دلالات استقبال الرئيس أردوغان خطيب المسجد الأقصى عكرمة صبري
بقلم عبدالله معروف
تداول بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإعلامي يوم الجمعة الماضي صوراً لافتةً، ظهر فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤدي صلاة الجمعة في جامع آيا صوفيا الكبير خلف الشيخ عكرمة صبري ئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، وخطيب المسجد الأقصى المبارك.
والمعروف أن الشيخ صبري كان قد أُطلِقَ عليه قبل عدة أشهر لقب “أمين المنبر” في حملةٍ قامت بها عدة مؤسسات مهتمة بالقدس، نظراً إلى مواقفه اللافتة في الوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي في القدس وإجراءاته في المسجد الأقصى المبارك، التي ظهرت متقدمةً على بعض المواقف الرسمية العربية.
ولعل اللافت في استقبال الرئيس أردوغان للشيخ عكرمة في إسطنبول وصلاته خلفه، حرص الرئيس على إظهار الاحتفاء الشخصي بالشيخ بالصفة التي يمثّلها، إذ إن الشيخ عكرمة يرأس الهيئة الإسلامية العليا منذ عام 1998، وهذه الهيئة لا تشير إليها وسائل الإعلام العربية كثيراً، ولعل كثيراً من العرب والمسلمين لا يعرف حقيقتها وتاريخها ودورها المركزي في القدس، ربما لأن الإعلام في العادة يركز على المواقف الرسمية التي تمثلها المؤسسات الحكومية الرسمية الأردنية والفلسطينية في القدس.
يمكن مقارنة دور الهيئة الإسلامية العليا في القدس عند تأسيسها عام 1967 بدور المجلس الإسلامي الأعلى الذي أُسّس في القدس عام 1922 غداة الاحتلال البريطاني بعد سقوط الدولة العثمانية، إذ نتج عن سقوط الدولة العثمانية فراغ سياسي إسلامي في المدينة المقدسة وفي فلسطين عموماً، مما حدا بالمؤتمر العربي الفلسطيني الثالث الذي انعقد في حيفا عام 1920 إلى الدعوة إلى إنشاء هيئة من العلماء تتولى إدارة الشؤون الدينية في فلسطين، ووافق المندوب السامي البريطاني على ذلك المقترح في محاولةٍ لتهدئة خواطر الفلسطينيين، فأصدر قانوناً بإنشاء المجلس وتعيين الحاج محمد أمين الحسيني رئيساً له.
وسرعان ما تَمكَّن المجلس بعد تأسيسه من تولي قيادة الحراك الشعبي الفلسطيني وتمثيله في وجه المؤسسة الرسمية البريطانية التي جاءت البلاد بأجندة محددة، تقضي بتهيئة فلسطين لتنفيذ وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وتحول المجلس حينها إلى شوكةٍ في حلق البريطانيين، بخاصة خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
لكن الفرق الجوهري بين المؤسستين هو أن المجلس الإسلامي الأعلى أُنشئَ في ذلك الوقت بموافقة وتوقيع المندوب السامي البريطاني الذي لم يكن يتوقع في ما يبدو أن يتحول المجلس إلى هيئة سياسية قيادية للمجتمع الفلسطيني. أما الهيئة الإسلامية العليا فتأسست بمبادرة شعبية خالصة دون تدخُّل أو إصدار قانون من الاحتلال الإسرائيلي.
فقد نتج عن احتلال شرقي القدس بأماكنها المقدسة -وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك- عام 1967 فراغ سياسي وإداري وقانوني كبير في المدينة، وحاولت دولة الاحتلال الإسرائيلي ملء هذا الفراغ، ووكلت إلى وزارة الأديان الإسرائيلية تولي شؤون الأماكن المقدسة، فحاولت الوزارة في البداية خداع العلماء والقائمين على الشؤون الإسلامية في القدس بإبلاغهم أنها لن تتدخل بشكل مباشر في شؤون الأوقاف والمساجد الإسلامية، على أن تنتقل الرواتب إليها فتكون هي التي تدفع رواتب الأئمة والمفتين والعلماء.
فتداعى عدد من العلماء المقدسيين وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد السائح رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في القدس، والشيخ سعيد صبري قاضي القدس (وهو والد الشيخ عكرمة)، والشيخ سعد الدين العلمي مفتي القدس، وعدد من الشخصيات الاعتبارية الأخرى، إلى اجتماعٍ نتج عنه إعلان إنشاء الهيئة الإسلامية العليا يوم 24 يوليو/تموز 1967، أي بعد 47 يوماً فقط من الاحتلال الإسرائيلي لشرقي مدينة القدس.
وسارعت المؤسسات الفلسطينية المختلفة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة إلى تأييد إنشاء هذه الهيئة والاعتراف بها ممثلاً وراعياً لجميع الشؤون الإسلامية حتى زوال الاحتلال، فاكتسبت شرعيتها الكاملة بالتالي من الشعب الفلسطيني مباشرة. وبعد إبعاد إسرائيل للشيخ عبد الحميد السائح عن فلسطين تسلم الشيخ حلمي المحتسب رئاسة الهيئة حتى وفاته عام 1982، تبعه الشيخ سعد الدين العلمي حتى وفاته عام 1992، ثم الشيخ حسن طهبوب حتى عام 1998، حين تم انتخاب الشيخ عكرمة سعيد صبري رئيساً للهيئة حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن دور الهيئة الإسلامية العليا تراجع في العقود الماضية بخاصة بعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية عام 1994، فإنها بقيت موجودةً وفاعلةً في الساحة الفلسطينية، ولا سيما المقدسية، إذ إن الهيئة تُعتبر مكوناً أساسياً من القيادة الشعبية العُلَمائية للشعب الفلسطيني في القدس، ويُعتبر الشيخ عكرمة عضواً في المجلس الأعلى للأوقاف ممثلاً عن الهيئة الإسلامية العليا.
ولهذه الهيئة احترام كبير لدى أبناء الشعب الفلسطيني، مما جعلها تكتسب شرعيتها من الشارع الفلسطيني بالذات، وهذه الشرعية لا تتحكم فيها سلطات الاحتلال ولا أي نظام حكومي رسمي. ومن هذه المنطلقات كلها تأتي أهمية زيارة الشيخ عكرمة رئيس الهيئة إلى تركيا، وأهمية استقبال الرئيس التركي له وصلاته خلفه في جامع آيا صوفيا الكبير.
فسلطات الاحتلال حاولت على مدار العقود الماضية إضعاف الإدارة الإسلامية للمسجد الأقصى المبارك عبر التلاعب بمصطلح “الوضع القائم” المعمول به في القانون الدولي في شرقي القدس والمسجد الأقصى منذ عام 1967، الذي أكدته معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل. ووصل الأمر بسلطة الاحتلال خلال حكم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى سحب البساط من الهيئات الإسلامية الرسمية في القدس، بعد أن تخلصت من أحد العوائق المهمة في طريقها عبر إغلاق بعض المؤسسات الشعبية العاملة للقدس داخل مناطق فلسطينيي 48 التي تخضع للقانون الإسرائيلي بالكامل، وحظر الحركة الإسلامية الشمالية.
وتطالعنا الأخبار يومياً بأنباء الاعتداءات الإسرائيلية على موظفي المسجد الأقصى المبارك وحراسه، ومنع موظفي دائرة الأوقاف الإسلامية من ممارسة أعمالهم، ومراقبة دخولهم وخروجهم عبر قوائم تبيّن أسماء الموظفين وأوقات مناوباتهم، ومنع عمليات الترميم والإصلاح في المسجد الأقصى المبارك، لدرجة أن سلطات الاحتلال تفرض رقابةً صارمةً حتى على عدد مصابيح الإضاءة التي يتم إدخالها إلى المسجد الأقصى لاستبدالها بالمصابيح التالفة، وتدقق وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية ولجان الإعمار، بحيث تحاول سلطات الاحتلال بذلك شل حركتها، معتمدةً على فكرة أن هذه الهيئات لا تملك حرية التحرك في الشارع بسبب طبيعتها كهيئات رسمية ذات سقوف محددة.
وهنا تأتي أهمية دعم الهيئات الشعبية ذات المصداقية والأقدمية والشرعية الشعبية في القدس، وعلى رأسها الهيئة الإسلامية العليا التي شكّلت على الدوام واجهةً للعلماء المقدسيين تحترمها جميع أطياف الشعب الفلسطيني، وتحتاج إلى إسناد ودعم لتكون رافداً راسخاً وقوياً للهيئات الإسلامية الرسمية في القدس. ويأتي الاحترام الكبير والاحتفاء الواضح الذي أظهره الرئيس التركي للشيخ عكرمة بصفته الدينية والعلمية ليعطي إشارةً للاحتلال إلى أن المؤسسات الشعبية الفلسطينية في القدس لا يمكن تجاهل دورها في هذه المعادلة، وأن لديها ظهيراً قوياً الآن في مواجهة موجة التطبيع التي تجتاح بعض الدول العربية ولا سيما بعض دول الخليج، التي بات تدخُّلها الفجّ في شؤون القدس والمسجد الأقصى المبارك لصالح الاحتلال يهدّد الدور الأردني والمؤسسات الرسمية التي تمثّل المسلمين في القدس للأسف. لذلك فإن دعم الهيئة الإسلامية العليا شعبياً وإسنادها سياسياً أصبح مطلباً مهمّاً في مواجهة الهجمة الإسرائيلية الكبيرة على مقدَّسات المسلمين وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)