دور التعريب في إثراء الحركة الثقافية عند المسلمين
إن التعريب يهدف إلى بناء شخصية إبداعية عربية تمتلك القـدرة الذاتية على إنتاج العلم وصناعة الثقافة والتكنولوجيا، وهذه القدرة ليس مناطها المعرفة العلمية وحدها
اللغة كائن حيٌّ ينمو ويتطور ويرتقي، يأخذ ويعطي ويؤثر ويتأثر لأنها هي الوسيلة الأولى للإنسان ليدخل بها معترك الحياة، والإنسان كائن اجتماعي فكلما تطور تطورت لغته ونمت. وظاهرة اقتراض الألفاظ تعدُّ من أهم الوسائل التي تعتمد عليها اللغة في تطورها وارتقائها، وهي مطردة في كل لغات البشر قديمها وحديثها، وهي ما أطلق عليه العرب (التعريب). إن التعريب قضية هامة، لأنه رافـد من روافد اللغة العربية. وقد عرف العرب منذ عصر ما قبل الإسلام تعريب المفردات، فتجد الكلمة المستعارة طريقها في ألسنتهم، بعد أن ينفخوا فيها من روحهم العربية، فيتلقفها الشعراء منهم، ويدخلونها في أشعارهم، وأرجازهم؛ فأصحاب المعلَّقات – مثلاً – كانوا يسمعون خلطاءهم يتكلمون بكلمات أعجمية، اتصل معظمها بهم من التجار الذين ألِفوا رحلات الشتاء، والصيف إلى بلاد الروم، والفرس وغيرها، فاستبضعوا المسميات بأسمائها، وجلبوها معهم إلى جزيرتهم، ثم استعمل أصحاب المعلقات، وسائر البلغاء تلك الكلمات في كلامهم من دون نكير، ومن دون أن يعاب ذلك الكلام فينزل عن درجة فصاحته، وبلاغته، وقد ترك لنا اتصال العرب بغيرهم من الأمم في شعر عصر ما قبل الإسلام بعض الكلمات التي لم تكن من نسيج لغة قريش، أو غيرها من لهجات العرب الأخرى، فامرؤ القيس – مثلاً – كان على اتصال بدولة الروم، ويُروى أنه وفد على قيصر ملك الروم، وكان لهذا الاتصال تأثيره في استخدامه عدداً من الألفاظ الرومية في شعره، ولا يعني وجودها في شعره أن كل العرب قد استعملتها آنذاك، لكنه مع ذلك لم يجد بأساً في استعمال (السجنجل) في معلقته التي كانت العرب تباهي بها لفصاحتها. وفي شعر الأعشى وردت كلمات أجنبية، معظمها من اللغة الفارسية، لأنه كان يفد على ملوك فارس، ومثل هذا يوجد في شعر النابغة الذبياني، الذي بلغ شأواً عظيماً في عصره، فضربت له قبـة حمـراء من أدم بسوق عكاظ، وكانت تأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، إذ لم يخلُ شعره من الألفاظ الأعجمية، فأورد – مثلاً – في إحدى قصائده كلمة (سفسير) وهي السمسار بالفارسية. فنجد أن ألفاظ العربية حوت من اللغات اليونانية والفارسية والسريالية والحبشية والعبرانية والهندية… الشيء الكثير مما لا يجحده جاحد ولا يخالف فيه مخالف، وكذلك في القرآن الكريم إذ وفدت إلى العرب تلك الكلمات فأعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن الكريم، وقد اختلطت هذه الكلمات بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال هي أعجمية فهو صادق؛ فهي أعجمية باعتبار الأصل وعربية باعتبار الحال.
أهمية التعريب:
والمقصود من التعريب هو سيادة اللغة العربية على ساحة الوطن العربي في جميع مجالات الحياة تعليماً وإعلاماً وتواصلاً، أخذاً وعطاءً وتأثيراً وتأثُّراً؛ من رؤية متكاملة للحياة، وقدرة ذاتية على ممارستها، بما يوحد الرؤى والمشاعر العربية، ويجمعها حول تاريخها وواقعها ومصيرها، وهو ما يجعل التعـريب عاملاً جوهرياً في الخروج من دائرة التخلف الأساسي المتمثل في التجزئة، إلى حرية الوحدة العربية في الصورة التي تؤصل دور الأمة العربية التاريخي والمصيري، ويعينها على كسر دائرة طوق التخلف والتحرر من أنواع التبعيات الاقتصادية والثقافية والتقانية (التكنولوجية)، كما يعينها على المشاركة والتفاعل من منطلق متميز، والإسهام في الحضارة البشرية، متجاوزة عقبات التخلف بضم قدراتها البشرية والعلمية والمادية، واستنبات العلم عربياً، وتوحيد إستراتيجياتها تنموياً، وصنع تقانة عربية. والسبيل إلى ذلك كله هو الإنسان الذي تلقى علوم عصره بلغته يتعلم ويعلم ويبحث بها.
التعريب قضية:
إن التعريب قضية متعددة الوجوه والمستويات والمجالات؛ فهو قضية دينية، وهو قضية تربوية، وهو قضية أمن ثقافي، وهو قضية إبداع وابتكار. ثمة ارتباط بين اللغة العربية والقرآن الكريم؛ إذ كان القرآن الكريم سياجاً للغتنا، حفظها من الضياع وصانها من الاضمحلال والزوال على الرغم من الكوارث والأرزاء التي اجتاحت الأمة ومن الهجمات التي ابتليت بها عبر العصور، وما الفضل في صمود اللغة العربية أمام الهجمات الشرسة التي تعرضت لها الأمة والتحديات العنيفة التي واجهتها إلا القرآن الكريم. التعريب قضية قومية ودينية ومجتمعية وتربوية وأمن ثقافي وإبداع وابتكار، ورفد للغة العربية وحق نسغ جديد يزيد في حيويتها وغناها، ويضمن تدفقها وثراءها، ويحقق استيعابها لأغراض الحضارة الحديثة في ميادينها المختلفة، كما يؤدي إلى نقل العلوم الأجنبية إلى أرض الوطن العربي، ثم إلى ترسيخ التفكير العلمي في أذهان الأجيال العربية المقبلة، بحيث يغدو التفكير العلمي والتعبير العربي صنوين متحدين ملتحمين حافزين إلى الإبداع والابتكار، هذا إلى جانب التواصل الدائم مع ما يجدُّ من بحوث علمية على الصعيد العالمي باللغات الأجنبية.
من أهداف التعريب:
إن التعريب يهدف إلى بناء شخصية إبداعية عربية تمتلك القـدرة الذاتية على إنتاج العلم وصناعة الثقافة والتكنولوجيا، وهذه القدرة ليس مناطها المعرفة العلمية وحدها، ولكن المناخ العلمي الذي يستدعي عدداً من الظروف المواتية لتملك القدرة الذاتية، وهي ظروف متعددة الجوانب، منهـا ما هو سياسي، ومنها ما هو تشريعي، ومنها ما هو تنظيمي، وما هو اجتماعي، وما هو مالي، وما هو في الأساس علمي. وإذا كان التعريب يهدف إلى تأكيد الهوية واستنبات العلم عربياً، والإسهام في مسيرة الحضارة العالمية، فإن السبيل إلى ذلك هو الإنسان الذي يتلقى علوم العصر بلغته، يتعلَّم ويعلِّم، ويبحث بها مع الأخذ بالحسبان أن التعريب لا يعني الانغلاق. ونحن في عصر التفاعل العالمي على مختلف المستويات وتنوع الوسائل؛ ذلك لأن الدعوة إلى الانغلاق منافية لجوهر الحضارة الإسلامية، ولا بد من إتقان اللغات الأجنبية خدمة للتعريب في الوقت نفسه.
وكان التعريب منذ القديم وسيلة من وسائل العربية في الاستجابة لمتطلبات احتكاك العرب الحضاري والثقافي مع غيرهم من الأمم ويمكن أن نتبع بيسر حيناً وبصعوبة حيناً آخر الكلمات التي عُرِّبت إلى لغتنا على مر العصور؛ فقد اتخذ التعريب في كل عصر المفهوم أو اللون الذي يلبي حاجة المجتمع العربي في ذلك العصر واتصف بما يميزه في تلك المرحلة.
(المصدر: مجلة البيان)