دولة اليهود وفصول النكبة الفلسطينية وآخرها التطبيع
(خاص بالمنتدى)
ظلّ توافد اليهود على فلسطين مرتبطا بالعاطفة الدينية التقليدية في زيارة الأماكن المقدّسة، أو السكن بجوارها، كما ارتبط بمشاريع استيطانية تطوّعية، ولم يأخذ الطابع السياسي المنظّم إلاّ في حدود سنة 1882م، بفعل تفاقم المشكلة اليهودية في روسيا، وتعرّضهم للاضطهاد الذي دفعهم إلى البحث عن منطقة آمنة للاستقرار، فتفرّقوا في الأرض مشرّقين ومغرّبين، يدقّون الأبواب الموصدة، ويبحثون عن موطن مستقبلي لهم، إلى أن تأّسّست المنظمة الصهيونية العالمية في سويسرا عام 1897م، بزعامة (تيودور هرتزل)([1]) الذي وظّف علاقاته، ومخطّطاته لإيجاد الحلّ.
بدأ (تيودور هيتزل) تحركاته لتوطين مشروعه الاحتلالي في بدايات القرن العشرين، ورغم أنّ فلسطين قد كانت في قلب اهتماماته، إلاّ أنه لم يمانع بمحطات أخرى نحو الهدف الأكبر، في تلك الفترة التقى (هرتزل) في لندن باللورد (روتشيلد)([2]) عام 1902م بهدف استيطان سيناء، واستمرّت اتصالات (هرتزل) مع المسئولين البريطانيين ومنهم (جوزيف تشمبرلين) وزير المستعمرات البريطاني-في رسالة موثّقة أرسلها له بتاريخ 12/7/1902م، استهدف (هرتزل) فيها الحصول على امتياز باستيطان سيناء من الحكومة البريطانية التي قدّمت إليه فكرة مفاوضة مصر على ذلك، كما أرسلوا توصية إلى اللورد (كرومر) ببحث المشروع. وتذكر المصادر أنّ هذا المسعى قد خاب وفشل لأسباب اقتصادية وسياسية، تاركا للتاريخ حكما على طبيعة مخططات الصهيونية العالمية، واستعدادها لتغيير خارطة المنطقة في سبيل التمكين لتواجدها وسيطرتها، والاستحواذ على الأرض بغير وجه حق.
ولقد حاول (هرتزل) عبثا إقناع الدولة العثمانية ببيعه فلسطين، وإعطاء اليهود حكما ذاتيا فيها تحت السيادة العثمانية، وفتح أبواب الهجرة اليهودية إليها مقابل عروض مغرية -كانت الدولة العثمانية في أمسّ الحاجة إليها- إلاّ أنّ السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) وقف سدّا منيعا ضد رغبات اليهود، وبشكل عام فشلت الحركة الصهيونية عالميا في الحصول على أيّ شيءٍ ذي قيمة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
وتطوّر المسعى بتبني بريطانيا للمشروع الصهيوني، حيث أصدرت في 2/11/1917م وعد (بلفور) القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتمكّنت من إتمام احتلالها لفلسطين في سبتمبر 1918م، ثم أدمجت وعد (بلفور) في صكّ انتدابها على فلسطين الذي أقرّته لها عصبة الأمم في 24/07/1922م، فتأجّج الغضب الشعبي، وتوالت الثورات الرافضة لهذا الوضع، والرّامية إلى تحرير فلسطين من قبضة الصهاينة وأشياعهم، حيث أيقن الفلسطينيون أنّ بريطانيا هي أصل الدّاء، وأنّ الأحلام الصهيونية سوف تتحوّل إلى مشاريع على أرض فلسطين، فقاوموا، وصمدوا، وأضربوا ممّا دعا بريطانيا سنة 1937م إلى اقتراح مشروع يقضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وهو المشروع الذي أسقطه الفلسطينيون بثورتهم، ليتمّ في مايو 1939م إصدار ما يعرف بـ «الكتاب الأبيض»، حيث تخلّت بريطانيا بموجب ذلك عن وعد (بلفور) مؤكّدة:
1- عدم عزم بريطانيا على إقامة دولة يهودية في فلسطين.
2- إقامة دولة فلسطينية مستقلة بعد عشر سنوات يتولّى فيها العرب واليهود أمر المسئولية والسلطة بما يحقّق مصالح الطرفين.
3- تحديد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين في السنوات الخمس المقبلة، لتتوقّف بعدها، ولا تتمّ إلاّ بالموافقة العربية، على ألاّ يتجاوز عدد اليهود ثلث السكان.
4- وقف بيع الأرض لليهود نهائيا إلاّ في مناطق محدودة، وضمن شروط لا تضرّ بالفلسطينيين.
وهي قرارات كانت تصبّ في صالح الفلسطينيين، لكن الحرب العالمية الثانية غيّرت الموازين، وأخرجت للميدان وضعا مستجدًّا طبعه ظهور المسألة اليهودية في أوربا، أو ما يعرف بالهولوكوست، واستقواء المشروع الصهيوني بالولايات المتحدة الأمريكية، وتكريس الضعف العربي بسبب الاحتلال في الغالب، وفي جوّ الضغط الأمريكي، والضعف العربي، تنازل البريطانيون رسميًّا عن الكتاب الأبيض، ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، وتمّ السّماح لليهود بالهجرة وتملّك الأراضي الفلسطينية، تمهيدًا للاستقرار بعد الانسحاب البريطاني.
لقد اكتملت تفاصيل المشروع الاستيطاني باتّخاذ قضية فلسطين بُعدًا دوليا بعدما طلبت بريطانيا من هيئة الأمم المتحدة في 2/4/1947م إدراج القضية ضمن جدول أعمالها، حيث تشكّلت لجنة تحقيق دولية خاصة بفلسطين (انسكوب UNSCOP) لدراسة الوضع، وتقديم تقرير عنه، وانتهت من وضع تقريرها في 31/8/1947، ونصّت التوصيات المتحيّزة على:
إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلّتين: عربية ويهودية، مع وضع القدس تحت وصاية دولية.
وفي 29/11/1947م أصدرت الجمعية العامة للأمم المتّحدة قرارها المشئوم رقم 181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وأعطى القرار 54.7 بالمائة من أرض فلسطين للدولة اليهودية (14400كم²) و44.8 بالمائة للدولة العربية (11780كم²)، ونحو 0.5 بالمائة لمنطقة القدس، وهي قسمة جائرة مجحفة لا تستند إلى قانون دولي، ولا يملك المشرفون عليها الحقّ في إنفاذها، على حساب حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فكانت النكبة بإقامة وطن قومي لليهود على الجزء الأكبر منها سنة 1948م، ثمّ اغتصاب بقيّتها سنة 1967م.
أضواء على دلالات التطبيع:
استنادا إلى المعنى اللغوي الفلسفي يقول الدكتور (عبد الوهاب المسيري): «التطبيع هو تغيير ظاهرة ما، بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتّجاهها مع ما يعدّه البعض طبيعيا، ولكن كلمة «طبيعة» لها عدّة معانٍ، وقد استخدما هذه الكلمة بمعنى (الطبيعة/المادة)، والتطبيع في هذه الحالة يعني إعادة صياغة الإنسان حسب معايير مستمدّة من عالم الطبيعة/المادة، بحيث تصبح الظاهرة الإنسانية في بساطة وواحدية الظاهرة الطبيعية/المادية، ولكن كلمة (طبيعي) يمكن أن تعني «مألوف» و«عادي»، ومن ثمّ فإنّ التطبيع هو إزاله ما يعدّه المطبَّعُ شاذاً، ولا يتّفق مع المألوف و«العادي» و«الطبيعي»(([3]))، وفي حال «إسرائيل» يصبح المعنى: تحويل المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين إلى أمر طبيعي، أي الاعتراف بشرعية هذا الكيان، وأحقية وجوده في المنطقة.
ففي معناه اللغوي يدور مفهوم التطبيع حول جعل الشاذّ طبيعيا، ومألوفاً تسهيلا لقبوله.
وفي المعنى الاصطلاحي: يُقصد به إقامة علاقات طبيعية وعادية بين الدول العربية، والكيان الصهيوني في فلسطين، «وهو يقوم على ركنين: الاعتراف، والقبول، اعتراف العرب (ومن ورائهم عامة المسلمين) بالدولة الصهيونية، كدولة تتمتّع بالشرعية والسيادة والعضوية في المجتمع الدولي، وقبولهم بما في نسيج ديار العروبة والإسلام، كدولة لها ما لدول المنطقة من حقّ الجوار، وحسن المعاملة، إن لم يكن أكثر من ذلك»([4])، فالتطبيع ثمرة للقبول بالكيان الصهيوني، والاعتراف به، كان من المستحيلات في بداية تجسيد الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، وقادت تحركات المهرولين من العرب مع مرور الوقت إلى التمكين له، بل وجعله واجبا بمقتضى الاتفاقيات المشؤومة للسلام.
وحقيقة هذا المصطلح تصبُّ في ما يريده منه الصهاينة في الواقع أكثر من تعلّقها بمعناه عند العرب، «فأساس الفكرة أنه في عام 1967م أرادت «إسرائيل» أن توفّر شريحة من العرب يتعاملون معها كعملاء وجواسيس، ولأنه من الصعب أن تشير بشكل مباشر إلى مسألة العملاء أو الجواسيس قالت: إنّ هؤلاء هم مطبّعون، وبهذا الفهم يصبح معنى التطبيع «الخيانة» من خلال القبول بالعدو.. وما معاهدة السلام، والاعتراف السياسي إلا بوابة هذا التطبيع، وأمّا اتفاقات النشاطات الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والسياحية ونحوها بين إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة لها، فهي من وسائل تنفيذ مخطط التطبيع»([5])، وصرح السفير الإسرائيلي السابق في مصر (ديفيد بن سلطان)([6]) في مذكراته قائلا: «للقضية أهمية كبيرة بالنسبة لنا، لارتباطها باندماجنا في المنطقة، وباحتمال إقامة علاقة جوار سوية ومثمرة، حيث كُتب علينا أن نحيا معا»([7]).
([1]) تيودور هرتزل (1860-1904)، صحفي يهودي نمساوي مجري، مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة، ولد في بودابست، وتوفي في إدلاخ بالنمسا، ترأّس المؤتمرات الصهيونية العالمية السنوية، وبث من خلالها أفكاره، ومخططاته لإنشاء وطن قومي لليهود، واشتهر بعلمانيته، وعدم تمسكه بالدين اليهودي، وله كتاب يقدسه الصهاينة بعنوان (دولة اليهود). (المصدر: Bein، Alex. Theodor Herzl: A Biography of the Founder of the Modern Zionism).
([2]) ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937)، سياسي، ومصرفي بريطاني، يعتبر أشهر أبناء عائلة روتشيلد الثرية التي تبنت الحلم الصهيوني، وساعدت على توطين اليهود في فلسطين.
([3]) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 7/2.
([4]) التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية الإسرائيلية (1979-2011م)، أحمد سيد رفعت، ص1083.
([5]) التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية الإسرائيلية (1979-2011م)، أحمد سيد رفعت، ص58.
([6]) ديفيد بن سلطان يهودي صهيوني، ولد في القاهرة سنة 1938م، وهاجرمع أسرته إلى الكيان الصهيوني وهو في الحادية عشرة من عمره، حيث درس بالجامعة العبرية بالقدس، ثم التحق بوزارة خارجية الكيان الصهيوني عام 1964م، وعمل سفيرا بمصر وكندا وتركيا.