دور الخطاب الإعلامي العسكري في إسناد معركة الطوفان
“المنهج النّبوي نموذجاً”
بقلم رانية نصر (خاص بالمنتدى)
يتم استخدام الإعلام اليوم في تشكيل عقائد الناس وتوجيه أراءهم، فلم يعد مُتجلبباً بثوبه التقليدي كما سابق عهده؛ بل غدا أحد دعائم النهوض الحضاري والتنمية الفكرية والثقافية والتعليمية للمجتمعات، وفي صراعات الدول والأنظمة لا سيما في النطاق السياسي والعسكري وأوقات الحروب والأزمات وفيما يُسمى بالحروب الباردة والحروب النفسية.
الإعداد الإعلامي
قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال: 60، بدلالة “ما” في الآية إذ إنها من ألفاظ العموم المُستغرِقة لجميع أفرادها من غير حصر؛ يتّضح أن الإعداد يشمل كل إعدادٍ بما في ذلك الإعداد الإعلامي، قال السّعدي في تفسيره: “ما استطعتم من قوة؛ أي كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة جميعها، والرأي والسياسية التي يتقدم بها المسلمون ويندفع به شر أعدائهم”، وجاء في تفسير القرطبي: “وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (القوة هي الرمي) لا ينفى كون غير الرّمي معتبراً؛ لأن الرّمي كان في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به”.
ومن أدوات الإعداد المُعاصِرة اليوم القوة الإعلامية، وهذا ما أكده الشيخ محمد بن الحسن ولد الدّدو وغيره من المعاصرين، يقول الدكتور محمد الصّلابي: “وإعداد القوة لفظ عام يشمل كل قوة سواء معنوية أو مادية، علمية أو فقهية وذلك على مستوى الأفراد والجماعات، ويدخل في طياتها الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري… إلخ”، فالإعداد الإعلامي أحد أهم مجالات منظومة الإعداد بمفهومه الواسع.
أهمية الخطاب الإعلامي العسكري وقت الأزمات
ونحن نتحدث عن الإعلام فإننا لا غرو نتحدث عن أدواته وقنواته الاتصاليه، وأهمها الخطاب الإعلامي الشخصي والجماهيري فلا يمكن تصور الإعلام دون خطاب وحوار وتأثير لتحقيق رسائله، وقد اعتنى المنهج النبوي بالخطاب الإعلامي الجماهيري بشكل عام والعسكري بشكل خاص لتعزيز الجهود الاتصالية في إطار إقامة شبكة علاقات محلية ودولية لاستمالة للرأي العام في خطوةٍ لتمكين المشروع الإسلامي.
وحتى يؤدي الخطاب الإعلامي العسكري رسائله ويحقق أهدافه الاتصالية -وهو ما يعنينا في هذا المقال-؛ لا بد أن يعمل على محورين؛ الأول محور داخلي ويقوم بوظيفة تعزيز التّأييد مع الجماهير المؤيِّدة والموالية، والثاني خارجي ويقوم بوظيفة التّشكيك وزعزعة اليقين مع الجماهير المُعارضة أو المُقاوِمة؛ مُحققاً بذلك أهدافه الاستراتيجية.
وتزداد أهميّة هذا الخطاب الإعلامي العسكري في أوقات الحروب والأزمات، فهو يُثبّت المؤمنين من خلال تأكيده على مشروعيته في الحق في الدفاع عن وجوده وفي لغة الفُقهاء عن الكليات الضرورية الخمس؛ الدّين والنفس والعقل والنسب والمال، فضلاً عن رد دعاية العدو ودحض أكاذيبه وألاعيبه وحروبه النفسية تجاه خصمه؛ إذ يتكئ ابتداءً على عنصر الإقناع، فيبدأ بعرض المسلمات العقدية المُشتركة بينه وبين المُتلَقّي ماراً بتفنيد الأسباب والبواعث الدّافعة للسلوك “الحرب” ومنتهياً بالتذكير بالواجبات والمسؤوليات في الدعم والمساندة، وبهذا تتضح خطة الطريق في عقل الجموع المؤيدة فتزداد إيماناً بقيادتها العسكرية وتترسخ المبادئ وتُحشَد الطاقات وتوجّه الإمكانات لخدمة المشروع.
وظائف الخطاب الإعلامي العسكري وقت الأزمات
الخطاب هو عملية نقل الأفكار والآراء والمشاعر المُعبَّر عنها بالكلمات من المُرسل إلى المتلقي والتي بالضرورة ستحمل هوية المُرسل الفكرية والثقافية والعقدية والأيدلوجية بغيّة التأثير فيه سواء كان فرداً أو جماعة، ويُعد الخطاب وسيلة الاتصال الأهم بين البشر، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل:125، وقال:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ الأنفال:65، والدعوة والجدال والتحريض يستندون على الخطاب بالضرورة؛ إذ هو أداة الحوار وبناء الأفكار ومحركها الأول والمؤثر فيها لتحويلها لسلوك وتطبيق.
وإن الخطاب الإلهي الموجه لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- تضمّن تكليف بأوامر منها: ادعُ، جادل، حرِّض، ثم عرض الأساليب الواجب اتباعها لتنفيذ هذه التكليفات منها: الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالإحسان، وهذا يشير إلى وجوب اتباع منهج التّدرج مع الناس مراعاة لتباين أفهامهم وتفاوت إدراكهم، وكان الّتحريض من الأساليب النفسية النبوية الخطابية في دفع المؤمنين للفعل، وسيأتي لاحقاً بيان نماذج من الحروب النفسية التي استخدمها نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-منهجاً في التعامل مع الجبهة الداخلية.
الخصائص الذاتية للخطاب الإعلامي العسكري
إن إعداد خطاب جماهيري عميق التأثير حَسن البيان قوي الإقناع لحشد الرأي العام ليس بالعمل الارتجالي العفويّ ولا بالعملية السّهلة والبسيطة؛ إذا إنه يحتاج لمعرفة وخبرة بنفسيّة الجمهور واحتياجاته والظرف المكاني والزماني والسّياقي المُعاش وأجدى الوسائل والرسائل المناسبة والضامنة لتحقيق أفضل النتائج.
وكذلك فإن بناء الخطاب الإعلامي العسكري يحتاج لاستراتيجيات وتكتيات فكرية يرتكز عليها القائم بالاتصال لتزداد فاعليّته وتأثيره في الجمهور المُتلقي، مثل التأكيد والتكرار والتذكير وبيان الآثار وإبراز الأسباب والتحذير من المخاطر والمآلات والتخويف ورفع معنويات الجند وشحذ همته وتحريضه على المضي والمواصلة والاستمرار وتثبيت الناس، ودحض دعاية الخصم وشائعاته وكسر عزيمته، إضافة إلى الاستشهاد بالأدلة النّصّية التي تضفي الشّرعيّة على العمل ككل.
بين طريق ذات الشوكة والجهود الدبلوماسية
لا يَفُلّ الحديد إلا الحديد، والجهاد ذروة سنام الإسلام وعموده، ولا طريق لاستظهار الحق إلا بالجهاد الذي فرضه رب العزّة لتحقيق التّمكين والاستعلاء في الأرض، والتباطؤ عنه يُنبئ بنذير الهلاك وبتأخير تقدم المشروع الإسلامي لكن؛ هذا لا يعني بالضرورة إغفال الجهود الناعمة الأخرى، مثل الجهود السياسية والعلاقات الدولية والقانونية والإعلامية كدعائم إسناد تقوي شوكة المسلمين، خاصة وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اِرتكز على تلك الوسائل لتمكين المشروع الإسلامي ولدعوة النّاس، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسراء:15، فمهمة الرُّسل والأنبياء والمُصلحين التّبيان والشرح والتعليل والإقناع والتعليم والإيضاح قبل حمل السّلاح وكل هذا لا يكون إلا من خلال الخطاب الإقناعي والحوار.
وإن ما يحدث في غزة اليوم من جرائم حرب وإبادة مُمنهجة وتواطؤ دولي وتخاذل إقليمي ومحلي ضد الفلسطينيين أدى بالبعض إلى تحقير تلك الجهود على اعتبار أنها لم تصنع الفارق عندما تحولت المسألة من الحالة النظرية إلى الحالة العملية، ولم تؤتِ ثمارها بعد انكشاف عورة المجتمع الدولي وسكوته المشين عمّا يجري في غزة، لكن لا بد في هذا المقام التفرقة بين الحكومات والشعوب، فعلى المستوى الأول فنعم أما على المستوى الثاني فلا، لأن الشعوب قراراتها حرة ولا تعمل ضمن أجندات ومصالح، فنبقى بحاجة إلى دعمها وحاضنتها لأنها قادرة على الضغط والتأثير في قرارات حكوماتها السياسية حال تم إدارة هذا الحراك ودفعه في الاتجاه الصحيح، وربما تستغرق وقتاً طويلاً حتى يظهر تأثيرها وفاعليتها، لكنها بلا شك تؤثر تأثيراً كبيراً في بيئاتها.
الخطاب الإعلامي العسكري النبوي
المُتتبع لسيرة رسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يجد أنّ الخطاب النّبوي الإعلامي العسكري كان حاضراً ومُتجلياً بقوة وبرز كسلوك نبوي ضمن منهج العمليّات النفسية من خلال الاتصال المباشر مع الجُند لرفع معنوياته وتقوية عزيمته وتبشيره بالنّصر، وإرجافاً وإرباكاً للعدو وتجلى هذا عندما كان يُشير إلى مصارع القوم، فالجند يحتاج إلى التثبيت النفسي والمعنوي باستمرار وتطمينه من مجهولٍ يتربص به.
إن الخطاب الإعلامي العسكري النبوي حقّق أهدافاً مُهمة على المستوى العسكري؛ فها هو -عليه الصلاة والسلام- يُبشّر أصحابه بعد غزوة الخندق قائلاً: “الآن نغزوهم ولا يَغزُوننا”، وقال في سياق نشر الرّعب في قلوب المشركين: “نحن نسير إليهم”، وقال في سياق تطمين المسلمين بأن النصر بيد الله: “لا إله إلا الله وحده، أعزّ جُنده، ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده”، وقال في سياق رفع المعنويات وشحذها بعد غزوة خيبر: “الله أكبر.. خَرِبَت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المُنذَرِين”.
خطاب المقاومة الإعلامي العسكري في غزة
لقد فطنت المقاومة منذ بداية السابع من أكتوبر وقبله لأهمية الخطاب الإعلامي العسكري، حيث كان خطابها في كل مرة متوافقاً مع المنهج الخطاب الإعلامي العسكري النبوي، وتجلى هذا من خلال الظهور المستمر على الشاشات -بالرغم شدة وطأة الحرب والحصار الخانق على قطاع غزة-، فقد حرصت على البقاء على تواصل دائم مع جماهير الأمة الإسلامية فضلاً عن الجماهير الحرة والتأكيد على مشروعية جهادها باعتبارها حركة شرعية تحارب المُغتصب دفاعاً عن النّفس والأرض والمقدسات وهو واجب شرعي غير معذورة بتركه، وباعتبارها حركة تحرر وطنية تدافع عن نفسها ووجودها حسب عُرف القوانين الدولية.
كذلك جاءت الخطابات متزنة رصينة وموضوعية بعيدة عن التّهويل والبروباجندا، تذكُر المعلومات بمصداقية وتدحض أكاذيب ودعاية العدو بالأدلة، وتذكر أرقاماً واحصائيات في بعض الأحيان للتوثيق، تحدثت عن الأسباب والمنطلقات وعن شرعية قتالها، استخدمت أسلوب المحاججات العقلية والمنطقية، والاستمالات العاطفية والعتب واللوم في أحايين كثيرة مع شعوب الأمة لاستنفارها وتعبئتها وتذكيرها بواجبها الديني والأخلاقي والإنساني مع الإبقاء على شعرة معاوية، ومع التهديد والترهيب مع الجبهة الخارجية وتحذيرها مما ينتظرها من عواقب ومفاجآت مُحدقة بها.
اتّزان الخطاب الإعلامي العسكري للمقاومة أعلى من ثقة الجماهير فيها في حين تراجعت كثيراً هذه الثقة في سردية المحتل والتي كانت كثيراً ما تعتمد على الكذب والتّدليس وإخفاء حجم الخسائر.
يصنع الخطاب الإعلامي العسكري فارقاً كبيراً كأداة من أدوات الحرب النفسية على الجبهتين الداخلية لاستقرارها والخارجية لإرجافها استكمالاً للجهود الأخرى، فالنصر يعمل ضمن منظومة متكاملة ومُتفاعلة ولا يتحقق إلا باستيفائها جميعاً.