دور الانتخابات في الحياة السياسية التركية (1 من 3)
بقلم محمود عثمان
تركيا.. من العلمانية الإقصائية إلى الليبرالية
بالرغم من تعرض التجربة الديمقراطية في تركيا لفترات من الانقطاع والتعثر بسبب الانقلابات العسكرية التي توالت بمعدل انقلاب لكل عشر سنوات تقريبا، إلا أنها حافظت على مسيرتها من خلال العودة إلى الشعب عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع.
بعد أن حل مجلس المبعوثان العثماني الذي كان مقره في إسطنبول، تحول أغلب أعضائه إلى أنقرة. لكن بعضهم لم يتمكن من الوصول إلى أنقرة، فأجريت انتخابات تكميلية في مناطق أولئك النواب، وتم استكمال تشكيل مجلس الأمة الكبير الذي اجتمع أول مرة في أنقرة عام 1920.
مع تأسيس الجمهورية التركية تم اعتماد قانون الانتخابات الجديد بتاريخ 3 نيسان أبريل 1923، واستمرت الانتخابات البرلمانية دون انقطاع حتى أثناء حكم الحزب الواحد، حيث كانت تُعقد انتخابات برلمانية كل أربع سنوات.
بعد تأسيس الجمهورية التركية حكمت تركيا بنظام الحزب الواحد، حيث رأى مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك أن نظام الحزب الواحد يؤسس للاستقرار في البلاد في هذه الفترة التي دامت 23 عاما، أجريت خمس انتخابات برلمانية في أعوام 1923، 1927، 1931، 1935، 1939.
في تلك الانتخابات طبق نظام الصوت الواحد، أي أن الناخب كان له الحق في اختيار واحد من المرشحين بشكل شخصي، والخيارات أمام الناخب كانت محدودة للغاية، لأن جميع المرشحين يجب أن يكونوا منتسبين إلى حزب الشعب الجمهوري حكما، والذي كان بدوره لا يقبل انضمام المخالفين له في الرأي والفكر والسياسة إلى صفوفه.
يعتبر عام 1946 البداية الفعلية للتجربة الديمقراطية في تركيا، حيث انتهت فترة حكم الحزب الواحد وتم الانتقال إلى التعددية الحزبية، وأجريت عام 1946 كأول انتخابات تعددية، شاركت فيها مختلف الأحزاب السياسية التي ولدت لتوها من رحم حزب “الشعب الجمهوري” الحاكم.
لكن أهم مأخذ على انتخابات 1946، كان تطبيق نظام “الانتخاب المفتوح والفرز المغلق”، حيث كان يجبر الناخب على التصريح لمشرف الصندوق أي حزب اختاره، وهذا يعني تخويف الناخب، وممارسة ضغط معنوي عليه، وفي المقابل كان عد الأصوات سريا.
قانون “الانتخاب المفتوح والعد المغلق”، ابتكره حزب “الشعب الجمهوري” بقيادة عصمت إينونو، الذي اضطر إلى قبول التعددية الحزبية مكرها، وهو ما ولّد الشك حول نزاهة الانتخابات ونتائجها، عكس القانون الحالي الذي يضمن للناخب حرية اختيار من يشاء بسرية تامة، فيما عد الأصوات يتم تحت مراقبة مندوبي جميع الأحزاب، وأمام سمع وبصر الشعب التركي بكامله.
بسبب قانون “الانتخاب المفتوح والعد المغلق” لم يحصل الحزب الديمقراطي (المعارض) في انتخابات 1946 سوى على 61 مقعدا من أصل 465 مقعدا، إلا أن تلك الانتخابات شكلت بداية معقولة، وتجربة إيجابية في التاريخ السياسي التركي، كونها مثّلت حجر الأساس للتعددية السياسية في تركيا.
التحول من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية لم يكن تطورا ذاتيا، إنما بناء على طلب حلف “الناتو” الذي وضع مسألة الانتقال نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية شرطا أساسيا لقبول عضوية تركيا في الحلف.
مع نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبداية تشكيل الخارطة السياسية لأوروبا، وقفت تركيا على مفترق الطرق، إما انحياز للمعسكر الشرقي واللحاق بركب الاتحاد السوفياتي، أو الانضمام لحلف “الناتو” والمعسكر الغربي، لكن التهديدات المستمرة من الاتحاد السوفياتي لتركيا باحتلال مضيق البوسفور، دفع القيادة التركية آنذاك للتقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الوحيدة القادرة على حماية تركيا من العدوان السوفياتي.
تركيا اتخذت قرارها التاريخي الاستراتيجي الصائب بانضمامها للمعسكر الغربي، ما جعل الطريق مفتوحا أمام تركيا للدخول إلى عالم الحضارة الغربية، الذي يشترط التحول إلى الحياة الديمقراطية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بفضل الانتقال من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية والحياة الديمقراطية، نجح الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس، بالفوز بأغلبية ساحقة في انتخابات عام 1950، وتمكنت على إثرها تركيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الناتو عام 1952.
شكلت انتخابات 1950 منعطفا تاريخيا هاما في مسيرة الديمقراطية بتركيا، إذ كانت أول انتخابات ديمقراطية تعددية فعليا، وقد فاز فيها الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس بأغلبية ساحقة.
رفع الحزب الديمقراطي شعار “كفى.. الكلمة للأمة”، ودعا إلى التجديد والحرية والديمقراطية والانفتاح على العالم، وتعهد بإنشاء المصانع وفتح المدارس والجامعات، والأهم من ذلك كله وجد الشعب التركي من لا يعادي قيمه وتراثه بعد سنوات تعسف حزب الشعب الجمهوري في استعمال السلطة في التصدي لثقافة الشعب التركي وتراثه، وقد شكل إعادة الأذان إلى أصله باللغة العربية نقطة فارقة في تصالح الدولة مع المواطن بعد فترة من القطيعة.
كانت انتخابات 1950 المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يفقد فيها حزب الشعب الجمهوري الحاكم السلطة التي تولاها مدة 27 عاما.
حصل الحزب الديمقراطي في انتخابات 1950 على نسبة 52.68 % من الأصوات وفاز بـ 397 مقعدا من مجموع 487 مقعدا في البرلمان، فتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده، حيث تولى عدنان مندرس منصب رئيس الوزراء، أما جلال بيار فانتخب رئيسا للجمهورية.
** رؤساء الحكومات في عهد الحزب الواحد
مصطفى كمال أتاتورك Mustafa Kemal Atatürk
“مؤسس الجمهورية التركية والعقل المدبر لها منذ تأسيسها في 29 تشرين الأول / أكتوبر 1923، وحتى وفاته في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1938، كان دستور 1924 ينص على تولي رئيس الجمهورية الرئاسة لدورة واحدة فقط مدتها 7 سنوات، لكن مصطفى كمال أتاتورك تولى الرئاسة لدورتين كاملتين، واستمر في الدورة الثانية رئيسا لثمانية أعوام.
عصمت إينونو ?smet ?nönü
اليد اليمنى لأتاتورك، تولى منصب رئاسة الوزراء في 30 نوفمبر 1923، و6 آذار / مارس 1924، و3 مارس 1925، و1 مارس 1935، وتولى رئاسة الجمهورية بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك عام 1938 إلى 1950. أطلق على نفسه لقب “الزعيم الوطني”.
علي فتحي أوكيار Ali Fethi Okyar
تولى رئاسة الوزراء في 21 نوفمبر 1924، وظل في ذلك المنصب حتى 6 مارس 1925، حيث استقال وعاد سفيرا لتركيا في بريطانيا، ولم يتميز بدور بارز في الحياة السياسية.
جلال بايار Celal Bayar
تولى رئاسة الوزراء في الأول من نوفمبر 1937 وحتى 25 كانون الثاني / يناير 1939، اقترح تطبيق الليبرالية بديلا للعلمانية، لكن المعارضة الشديدة التي أبداها كل من مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو حالت دون ذلك.
رفيق صايدام Refik Saydam
أصبح رئيسا للوزراء بتاريخ 25 كانون الثاني / يناير 1939، وظل على رأس منصبه حتى تاريخ 9 تموز / يوليو 1942، ساند إينونو في تعزيز حكم الحزب الواحد.
شكري سراج أوغلو ?ükrü Saraço?lu
شغل منصب رئاسة الوزراء ما بين 9 تموز / يوليو 1942 و7 آب / أغسطس 1946، كان من أشد المتحمسين للقومية التركية إلى حد المبالغة، كما نهج منهج التعسف في تطبيق العلمانية الإقصائية.
رجب باكار Recep Peker
تولى رئاسة الوزراء من 7 أغسطس 1946 إلى 10 حزيران / يونيو 1948، وصف الليبرالية بالخيانة العظمى للوطن، ووضع الكثير من مناهج العلمانية المتعصبة التي أصبحت تشكل المراجع الأساسية لحزب الشعب الجمهوري حتى يومنا هذا، مثل كتاب دروس الانقلاب “التحول” التركي.
حسن حسني سقا Hasan Hüsnü Saka
تولى منصب رئاسة الوزراء منذ 10 أيلول / سبتمبر 1947 وحتى 16 كانون الثاني / يناير 1949، كان اقتصاديا بعيدا عن السياسة، لذلك التزم بتوجيهات إينونو.
شمس الدين جون ألتاي ?emsettin Günaltay
عينه عصمت إينونو رئيسا للوزراء في 16 يناير 1949، وظل في منصبه حتى 22 أيار / مايو 1950، كان رجل أدب أكثر من كونه سياسيا، وله عدة مؤلفات في تمجيد العلمانية وأتاتورك، منها “التاريخ التركي” و”من الظلم إلى النور”.
في مقالنا القادم، سوف نتناول الانتخابات وانعكاساتها السياسية في الفترة بين 1950 ـ 1980، وفي الحلقة الأخيرة نتناول بالبحث والتحليل الانتخابات في فترة الثمانينيات والتسعينيات إلى يومنا هذا.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)