دور الانتخابات في الحياة السياسية التركية (2 من 3)
بقلم محمود عثمان
عام 1946 بداية التجربة الديمقراطية في تركيا، حيث انتهت فترة حكم الحزب الواحد في هذا العام، وتم الانتقال إلى التعددية الحزبية.
الدولة تتصالح مع الشعب..
لئن اصطلح على تسمية عام 1946 بداية التجربة الديمقراطية في تركيا، حيث انتهت فترة حكم الحزب الواحد في هذا العام، وتم الانتقال إلى التعددية الحزبية، فإن البداية الفعلية الحقيقية تجلت في انتخابات عام 1950، حيث أجريت انتخابات ديمقراطية نزيهة، قال الشعب فيها كلمته، وعبر عن إرادته دون عوائق أو قيود.
لكن ذلك لم يكن ليحدث لولا إقرار “قانون انتخاب النواب” Milletvekilleri Seçimi Kanunu” رقم 5545 الذي شكل حجر الأساس للتجربة الديمقراطية في تركيا.
** انتخابات 1950 ـ 1960 وفوز الحزب الديمقراطي
في انتخابات الرابع عشر من أيار / مايو 1950، حصد الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس 408 مقاعد، مقابل 69 مقعدا لحزب الشعب الجمهوري، من أصل 487 مجموع مقاعد البرلمان.
حصل الحزب الديمقراطي في انتخابات 1950 على نسبة 53.35 % بواقع 408 مقاعد، مقابل حصول حزب الشعب الجمهوري على 38.38 % بواقع 69 مقعدا من أصل 487 مجموع مقاعد البرلمان.
إصرار زعيم حزب الشعب الجمهوري على نظام الأغلبية في الانتخابات انقلب بالضرر على حزبه، حيث حصل الحزب الديمقراطي على حصة فعلية تزيد على 83 %، مقابل حصوله على نسبة 53.35 % من أصوات الناخبين. كل ذلك بسبب نظام الأكثرية في قانون الانتخابات.
شكل الحزب الديمقراطي الحكومة برئاسة مندريس، وقام البرلمان بانتخاب “رفيق كورألتان” رئيسا له، كما تم انتخاب “جلال بيار” رئيسا للجمهورية.
كان هذا الانتصار الكبير بمثابة منعطف حاسم في تاريخ تركيا الحديث، حيث نجحت تركيا في امتحان التداول السلمي للسلطة، الذي يشكل أحد أهم أركان النظام الديمقراطي.
كانت انتخابات عام 1950 المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يفقد فيها حزب الشعب الجمهوري الحاكم السلطة التي تولاها مدة 27 عاما.
** الشعار المحفور في الذاكرة
في انتخابات الرابع عشر من أيار / مايو 1950، رفع الحزب الديمقراطي شعار “كفى.. الكلمة للأمة”، ‘Yeter Söz Milletindir’.
لامس هذا الشعار، الذي صمم بشكل فني جميل، مشاعر ووجدان الشعب التركي، وفعل في الناخبين فعل السحر، ما أغضب قيادة حزب الشعب الجمهوري، فقاموا بنفي مصممه سلجوق ميلان من العاصمة أنقرة إلى مدينة أورفا عقوبة له.
إعادة الأذان إلى أصله باللغة العربية، كان أول إجراء قام به الحزب الديمقراطي عقب فوزه بالانتخابات، بعد أن حوله حزب الشعب الجمهوري عام 1932 إلى اللغة التركية.
كانت فرحة الشعب التركي بعودة الأذان إلى أصله بعد 18 عاما عارمة، حتى إن مسجدا بمدينة بورصة رفع أذان العصر يومها باللغة العربية سبع مرات تعبيرا عن الفرحة بهذه المناسبة العظيمة، وخرج الناس إلى الشوارع مبتهجين ساجدين شكرا لله.
كان يوم 16 حزيران / يونيو 1950 عيدا لدى الشعب التركي بحق، فقد وزعت الحلوى وذبحت القرابين، وتبادل الناس التهاني بهذه المناسبة الكبيرة.
الفوز الكاسح للحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات أزعج ضباط الجيش آنذاك، فأرسلوا رسالة للرئيس عصمت إيننو يعرضون عليه تدخلهم تحت ذريعة “تحايل الشيوعيين في الانتخابات”. لكن عصمت إيننو رفض هذا العرض.
دعا الحزب الديمقراطي إلى التجديد والحرية والديمقراطية والانفتاح على العالم، وتعهد بإنشاء المصانع وفتح المدارس والجامعات، والأهم من ذلك كله، نجاحه في مخاطبة وجدان الشعب التركي، وتصالحه مع قيمه وتراثه، بعد سنوات من تعسف حزب الشعب الجمهوري في استعمال السلطة لجهة فرض التغريب ثقافة بديلة. وقد شكل إعادة الأذان إلى أصله باللغة العربية نقطة فارقة في تصالح الدولة مع المواطن بعد فترة من القطيعة النكدة.
في الانتخابات التالية عام 1954 حافظ الحزب الديمقراطي على زخمه الشعبي، فحصل على نسبة 57.5 % من الأصوات بواقع 502 مقعد في البرلمان، فيما حصل غريمه حزب الشعب الجمهوري على نسبة 35.29 % من الأصوات بواقع 31 مقعدا فقط. بالإضافة إلى خمسة نواب لحزب الأمة الجمهوري حديث التأسيس، وثلاثة نواب مستقلين، ليكون مجموع نواب البرلمان 541 نائبا.
أما انتخابات 1957 فقد شهدت تنافسا كبيرا انعكس على الحملات الانتخابية، حيث أطلق الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس “حملة العمران” وشعار “نحو مستقبل مشرق”. مقابل ذلك أطلق حزب الشعب الجمهوري سلسلة من الوعود الانتخابية، كان أبرزها “إنهاء تسلط الحزب” و”تأسيس دولة القانون”، كما وعد الموظفين بمنحهم حق الإضراب.
انتخابات 1957 شهدت هبوطا في التأييد الشعبي للحزب الديمقراطي، حيث تراجعت نسبته إلى 47 % من أصوات الناخبين بواقع 424 مقعدا. فيما رفع حزب الشعب الجمهوري نسبة تأييده إلى 41 % ليحصل على 178 مقعدا في البرلمان.
استطاع عدنان مندرس المضي بتركيا قدما في مجال تحسين بنيتها الاقتصادية، وترسيخ تجربتها الديمقراطية، بالقدر الذي سمح به وجود مؤسسة عسكرية متربصة بكل ما تراه انحرافا عن مبادئ المؤسس أتاتورك بحسب رؤيتها هي. فكان هامش الحركة لدى مندرس محدودا ضيقا، وكانت العيون مسلطة عليه، رغم الدعم الشعبي الذي حازه بسبب حالة الانفتاح والإنجازات التي حققها.
مناكفات السياسيين الناجمة عن ضعف الخبرة السياسية، الناتجة ـ بدورها ـ عن حداثة العهد بالحياة الديمقراطية، وتمسك العسكر بما اعتبروه “إرث المؤسس مصطفى كمال أتاتورك”، أفسحت المجال أمام الجيش للتدخل، ووضع التجربة الديمقراطية في نظارة الانتظار إلى حين ترتيب الأمور بطريقة تفسح المجال لوصاية المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية.
**1961 ـ 1969 ثلاثة انتخابات وانقلابان عسكريان
بتاريخ 27 أيار / مايو 1960، قامت زمرة من الضباط من خارج التراتبية العسكرية بانقلاب عسكري، فاستولوا على السلطة، وعينوا قائد القوات البرية جمال جورسال رئيسا للجمهورية.
شكل الانقلابيون لجنة الوحدة الوطنية Milli Birlik Komitesi التي تولت إدارة البلاد. فقامت بحل البرلمان، وتعليق العمل بالدستور، وإغلاق الحزب الديمقراطي، واعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان.
أسس الانقلابيون أيضا محكمة العدل العليا Yüksek Adalet Divan? التي أصدرت حكما بالإعدام بحق رئيس الوزراء عدنان مندرس، ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاطكان. وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم بتاريخ 17 أيلول / سبتمبر 1961.
بعد الإعدامات بشهر وبتاريخ 15 أكتوبر / تشرين الأول 1961 أجريت انتخابات برلمانية شارك فيها إلى جانب حزب الشعب الجمهوري، كل من الحزب الوطني الفلاحي الجمهوري (CKMP)، وحزب تركيا الجديدة الذي ادعى أنه وريث الحزب الديمقراطي، وحزب العدالة.
نص دستور 1961 الذي فرضه الانقلابيون على استحداث مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس الأمة الكبير.
وبتاريخ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، أجريت انتخابات مجلس الأمة ومجلس الشيوخ معا. حصل فيها حزب العدالة وريث الحزب الديمقراطي على 34 %، وحزب تركيا الجديدة على 13 %، وبقية الأحزاب على 13 %. فيما انخفض تأييد حزب الشعب الجمهوري إلى نسبة 36 %.
هبوط التأييد الشعبي لحزب الشعب الجمهوري كان بسبب تماهي الحزب مع الانقلابيين ودعمه المطلق لهم.
أما في انتخابات مجلس الشيوخ، فقد حل حزب الشعب الجمهوري في المرتبة الأولى بنسبة 36.1 %، خلفه حزب العدالة 34.5 %، ثم حزب تركيا الجديدة 13 %، وأخيرا الحزب الوطني الفلاحي الجمهوري CKMP) % 12.5)، والباقي مستقلون.
** مكافحة الشيوعية والخطاب الإسلامي
شهدت انتخابات 1965 سطوع نجم سليمان ديميريل رئيس حزب العدالة الشاب، الذي ألهب عواطف الجماهير بخطبه الحماسية التي استخدم فيها الخطاب الإسلامي، مدغدغا مشاعر الشارع التركي المحافظ.
تبنى ديميريل شعارات راديكالية ضد اليسار والشيوعية والاشتراكية، فنادى “لا للشيوعية”، و”نحن ضد التيارات اليسارية”، و”سوف نقاوم جميع التيارات الشيوعية واليسارية”. خطاب ديميريل كان موجها بشكل رئيسي لحزب العمال ?P الذي تأسس عام 1961، مع صعود اليسار والمد الشيوعي والاشتراكية في أوربا وبقية دول العالم.
نجح ديميريل في قيادة حزب العدالة للفوز بانتخابات 1965 بنسبة 52.9 % بواقع 240 نائبا، فيما استمر رصيد حزب الشعب الجمهوري بالتراجع ليصل إلى نسبة 28 % بواقع 134 نائبا، ثم حزب العمال بنسبة 3 % بواقع 15 نائبا.
تميزت انتخابات 1969 بالصراع الأيدلوجي الحاد، مقابل انخفاض المشاركة الشعبية في الانتخابات، حيث تدنت لمستوى 64.3 % بعد أن كانت تزيد على 83 % في انتخابات 1950.
حزب العدالة حافظ على الصدارة، لكن نسبة أصواته انخفضت 6.4 % لتصل إلى 46.6 % بواقع 256 نائبا.
حزب الشعب الجمهوري هو الآخر استمر بالتراجع ليصل إلى 27.4 % بواقع 143 نائبا. فيما حل حزب الثقة في المرتبة الثالثة بنسبة 6.6 % بواقع 15 نائبا، والمستقلون 5.6 % بواقع 13 نائبا، وبقية المقاعد توزعت على بقية الأحزاب الصغيرة.
** انتخابان وسط انقلابين عسكريين
أجريت انتخابات 1973 في ظل حالة الطوارئ التي فرضها الانقلاب العسكري عام 1971. رغم ذلك فقد شهدت منافسة حادة بين كل من حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل، وحزب الشعب الجمهوري بقيادة بولنت أجاويد الذي بدأ يتبنى الخطاب اليساري، وحزب الحركة القومي بقيادة ألب أصلان توركاش الذي أيد انقلاب 1960 بقوة، وحزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين أربكان الذي تبنى الفكر الإسلامي الحركي.
جاءت نتائج هذه الانتخابات مفاجئة، حيث حاز حزب الشعب الجمهوري المرتبة الأولى بسبب الانقسام الشديد في أصوات اليمين وتوزعها على عدة أحزاب. فقد حصل حزب الشعب الجمهوري على 33.3 % من الأصوات بواقع 185 نائبا، وحزب العدالة على 29.8 % بواقع 149 نائبا، وحزب الديمقراطية بزعامة جلال بيار على 11.9 % بواقع 45 نائبا، وحزب السلامة الوطني بزعامة أربكان على 11.8 % بواقع 48 نائبا، وحزب الحركة القومي على 3.4 % بواقع 3 نواب.
** ولادة “مللي جوروش” Milli Görü?
شهدت سبعينيات القرن الماضي صحوة إسلامية، وصعودا مضطردا للتيار الإسلامي الحركي، مثله وقاده في تركيا نجم الدين أربكان الذي أسس حزب النظام الوطني، الذي أغلقه الانقلابيون بسبب تبنيه شعارات إسلامية تدعو إلى محاربة العلمانية وتطبيق الشريعة الإسلامية.
بعد إغلاق حزبه الأول قام نجم الدين أربكان بتأسيس حزبه الثاني حزب السلامة الوطني، وقام بتعديل خطابه السياسي بما يتلاءم مع ظروف الحياة السياسية في البلاد.
وضع البرفسور نجم الدين أربكان الأسس الفكرية لحركته السياسية تحت مسمى “مللي جوروش” Milli Görü?، شخص فيها عوامل فشل الأمة، وتخلفها عن اللحاق بركب الحضارة، وقدم الحلول العملية للخروج من وضعية التابع المتخلف، واللحاق بركب الحضارة.
اعتمدت نظرية “مللي جوروش” Milli Görü? على القوة الذاتية للشعب التركي والعالم الإسلامي، ودعت إلى الاعتماد على الإنتاج المحلي والابتكار الذاتي، والتخلص من الارتباط بالغرب، وخصوصا في مجال التصنيع، والتصنيع الحربي على وجه الخصوص. كما حاربت الربا واعتبرته السبب الرئيسي لمرض الأمة وتسلط الأعداء.
في انتخابات 1977، عزز حزب الشعب الجمهوري بقيادة بولنت أجاويد تفوقه بنسبة 41.4 % بواقع 213 نائبا، فيما حصل حزب العدالة على 36.9 % بواقع 189 نائبا، وحصل حزب السلامة الوطني على 8.6 % بواقع 24 نائبا، وحزب الحركة القومي على 6.4 % بواقع 16 نائبا.
تميزت هذه الفترة بالحكومات الائتلافية والبازارات السياسية، وبلغ الانقسام والتشظي السياسي أوجه. رافق ذلك تراجع كبير في الاقتصاد، وفقر وشح في تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن، وانتشار لفوضى السلاح، والصدامات المسلحة المفتعلة بين اليمين واليسار.
مع حلول عام 1980، كانت الأجواء مهيأة وجميع الظروف مواتية ومستوفية لجميع الشروط من أجل قيام الجيش بوضع يده على مقاليد السلطة.
جاء الجيش هذه المرة منقذا ومخلصا، فقد رحب بقدومه قطاع عريض من الشعب التركي، الذي كان يبحث عن الأمن والأمان بعد سنوات من الفوضى.
في الحلقة القادمة والأخيرة نناقش دور الانتخابات في فترة الثمانينيات إلى يومنا هذا.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)