لقد بحث الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية ما يسمى بـ (الحسبة) وقد عرفها الماوردي بأنها: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله. وعليه فإن الحسبة وإن كانت هي إحدى خصائص الأمة الإسلامية {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(التوبة: 72)، وسبب خيريتها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران: 110)، إنها وظيفة رسمية للدولة وتطوعية لأفرادها، وقد تجب على الأفراد إن قصرت الدولة في ذلك.
والدولة في الإسلام لها دور كبير في تعزيز القيم الأخلاقية، وهذا هو أحد جوانب عمل السياسة الشرعية، وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه قوله: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وقال أبو سفيان الحميري: ليس الأدب إلا في صنفين من الناس: رجل تأدب بالسلطان، ورجل تأدب بالفقه، وسائر الناس همج.
والمنقذ الأول لسفينة المجتمع من الغرق في غثاء الرذيلة هو الدولة حين تأخذ على يد المخربين المنحرفين، وقد أرسى النبي ذلك حفاظا للأمة على أخلاقها، كما فعل مع المخنثين؛ ففي الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَنًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا.
والناظر إلى الحدود التي شرعها الإسلام -وكذلك التعزير- يلحظ ما في ذلك من حفظ للأخلاق من التردي والسوء.
فللحفاظ على العفة والحياء شرع الله تعالى عقوبتي الزنا والقذف، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النور: 2)، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور: 4).
وللحفاظ على الأمانة شرع الله سبحانه عقوبة السرقة، قال سبحانه: {والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(المائد: 38).
ولتحقيق العدل شرع الله سبحانه القصاص، قال جل شأنه: {ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 179).
وبجوار هذه الحدود كانت التعزيرات لمن أساء في المجتمع أو أخطأ، ابن أبي شيبة في مصنفه: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ: يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُطَالُ حَبْسُهُ. (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه).
والعلماء يقررون بأن التعزير يكون فيما لا حدَّ فيه ولا قصاص لتحصيل المصالح وتقليل المفاسد، وتحقيقًا لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يطالع السنة النبوية يجد النبي وقد قام بالعديد من التعزيراتصيانة للمجتمع من الرذيلة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
فجاء في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – على سبيل المثال لا الحصر:
- أمره بقطع رأس التمثال ليصير كالشجرة، وقطع الستر فيجعل منه وسادة.
- أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
- تضعيفه الغرامة على من سرق بغير حرز، وسارق ما لا قطع فيه من الثمر وكاتم الضالة.
- أمره بأخذ شطر مال مانع الزكاة.
- أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين.
- تحريقه رحل الغالِّ من الغنيمة.
- أمره – صلى الله عليه وسلم – بضرب الأولاد على الصلاة لعشر سنين.
- همّه – صلى الله عليه وسلم – بتحريق بيوت من لا يشهد صلاة الجماعة.
وما جاء عن البي صلى الله عليه وسلم فعله الصحابة مثله حفاظا على المجتمع، وكانوا في ذلك يتأسون بالنبي صلى الله عليه وسلم حين قال:” لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ” متفق عليه، وذكر ابن حجر أن عمر سمع قوما يقولون: أبو ذؤيب أحسن أهل المدينة فدعا به فقال: أنت لعمري فاخرج عن المدينة. فقال: إن كنت تخرجني فإلى البصرة حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج. وذكر قصة نصر بن حجاج وهي مشهورة، وساق قصة جعدة السلمي وأنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع ويتحدث إليهن، حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر يشكو ذلك فأخرجه.
وقد روى البيهقي عن عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يَا خَبِيثُ يَا فَاسِقُ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعَزِّرُ الْوَالِى بِمَا رَأَى.
وما حدث هنا هو حفاظ من الساسة (أمير المؤمنين عمر وعلي رضي الله عنهما) للمجتمع من الانحرف أو تردي الأخلاق فيه.
والمطلوب الآن أيضا أن يكون ولاة الأمور على قدر المسؤولية، فلا يقروا منكرا، ولا يشجعوا فسادا، وإلا كانوا شركاء للشعوب في منكرهم وفسادهم بتسهيلم المنكرات وتشجيعم الفاسدين الخبثاء على حساب المصلحين والشرفاء….