دور الفقهاء في إنشاء الصحف بالمغرب وإطلاق الحريات العامة سنة 1936
بقلم د. إدريس كرم
أيها الصحفيون تذكروا أول شهيد للحريات العامة وإنشاء الصحف والأحزاب بالمغرب.
قد يستغرب البعض عندما يقرأ أن أول شهيد للصحافة بالمغرب كان فقيها، وهو الفقيه محمد القري الذي استشهد تحت التعذيب في كلميمة (قرب الراشيدية)، ويزداد الاستغراب عندما يعلم أن الصحافة المغربية تأسست على يد علماء وفقهاء، كالفقيه داوود، صاحب “مجلة السلام”، والشيخ المكي الناصري صاحب “مجلة المغرب الجديد”، الصادرتان في مطلع الثلاثينيات، مثلما هو الأمر بالنسبة للنهضة الثقافية والتعليمية والمطالب المستعجلة للحريات العامة وتكوين الأحزاب.
فالسادة الفقهاء والعلماء خريجو المساجد والمدارس التي ستسمى لاحقا تحقيرا لها بالعتيقة، كانوا هم مدبرو الشأن العام، وكانوا هدفا للغزو الفرنسي، مثلما كانت الأرضي والمياه والمعادن، لأنهم كانوا يمثلون ضمير الأمة ولحمتها وسداها، وهو ما جعل ليوطي يقول بأنه “لن يرتاح حتى يقضي على أصحاب الجلابيب الذين يعلمون طلابهم كره الأجانب قبل معرفة القراءة والكتابة“، وكان من بين ما سطر لذلك عزلهم عن المجتمع وقصر نشاطهم في الجانب التعبدي على شاكلة الفعل الكنسي.
بيد أن ذلك لم يتم، فقد مارس الفقهاء عملهم الديني والدنيوي، مما جعلهم شوكة في حلق الاستعمار منوعين أشكال مناهضتهم له بحسب ما يبتكر من أساليب الغزو والبطش والدعاية.
وهكذا عرفت الثلاثينيات من القرن الماضي ظهور أشكال جديدة مبتكرة من مقاومة الفقهاء، استهدفت تنظيم المجتمع وإيجاد صيغ جديدة للحشد والتأطير والمطالب المستعجلة حسب ما تقتضيه القوانين الدولية والمعاهدات المبرمة مع الدولة المغربية، مما جعلهم يدخلون في مسارات جديدة أربكت حسابات المحتلين وبرادينهم الذين لم يدر بخلدهم أن يكون تحت عمائم هؤلاء التقليديين ما يمكن أن يدمر مخططات البعثات العلمية والإستراتيجيات العسكرية.
ومن ذلك إنشاؤهم صحفا ومجلات للتعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم بعدما قضوا ردحا من الزمن يكتبون في صحف خارجية لما تعذر عليهم إنشاء صحف محلية بسبب التضييق الذي جاء به قانون إنشاء الصحف الصادر في 20/11/1920، وخاصة الفصل السابع الذي ينص على أنه “لا يمكن إنشاء وإصدار جريدة عربية أو عبرانية الكل أو البعض إلا بالحصول على إذن بقرار وزيري من سعادة الصدر الأعظم، وأن سحب هذا الإذن جائز في كل وقت”.
وفي 24/01/1921، أصدر الجنرال الحاكم العام للجيوش الفرنسية بالمغرب أمرا مضمنه أن كل مخالفة لمقتضيات الظهير السابق يرجع النظر فيها للحاكم العسكري.
بيد أن الشبيبة المغربية المتطلبة التي كانت تتطلع إلى تحديث وسائل اتصالها بالجماهير والنخب وإسماع صوتها بالخارج، والذين كانوا ينعتون بالمهيجين الكبار، طالبت بالحق في إنشاء الصحف والتنظيمات السياسية والاجتماعية والنقابية، فكانت سنة 1936 سنة التضحيات التي زج فيها بالعديد من الفقهاء في السجون لإسكات صوتهم، وقتل مطالبهم التي لم تمت بموت الفقيه الجليل محمد القري بسجن كلميمة، والذي خلد مراحل تعذيبه رفيقاه في الجهاد الفقيه محمد إبراهيم الكتاني وأحمد بن هاشم العلوي في كتابيهما: “من ذكريات سجين مكافح“، و”من وراء السدود“.
يقول المرحوم الكتاني:
“يوم الأربعاء 8/9/1936، أسلم الروح لباريها الشهيد محمد القري رحمه الله، فكان موته رحمه الله خسارة لا تعوض، ورزية وطنية عظمى، إنه كان مؤمنا سلفيا صادق الإيمان، وشاعرا مكثرا، وكاتبا وخطيبا مؤثرا، وعلامة لغويا مطلعا متبحرا ومكافحا متفانيا، وكان ذا أخلاق دمثة لين الجانب متواضعا محبوبا منكرا لذاته مخلصا لأصدقائه ورفقائه” ص156.
لقد أصيب الراحل في رأسه منذ أن وصل إلى معتقل كلميمة، وأغمي عليه من جراء الضرب الذي لحق به لدى وصوله للمعتقل، وفي ذلك يقول أحمد بن هاشم العلوي:
“لقد كان القري أشدهم مرضا وأثقلهم وزنا، حملناه نحن الخمسة مولاي مصطفى العلوي (مدير دار الحديث الحسنية) ومحمد بن عبد الله علوي، وأحمد الفيلالي ومحمد بن سودة، أمرنا أن نحمله كالأرجوحة كل واحد من جانب وكان المسكين يتأوه، وقد أغمي عليه، ولست أنسى ذلك اليوم الرهيب حيث تلقينا بأن الفقيه الشهيد محمد القري قد قضى في بيته المظلم الذي وضع فيه” (ص37).
وقد رثاه السيد عبد السلام بن أحمد الوالي الذي كان معه في المعتقل بقصيدة جاء فيها:
ظلام السجن خيم في فؤادي***وأيام تنقص لي مرادي
سيأتي اليسر بعد العسر حقا***وحكم الله ينفد في العباد
فلا نخشى العذاب على حقوق***تؤيدها الحواضر والبوادي
حقوق شعب لا ترضى سواها***ولا تدع التحكم للأعادي
أننسى القري الفريد لها***تجرع ما تجرع بالجلاد
إلى أن مات في الميدان حرا*** شهيدا ليس يعبأ بالعوادي
قل لي من يعير العبد دمعا***لأبكيه إلى يوم المعاد (ص182).
وقد رفعت كتلة العمل الوطني بالمناسبة في 17/1/1936 مذكرة في شأن حرية الصحافة بالمغرب لجلالة الملك والمقيم العام ووزير الخارجية ولجنة الأمور الخارجية بالبرلمان الفرنسي، جاء فيها:
“..وكتلة العمل الوطني تعتبر إطلاق حرية القول للشعب المغربي مطلبا جوهريا وتود التعجيل بدرسه، وقد سبق لها أن ألحت في هذه النقطة ضمنته الرسالة الموجهة إلى سعادة وزير الأمور الخارجية مع برنامج الإصلاحات المغربية وهي تعود في هذه المناسبة إلى هذه المسألة الخطيرة ورجاؤها أن يجد لها أولوا الأمر حلا عادلا في أجل قريب..”.
لقد خرجت المظاهرات من مساجد القرويين والعطارين والأندلس والرصيف بفاس، وخطب فيها من الفقهاء:
امحمد بن هاشم العلوي (السدود)، وعبد العزيز بن إدريس، والهاشمي الفيلالي، وعبد الهادي الشرايبي، ومحمد القري(الشهيد)، ونتج عنها نفي الزعيمين علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني، وألقي القبض على العديد من العلماء الذين وصفوا بالمهيجين الكبار من مختلف أنحاء المغرب، وزج بهم في السجون.
وقد أفرد لهم الفقيهان الكتاني والعلوي لائحة بأسمائهم في الكتابين السالف ذكرهما نقتصر منها على السادة الأماجد: الشريف الطايع الكتاني وأخوه سيدي يحيى، محمد الريفي، عمر البركاني، مولاي مصطفى العلوي، محمد بن عبد الله العلوي، محمد بن العربي العلوي، رشيد الدرقاوي، محمد القري، إبراهيم الكتاني، عبد الهادي الشرايبي، سيدي علي العراقي، أحمد بن هاشم العلوي، الهاشمي الفيلالي، محمد البلغيتي، مولاي علي الإدريسي، المكي العمراوي، محمد القصريوي، المهدي الودغيري، بوشتى الجامعي، محمد غازي، أبو بكر القادري، عبد السلام بن إبراهيم الوزاني، الدرفوفي، محمد بن تاهلة، أحمد الرمضاني، وأخوه عبد القادر، أحمد بن الحاج، محمد البلغمي، أحمد بن كران، المكي العماري مولاي علي الإدريسي، إدريس بن زاكور، محمد ولد الحاج الصفريوي، الفقيه بولحية.
وقد نتج عن ذلك صدور أربعة قرارات وزارية بالجريدة الرسمية في 22/1/1937، تسمح بنشر الصحف وفقا لنظام ظهير 1920، فصدرت جريدة الأطلس من قبل محمد اليزيدي بالرباط مرة في الأسبوع، وجريدة العمل من قبل عبد اللطيف الصبيحي بالدار البيضاء يومية، وجريدة المغرب لسعيد حجي بسلا يومية، وجريدة الوداد لمحمد اشماعو وأحمد بن عبريط بسلا أسبوعية، ورفع الحجر عن جريدة عمل الشعب الصادرة بالفرنسية من قبل محمد بن الحسن الوزاني بفاس.
وهكذا يتبين لنا أن قيادة الفقهاء للشأن العام كان حقيقة لا مراء فيها وأمر متحقق لا يناقشه إلا جاهل أو مغرض أو مزور للتاريخ.
نشر البحث في جريدة ميثاق الرابطة في 24/11/2000.
(المصدر: هوية بريس)