دور التحالف الصهيوني المسيحي في إعادة تشكيل الشرق الأوسط
إعداد خالد موسى دفع الله
رغم الجذور التاريخية للتحالف الصهيوني المسيحي التي تعود إلى أصول فكرية كالفن الديني في القرن السادس عشر، فإن تمظهرات هذا التحالف السياسية في العصر الحديث ترتبط بإعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948.
وكشفت الباحثة الأمريكية فيكتوريا كلارك في كتابها الشهير “حلفاء معركة هرمجدون وبروز المسيحية الصهيونية” أن الفكر اللاهوتي الذي عمق الارتباط الوجودي بين المسيحية الصهيونية وقادة دولة إسرائيل، على أساس أن إسرائيل تتحمل عبء توفير الأشراط التاريخية لاندلاع معركة هرمجدون وعودة الجميع إلى واحة المسيح.
وأن العقيدة السياسية لهذا التحالف تتمثل في نفخ مزمار الحرب والسيطرة على العالم، ممَّا ساعد في تشكيل توجهات السياسة الخارجية الأمريكية وانحيازها الدائم لإسرائيل. وتعرف المصادر المعتمدة المسيحية الصهيونية بأنها “حركة معاصرة نشأت بين المسيحيين اللاهوتيين، تدعم حق اليهود في العودة إلى أرض الميعاد”.
ويشير البعد العقدي لهذا التحالف إلى أن المعركة بين الخير والشر حتمية، ولا توجد أي مساحة رمادية أو مساومة تاريخية في أن الانتصار للعقيدة المسيحية اليهودية يعد جزءاً أساسياً وتصديقاً للتفسير الإنجيلي الوارد في كتاب (دانيال) في العهد القديم حتى ظهور المسيح وإعادة بناء الهيكل.
تعود شهرة مصطلح “التحالف اليهودي المسيحي” في الحقل السياسي إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت الذي استخدمه لتحشيد الدعم لمواجهة الخطر النازي في عام 1930.
لكن بعد سبعة عقود من ذلك التاريخ أشار الرئيس بوش الابن في خطابه عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى أن الحرب على الإرهاب تستهدف، إضافة لهزيمة الإرهابيين والدول التي تقدم لهم المأوى والدعم، “حماية القيم المسيحية اليهودية المشتركة”.
رغم أن المصطلح استخدم في سياقه التاريخي لأغراض استنهاض القومية المسيحية، وكذلك العداء للسامية والكاثوليكية، فإنه كذلك ارتبط بالحراك الاجتماعي والفكري لمجموعتي اليهود الإشكانزي والكاثوليك الذين تعود أصولهم إلى جنوب وشرق أوروبا.
ونسبة لقاعدة الرفض الواسعة لقبولهم ضمن “العرق الأبيض لمجموعة الأنجلو ساكسون” WASP، في عقد العشرين من القرن الماضي 1920. لكن أحدث قبول هاتين المجموعتين في تلك الحقبة ضمن مؤسسة البيض الأنجلوسكسونية تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية هائلة أعادت موضعة هاتين المجموعتين في سياق تاريخي جديد ضمن مؤسسة الرجل الأبيض الأنجلو ساكسوني.
وسرعان ما تحول هذا الوصف الذي تمادى في استخدامه القوميون المسيحيون إلى أيديولوجية سياسية تشير إلى رمزية “العرق الأبيض” whiteness وحقه في الحكم والاستعلاء العرقي والثقافي.
ونجح الرئيسان ترومان وأيزنهاور في توظيف ذلك بالدعوة للتسلح ضد الاتحاد السوفيتي الذي لا يؤمن بالله. ونشطت في سبعينيات القرن الماضي حركة “الأغلبية الأخلاقية” ضد المغالاة في فصل الدين عن الدولة، والتي بلغت ذروتها في وصول الرئيس رونالد ريغان لسدة الحكم الذي عارض وقف الصلوات المسيحية في المدارس، وبرز اليمين الديني المعبر عن هذه التطورات التاريخية بصورة قوية في المشهد السياسي الأمريكي تحت إدارة الرئيس ريغان.
عبرّ اليمين المسيحي خاصة مع بروزه القوي تحت إدارة الرئيس ريغان، عن تأثيره الفاعل في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية وتقديم تفسيرات دينية لهزيمة الاتحاد السوفيتي “إمبراطورية الشر” الذي يمثل رمزاً قوياً لإلحاد الدولة.
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة في عام 1989، قدًٓر المفكرون الاستراتيجيون في الولايات المتحدة أن العدو المركزي هو الإسلام المتطرف، الذي حل بديلاً عن الاتحاد السوفيتي.
لكن البروز الأكبر لحركة المحافظين الجدد خاصة في عهد الرئيس بوش الابن كان له تجلياته الكارثية على الشرق الأوسط خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
تناصر تياران داخل الولايات المتحدة وهما إعلان الحرب على الإرهاب باعتباره هو محور سياسة أمريكا الخارجية، وتمثل التيار الثاني في تقوية التحالف المسيحي الصهيوني تحت مظلة المحافظين الجدد، وارتباطه مع قادة إسرائيل خاصة اليمين المتطرف وحزب الليكود الحاكم حينها.
انتبه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما لمأزق المحافظين الجدد بعد غزو العراق، وأجرى في كتابه “أمريكا عند مفترق الطرق” مراجعات عميقة لمجمل الكسب السياسي والفكري لهذا التيار وتأثيره على السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وكانت خلاصة مدرسته الفكرية أن هذا التيار لا يمثله، وانتقد مبادئ العقيدة السياسية لهذا التيار وهي عسكرة السياسة الخارجية، واستخدام القوة الأمريكية لأهداف أخلاقية “نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان”، والتشكيك في قدرة مؤسسات النظام الدولي التعددي والقانون الدولي في كفكفة مخاطر وتحديات الأمن الدولي. وكذلك الإيمان القاطع بمشروع الهندسة الاجتماعية.
وتكمن المفارقة النظرية في كتابين آخرين حاولا التنظير في توجهات السياسة الخارجية أثناء بروز قوى منافسة للهيمنة الأمريكية. الأول كتاب قادة المحافظين الجدد كريستول وكيجان “الأخطار المحدقة 2000″، الذي أكدا فيه أن نشر الديمقراطية هدف واقعي للسياسة الخارجية الأمريكية، وليس هدفاً مثالياً فحسب. وأن الهيمنة الواعية يمكن أن تقود توجهات أمريكا الخارجية. أما الكتاب الثاني فهو للاستراتيجي الليبرالي الأمريكي برزنسكي تحت عنوان “السياسة الخارجية الامريكية، هيمنة أم قيادة؟”، وفيه يؤكد نظريته الذائعة أنه من تضعضع موارد القوة الأمريكية فإن الخيار هو المشاركة في قيادة العالم مع آخرين من (مقعد السائق Driving Wheel) وليس فرض الهيمنة الأحادية.
وتساءل فوكوياما وهو ينظر للجذور التاريخية لنشوء وتطور حركة “المحافظية الجديدة” التي برزت وسط المثقفين اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي في كلية مدينة نيويورك CCNY، ومنهم المثقف ذائع الصيت اريفنغ كريستول، وكيف لتيار ادعى الاستنارة ونادي بكونية حقوق الإنسان، والتطور الطبيعي للمجتمع البشري أن ينتهي هذا التيار للاعتقاد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن محاربة جذور ظاهرة الإرهاب يرتبط ارتباطاً شرطياً بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
تمثل أبرز تمظهرات التحالف المسيحي الصهيوني في أجندة حركة المحافظين الجدد التي استطاعت أن تؤثر تأثيراً بالغاً على توجهات السياسة الخارجية منذ عهد ريغان ووصل هذا التأثير قمته في عهد الرئيس بوش الابن، بخاصة الحرب على أفغانستان وغزو العراق ومحاولة الهندسة الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط، وأن نشر الديمقراطية والإصلاح السياسي والديني هي الترياق لتفشي ظاهرة الإرهاب.
ظلت العقيدة السياسية لكل الإدارات المتعاقبة على سدة البيت الأبيض هي الحفاظ على التفوق الاستراتيجي لإسرائيل في المنطقة، وبلغ التعاون ذروته في عهد الرئيس ترمب الذي استطاع تحريك الغضب الكامن وسط فقراء البيض تحت شعارات شعوبية طنانة، مما قاد إلى تصدع عميق في بنية المجتمع الأمريكي على أسس ثقافية عرقية، وفي المقابل ظل وفياً لاجندة التحالف المسيحي الصهيوني ومنها قراره الكبير بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وعقد اتفاقيات السلام مع عدد من الدول العربية (الإمارات، البحرين، السودان، المغرب) وغيرهم من الدول.
وظل تحالف الليكود بقيادة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق نتنياهو والإدارة الجمهورية في عهد ترمب مركزاً على تصفية القضية الفلسطينية في إطار مشروع صفقة القرن والاتفاقيات المندرجة في اتفاق أبراهام وتجاوز حل الدولتين والأرض مقابل السلام إلى مزاعم “السلام مقابل السلام”.
ومع فوز بايدن بسباق الرئاسة الأمريكية، وخسران نتنياهو لمنصب رئيس الوزراء في تل أبيب تلوح في الأفق تحولات جديدة وإعادة الاعتبار إلى حل الدولتين.
لكن سيظل تأثير التحالف المسيحي الصهيوني والمرتكزات الفكرية للمحافظين الجدد مستمراً في تشكيل توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ورغم محاولات إدارة بايدن تجديد وجهة السياسة الخارجية بالعودة إلى الدبلوماسية بدلاً من الأدوات العسكرية، وإحياء رابطة الأطلنطي والأحلاف الغربية (الناتو) ورد الاعتبار للمؤسسات التعددية الدولية (الأمم المتحدة) والنظام الليبرالي الدولي، وإعادة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى جوهر سياسة واشنطن الخارجية، رغم هذه التحولات إلا أن المحافظة على أمن إسرائيل واستدامة تفوقها الاستراتيجي، وتقوية التحالف المسيحي الصهيوني لرعاية المصالح والقيم المشتركة سيظل يمثل جوهرة التاج للعلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، لأسباب عقدية ودينية وحضارية وسياسية.
ولن يهتز هذا التحالف الذي يرتكز علي جذور تاريخية إلا إذا اهتزت مكانة أمريكا الدولية باعتبارها القوة العظمى الأولى في العالم، وذلك ما يشير إليه بعض المحللين أن طريقة الانسحاب المهين لأمريكا من أفغانستان بعد سقوط كابول في يد طالبان ما هو إلا مؤشر قوي لملامح ما بعد الهيمنة الأمريكية على العالم. .
لكن الأثر الأبرز لسياسات وفكر التحالف المسيحي الصهيوني في المنطقة وجد له أثراً ثقافياً عميقاً بين النخب العربية والشرق أوسطية، وهي التي جعلت من المشروع النيو ليبرالي الجديد مرتكزاً فكرياً لخطابها السياسي، وتبنت مشروعات فاشلة للهندسة الاجتماعية في الشرق الاوسط عن طريق الدفع نحو تغيير الأنظمة.
ومن المؤكد سيستمر فشل هذا النوع من التفكير، لأن الإصلاح السياسي والاجتماعي ومحاربة التطرف والتحول الديمقراطي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، عبارة عن عملية تفاعلية ضمن سياق التعاطي مع الحداثة وليس مشروعاً فوقياً تفرضه النخب والدول بالمال والقوة. وأن مستقبل المشروع النيوليبرالي والهندسة الاجتماعية لن ينجح دون استصحاب البنى الثقافية والاجتماعية والموروثات الحضارية للشعوب.
المصدر: تي آر تي TRT عربي