع.

4- وليس عالما في القانون.

5- وهو قد استعمل سلطة تنفيذية لتخويف سلطة تشريعية بحل البرلمان.

ليته شرح التمييز بين نوعي التأويل وشروطهما لمستمعيه لأن قابلية تطبيقه على الحالة التي أراد تقديم حل فيها بدا لي حقا ودون مجاملة حلا جنيسا لما يسمى بفقه السلاطين في حضارتنا بسبب ما ذكرت من تحريف.

فلا فرق بين حله ومحاولات فقهاء السلاطين غصب النظريات الفقهية لكي ترضي من بيده سلطان. وهذا هو النوع الثالث وهو ليس من محددات التأويل بل من “محرفاته التي يمكن وصفها سلبا بأنها:

• ليست تأويلا علميا مفتوحا على الممكن النظري.

• وليست تأويلا عمليا مقيدا بالتعيين في حسم النوازل.

بل هي تحيل باسم العلم من أجل المعاملة المصلحية بين توظيف العلم بتزييفه وتوظيف السياسة بتزييفها. وذلك هو معنى فقه السلطان في ثقافتنا ولا تخلو منه ثقافة:

1- فالتحيل العلمي وظيفته اضفاء الشرعية على ما ليس بشرعي.

2- والتحيل العملي وظيفته التخفى بشبه شرعية مفضوحة.

ولست أدعي تقييم علم الأستاذ اللغماني لأني بينت أنه ألمح إلى أنه واع بالتحيل لاسترضاء الحاكم بأمره. فهو لم ينف صحة التأويل المعارض لرأي سعيد لأن استعماله لقسمة كلسون واضح الدلالة.

فإذا كان الحل المعارض لحل قيس مطابقا للتاويل العلمي فالحل الذي اختاره الرئيس حل لا علمي أي إنه لا يعتمد ولا يستمد شرعيته من العلم بل من السلطة. والسلطوي الذي ينافي العلمي منافاة التناقض هو التحكم وهو إذن عديم الشرعية.

لكني لن أتردد في الحكم على علم الحاكم بأمره. فلا شيء يثبته وهو إذن دعوى بلا دليل. فلا أحد يمكن أن يقدم شيئا كتبه الرجل في حياته -وهو لم يعد رسالة ولم ينشر بحوثا- يثبت أنه فعلا سلطة علمية في القانون عامة وفي القانون الدستوري خاصة.

فادمان اعلام عبد الوهاب عبد الله على دعوته لا يثبت علما ولا عملا بل تفاقها تافها بعربية متخشبة دالة على الجهل بقواعد بلاغتها. وهذا الإدمان لا يثبت العلم بل يثبت العمالة للنظام الذي ثار عليه الشعب التونسي.

ومن ثم السؤال عن أهليته العلمية لتأويل النصوص الدستورية فضلا عن شرعية قيامه بذلك -على الأقل لانه يصبح به قاضيا ومتقاضيا في آن أو خصما وحكما في آن.

وفي هذه الحالة كان ينبغي أن يكون السؤال عن شرعية تأويل الرئيس علميا ودستوريا بداية الكلام في المسألة لو كان كلام الأستاذ اللغماني علميا أولا وذا أساس خلقي ثانيا.

ولهذه العلة فعندي أنه لا فرق بين الجامية التي تحرف المعرفة الدينية بالفقه لخدمة السلطان والجامية التي تحرف المعرفة العلمية بالقانون لخدمة السلطان.

ولما كان السلطان في هذه الحالة ظاهره ديموقراطي وباطنه ثيوقراطي فإن الفتوى كانت تخادما بين سلطتين كلتاهما محرفة:

1- سلطة توظف المعرفة العلمية بالقانون لخدمة سلطة غير شرعية.

2- وسلطة تدعي حق السياسي في التأويل لادعاء حق غير شرعي.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى