دور الشعوب ومسألة أهل الحل والعقد | الشيخ أحمد الريسوني
مصطلح “أهل الحل والعقد” هو مصطلح اجتهادي شرعي من جهة، تاريخي من جهة أخرى. فالفكرة لا تعدم أصولا شرعية يمكن تأسيسها عليها وتسويغها بها، خاصة من عمل الصحابة رضي الله عنهم، وليس هناك ما يمنع منها شرعا، فهي تمثل إحدى الصيغ التنظيمية الناجعة في مجال الحكم والسياسة، ولكنها على كل حال ليست منصوصة لا باسمها ولا بهيئتها.
المشكل في فكرة “أهل الحل والعقد” يكمن في أمرين:
الأول: هو أنها لم تؤخذ مأخذ الجد، ولم توضع موضع التنفيذ، ولم توضع لها صيغة تنفيذية ملزمة، فبقيت محصورة في أذهان الفقهاء ومؤلفاتهم وتمَنِّياتهم. وفي أحسن الأحوال قد يوجد نوع من أهل الحل والعقد، ولكن أمرهم كله إلى الحاكم نفسه، بما في ذلك اختياره لهم، واختياره بين استشارتهم وعدمها، واختياره بين اتِّباع مشورتهم وعدمها… بمعنى أن الحل والعقد كله بيد السلطان لا بيد أهل الحل والعقد!.
الثاني: هو أن فكرة “أهل الحل والعقد”، اتُّخذت وسيلة للإلغاء الفعلي لدور الأمة ومشورتها واستبعاد أي أثر لها في تدبير شؤونها. فبدل أن تطبق الفكرة وتكون هي التعبير المنظَّم عن إرادة الأمة، أصبحت مجردَ حجة نظرية تلغى بمقتضاها الأمة، بدعوى أن أهل الحل والعقد يقومون مقامها، بينما الواقع هو أن الحاكم بأمره هو الذي يقوم مقام الجميع.
وهنا لا بد من التذكير والتأكيد بأن اختيار الخليفة أو الإمام هو في الأصل من حق الأمة قاطبة، وهي تمارس هذا الحق بحسب الاستطاعة والإمكان لكل زمان ومكان. وعلى هذا مضت سنة الخلفاء الراشدين.
فعند اختيار الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، كان اجتماع السقيفة مفتوحا لكل من حضر من المسلمين، ولم يقل أحد إن الاجتماع خاص بفلان وفلان، أو خاص بهؤلاء، بل حضره من شاء وتكلم فيه من شاء. ومع ذلك وجد من الناس من اعتبر بيعة أبي بكر فلتة، نظرا للفجائية والسرعة التي تمت بها، فرد عليهم عمر رضي الله عنه بقوله الحاسم: “فلا يَغترَّنَّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر”. ثم أعلن قراره الدستوري التاريخي بقوله: “من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا”[1]
وعندما مرض أبو بكر أخذ يشاور ويشاور، حتى اطمأن إلى تطلع الناس جميعا إلى عمر ورغبتهم فيه ورضاهم به، فعَهِد إليه، ثم بايعه الناس.
وفي تولية الخليفة الثالث وما جرى فيها من الموازنةِ والترجيح بين المرشَّحَيْنِ عليِّ بن أبي طالب وعثمانَ بنِ عفان رضي الله عنهما، قال ابن كثير: “ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس”[2]
واليوم ونحن في زمن الانتفاضة الشعبية العربية، لا بد من التنويه بالبيان الناصع للأزهر الشريف في هذا الموضوع. فقد جاء في البيان الصادر عن مشيخة الأزهر بعنوان (بيــان الأزهـر والمثقفين لمناصــرة الحراك العربي) ما يلي:
” تَعتمدُ شرعية السُّلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية على رضا الشُّعوب، واختيارها الحرّ، من خلال اقتراع عَلَنِيٍّ يَتمُّ في نزاهة وشفافية ديموقراطية، باعتباره البديل العصري المنظَّم لما سبقت به تقاليد البَيْعَة الإسلامية الرّشيدة، وطبقًا لتطوُّر نُظُم الحكْم وإجراءاته في الدّولة الحديثة والمعاصرة، وما استقرَّ عليه العُرف الدستوري من توزيع السُّلُطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والفصلِ الحاسم بينها، ومن ضبط وسائل الرّقابة والمساءلة والمحاسبة، بحيث تكون الأمّة هي مصدر السُّلطات جميعًا، وهي مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة. وقد دَرَجَ كثيرٌ من الحكّام على تعزيز سلطتهم المطلقة مُتشبِّثينَ بسُوء الفهم للآية القرآنية الكريمة: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ -4/59}، متجاهلين سِيَاقَها الشّرطي المتمثِّل في قوله تعالى قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ – 4/58}، ممّا يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكْم وعَدَمَ إقامة العدل فيه مُسَوِّغًا شرعيًّا لمطالبة الشعوب للحكام بإقامة العدل، ومقاومتها للظلم والاستبداد، ومن قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد من الحكام حرصًا على سلامة الأمة من الفوضى والهرج والمرج – فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم، إذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر والإضرار بسلامة الأمة ومجتمعاتها”[3]
المهم أن أهل الحل والعقد لا بد منهم ولا غنى عنهم. وهم إما أن يكونوا من علماء الشريعة المبينين لمقتضياتها الأمناء على أحكامها، أو من أهل المعارف والخبرات التي لا غنى عنها، وإما أن يختارهم الناس ليكونوا نوابا عنهم إن كانوا من أهل الزعامة والمكانة في المجتمع. وفي جميع أحوالهم فهم ليسوا مجرد أصداء أو أبواق أو عيون للحاكم. وهذا يقتضي ألا يكون له يد عليهم، لا في اختيارهم، ولا في رواتبهم، ولا في عملهم.
وحتى إذا كان أهل الحل والعقد على هذا النحو، فإن وجودهم لا يلغي الأمة، ولا يلغي دورها وحقها في تقرير ما تريده من اختياراتها ومصالحها، متى أمكنها ذلك.
[1] – صحيح البخاري.
[2] – البداية والنهاية – (7 / 146)
[3] – البيان صادر بتاريخ 3 من ذي الحجة ســـنة1432ﻫ الموافـق لـ30 من أكتوبر سـنـة 2011م، بتوقيع شــيخ الأزهــر أحمــد محمـد الطــيب.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)