مقالاتمقالات مختارة

دُرر أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة (1-2)

دُرر أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة (1-2)

بقلم محمد عبد الرحمن صادق

علينا أن نعلم أن لكل قضية رجالها ولكل ساحة فرسانها، ونعلم كذلك أنه لا يشترط أن يكون كل جنود المعركة قادة أو على قدر واحد من البذل والعطاء، فمنهم من يصلح للمقدمة، ومنهم من يصلح للمؤخرة، ومنهم من يصلح للسَّاقة، ومنهم من يُداوي الجرحى ويُعد الطعام ، ومنهم من ينسج الهتافات يُحمِّس بها الجميع إلى غير ذلك من الجهود وكلها لا غنى عنها.

وعلينا أن نسلم كذلك أن هناك من لا يصلح لأي شيء مما سبق ولكنه يُحسن إمامة الناس في صلاتهم أو تعليمهم أمور دينهم أو مُدارسة العلم وحفظه والتبحر فيه ومناظرة أهل الباطل وتفنيد شبهاتهم… إلخ.

إن الواقع يحتم علينا أن نقبل من جاءنا بحفنة تمر ونبُش في وجهه، ونقبل من جاءنا بحفنة شعير ونثني على بذله، بل ونقدر من يُثني على بذلنا خيراً وتفيض عينيه من الدمع؛ لأنه لا يجد ما يقدمه.

لا يجب علينا أن نضيع فرصة نَظْم كل الطاقات المتفاوتة والجهود المتناثرة في سلسلة واحدة تستعصي على الكسر أو التحطيم، وبهذا الفهم تتوحد الصفوف وتقوى الأواصر ويندحر كل من يريد تفريق الصفوف أو قطع الأواصر أو بعثرة الجهود وتبديد الطاقات، وبهذا الفهم أيضاً نكون قد أبدعنا في استغلال إمكانياتنا مهما كانت محدودة وحولناها إلى صرح يستعصي على الاختراق أو الهدم.

بين يدي الموضوع

الإبداع، كما جاء في لسان العرب: “هو الشيء الّذي يكون أوّلاً ويُقال عن مُبدع الشيء: إنّه مُبدعه بدعاً، وابتدعه: أي اخترعه على غير مثال”.

#الإبداع ينتج عن تفاعل العوامل العقليّة والبيئيّة والاجتماعيّة والسمات الشخصيّة، وهذا التفاعل ينتج عنه حلول وابتكارات ورؤى جديدة للمواقف في أيٍّ من المجالات العلميّة أو العملية الحالية والمستقبلية.

أما حسن التوظيف فهو وضع الشخص -أو الشيء- المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب وبمقدار مناسب لتحقيق نتيجة إيجابية ملموسة بأقل تكلفة مادية أو معنوية .

وبالنسبة لاستغلال الفرص فكما يُقال إن الفرصة تولد مرة واحدة ولا تتكرر، ويكفينا أن نستعرض حسرة ومرارة تضييع الفرص في حال أهل النار يوم القيامة، فمنهم من يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء:73]، ومنهم من يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:42]، ومنهم من يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً}” [الفرقان:27، 28]، ومنهم من يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]، إلى غير ذلك من أساليب الندم على تضييع فرص لا تعوض، ولم يعد يُجدي الندم على فواتها.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: “بادِروا بالأعمالِ سبعاً هل تنتظِرونَ إلا إلى فَقرٍ مُنسٍ أو غِنًى مُطغٍ أو مرضٍ مُفسدٍ أو هَرَمٍ مُفَنِّدٍ أو موتٍ مُجهِزٍ أو الدجَّالِ فشَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ أو الساعةِ فالساعةُ أَدهَى وأمَرُّ” (سنن الترمذي).

أولاً/ الإبداع الذي نفتقده

الإبداع ليس معناه الإتيان بشيء خارق للطبيعة أو بشيء يَقْلب موازين الكون، بل إنَّ أبسط الأمور قد تكون إبداعاً طالما وافقت الحاجة والزمان والمكان والكيفية ، والشخص المبدع لا يمتلك عصاً سحرية ولكنه يمتلك عقلاً يفكر إلى أبعد درجات التفكير، ويجرِّب دون ملل، ويوقن أن في نهاية النفق المُظلم كُوَّة من النور، فلا ييأس ولا يستسلم.

الشخص المبدع لا يمتلك عصاً سحرية ولكنه يمتلك عقلاً يفكر إلى أبعد درجات التفكير، ويجرِّب دون ملل، ويوقن أن في نهاية النفق المُظلم كُوَّة من النور، فلا ييأس ولا يستسلم

1. جاء في تفسير القرطبي، في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].

“وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنَّس به فرسه حتى ألفه فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له إنه قاتلك فقال لا ضير أن أقتل ويُفتح للمسلمين”.

إن هذا الفارس لم يقف عاجزاً مكتوف الأيدي أمام سلاح الفيلة الذي تستخدمه جيوش الفرس في معركة القادسية، والذي يراه المسلمون لأول مرة في الحروب ولكنه فكّر في كيفية التغلب عليه بل والتخلص منه.

إن هذا الإبداع من هذا الجندي الذي لم يذكر التاريخ اسمه كان سبباً من أسباب انتصار المسلمين في واحدة من أشهر وأهم معاركهم مع الفرس.

2. وفي غزوة بدر روي أن النبي – ﷺ – قال لأصحابهِ: أشيروا عليَّ في المنزلِ، فقال الحُبابُ بنُ المُنذِرِ لرسولِ اللهِ ﷺ: أرأيتَ هذا المنزِلَ أمنزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه؟ أم هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: بل هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ. قال: فإن هذا ليس بمنزِلٍ، انطلِقْ بنا إلى أدنى ماءِ القومِ” (السيرة النبوية لابن هشام).

3. عندما توجه السلطان محمد الفاتح لفتح القسطنطينية فوجِئَ أن البيزنطِيِّين قد أغلَقُوا مَضِيق الدَّرْدَنيل بالسلاسل لمَنْع أيِّ أسطول من العبور فَمَا كان منه إلا أنْ أَمَر الجنودَ بإخراج السُّفُن التي تحمل الأسلحة والعتاد إلى الشاطئ، وقاموا بجَرِّها على الألواح الخشبية المطلية بالدهن والشحم عبر البر، وتمكَّنوا من إنزال سبعين سفينة خلف السلاسل، وهنا تمَّت عمليةُ التِفافٍ وهجومٍ مفاجئ على البيزنطيين، مَكَّنَ المسلمين من فَتْح القسطنطينية.

ضوابط يجب مراعاتها أثناء نظرتنا للإبداع وتعاملنا مع المبدعين

1. لا يُشترَط لمَن أبدع وتفتق ذهنه عن فكرة جديدة أن نطالبه بتنفيذها، فنكون بذلك قد أثقَلْنا عليه ووأدنا الإبداع بداخله، بل المطلوب منا هو أن نوفر له كل الإمكانيات ونذلل أمامه كل الصعاب.

إن سلمان – رضي الله عنه – حين جاء بفكرة الخندق لم يُطلَب منه حَفْرُه بمفرده، وعبد الله بن زيد حين رأى صيغة الأذان في المنام لم يُطلب منه أن يُؤذن، بل قال له النبي ﷺ: “اخرُج معَ بلالٍ إلى المسجِدِ فألقِها عليهِ، وليُنادِ بلالٌ؛ فإنَّهُ أندَى صوتاً منك”.

لا يُشترَط لمَن أبدع وتفتق ذهنه عن فكرة جديدة أن نطالبه بتنفيذها، فنكون بذلك قد أثقَلْنا عليه ووأدنا الإبداع بداخله، بل المطلوب منا هو أن نوفر له كل الإمكانيات ونذلل أمامه كل الصعاب

2. إن المطلوب منا هو أن نحسن اختيار من يتعاملون مع المبدعين، وأن نحسن الإنصات لأفكار المبدعين فلا نسفه لهم رأياً ، فالزاوية التي ينظر إليها المبدع غير الزوايا التي ينظر إليها كل من حوله، وكما يقال “إن أحلامَ اليوم هي حقائق الغد”.

3. إن أهم ما يجب أن نؤكد عليه بالنسبة للإبداع هو أن يكون في إطار من القيم الإنسانية والضوابط الشرعية؛ كي لا يتحول إلى عامل هدم يُفسد الحرث والنسل، وما إبداع ألفريد نوبل عنا بخفي!

4. إننا إذا لم نُحسن استيعاب المبدعين ونوفر لهم كل الدعم المادي والمعنوي ونعمل على تذليل كل ما يواجهون من عقبات، فإما تَنطفِئ مَلَكة الإبداع لديهم، وإما تنحرف بوصلة الإبداع بداخلهم وتقودهم إلى التهلكة، وإما تتلقفهم أيدي أعداء الأمة ليجعلوا من إبداعاتهم خنجراً في خاصرة الأمة.

5. إن الإبداع لا سقف له ولا سن له ، وكلما صفت السرائر واستيقظت الضمائر وعلت الهمم كلما زالت الحُجُب عن البصائر وتفتقت الأذهان عن إبداع يُشبه المعجزات.

6. إن الأفكار الإبداعية تراكمية وكل من يتوصل إلى فكرة يأتي من بعده من يجعل منها قاعدة يتوصل من خلالها إلى فكرة أكبر، ومن هنا يجب علينا أنت نتعامل مع أفكار المبدعين على أنها تراث أمة وميراث تتوارثه الأجيال.

7. الإبداع لا يعرف العنصرية، ولا يجب التعامل مع المبدعين إلا من خلال إمكانياتهم، ومن خلال الفائدة الحقيقية من وراء ما يقدمونه، وإلا ما تجرأ سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن يقترح حفر الخندق، وما تجرأ بلال الحبشي -رضي الله عنه- أن يرفع الأذان.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى