دعائم تربوية من خلال الموعظة القرآنية
بقلم د. أحمد بن بازز
الحديث عن التربية حديث مهم تنبع أهميته من أهمية التربية نفسها، وذلك باعتبارها المدخل الصحيح لإيجاد الشخصية المسلمة المتزنة المستقيمة، وتنشئة جيل فاقهٍ لدينه متمسك به، عامل به وداعٍ إليه، ليحقق خيرية الأمة[1].
ويَحسُن بنا في بداية هذا المقال أن نعرِّف بالتربية من جانبيها (اللغوي والاصطلاحي):
التربية في اللغة: يقول الراغب الأصفهاني: الرب في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حد التمام، يقال: ربه ورباه ورببه[2].
أما في الاصطلاح الشرعي فهي: تنشئة الفرد وإعداده على نحو متكامل في جميع الجوانب العقدية والعبادية والأخلاقية، والعقلية والصحية، وتنظيم سلوكه وعواطفه في إطار كلِّي يستند إلى شريعة الإسلام[3].
من هنا يتبين أن التربية – بمفهومها الإسلامي – تُعنَى بتصحيح التصورات، ثم تصحيح التعبدات، ثم تصحيح السلوك الاجتماعي[4]. وهذا ما تجسده موعظة لقمان التي نحن بصدد استخراج الدعائم التربوية منها.
تتضمن الآيات – موضوع الدراسة – منهجاً تربوياً سامياً لمن امتثلها وعمل بمقتضاها كما يريد الآباء ورجال التربية… وهي تغنيهم عن غث النظريات التربوية المستوردة.
جاءت هذه الموعظة تحمل إلينا دعائم تربوية من الأهمية بمكان، يستفيد منها المربي قبل المُربَّى (المتلقي)، ولا يستطيع المهتم بمجال التربية – مهما كان متضلعاً ومتخصصاً في هذا العلم – أن ينكر أهميتها وشموليتها لكل المناحي (الدينية والدنيوية)، في الأخلاق والآداب والمعاملات.
قال – تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ 12 وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ13 وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ 14 وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 15 يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16 يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 17 وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ 18وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 12 – 19].
بين يدي الموعظة:
مما ينبغي أن نشير إليه ها هنا أن هذه الموعظة اتسمت بأمور جعلتْها بليغة ومثمرة:
أولاً: أنها حكيمة وصادرة من حكيم[5].
ثانياً: استعمل لقمان الحكيم أسلوب النداء من باب المجاز لطلب حضور الذهن لوعي الخطاب.
ثالثاً: استعمل التصغير لكلمة الابن (بني) لتنزيل المخاطَب الكبير منزلة الصغير كناية على الشفقة به والتحبب له، وفي مقام الموعظة يدل على تمحض النصح، وفيه حث على امتثال الموعظة.
رابعاً: تكرار أسلوب النداء بين هذه الوصايا التي ضمتها الموعظة لتجديد نشاط السامع لوعي فحوى الخطاب.
ويستفاد مما ذكر أن استقبال الخطاب وفهم مراميه يختلف من شخص لآخر وَفْق استعداداته وإمكاناته العقلية، ولذلك ينبغي مراعاة ذلك حتى يكون لما يُلقيه المربي (أباً كان أو مدرساً) من أقوال أو توجيهات قبول حسن ينتفع به سامعه[6].
إن القرآن قد زكى هذه الموعظة الحكمة فسطرها – سبحانه – في كتابه وصية ذهبية صالحة لكل زمان ومكان، متى امتثلها الإنسان انتفع بها أيما انتفاع، ونحن من منطلق عقيدتنا الإسلامية أَوْلى بها من غيرنا، وأن نستفيد منها كما سطرها الوحي في ثنايا المصحف الشريف، دون أن تحتاج إلى صياغتها في قوالب تشبه تلك النظريات التربوية الفاشلة المستوردة (بأموال طائلة) من غرب عالمنا وشرقه لأسماء بشرية يعتري النقص والقصور أفكارهم.
وقفة مع لقمان الحكيم: من باب الوقوف على قائل هذه الموعظة البليغة لمعرفة أسبابها ونتائجها والعلاقة بين القائل والسامع يَحسُن بنا أن نعرِّف بصاحب النص (الذي حكى القرآن موعظته) على عكس البنيويين الذين يقولون بموت صاحب النص.
فلقمان: اسمه لقمان بن عنقاء بن سدون، وكان أسود البشرة، اختلف أهل العلم في شأنه: هل هو نبي أم حكيم صالح فقط، غير أن ما ذهب إليه الجمهور أنه لم يكن نبياً بل كان حكيماً قذف الله في قلبه الحكمة فنطق بها[7]، وقد قال الله – تعالى -: {وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
مع الموعظة:
بيَّن أهل العلم أن الأقوال المنسوبة إلى لقمان كثيرة، وقد عدَّ الطاهر بن عاشور[8] في تفسيره حِكَمه المأثورة في سبعين حكمة غير ما ذُكر في سورة لقمان موضوع بحثنا التي جمعت أصول الشريعة، وهي:
الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.وحكمة لقمان تتجلى في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال المقربة للخفيات بأروع الأمثلة في مجالات عدة.
لما كان أخطر الذنوب على الإطلاق وأشدها عقوبة يوم القيامة هو الإشراك بالله، فقد ابتدأ
لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله؛ لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال؛ فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل. فجاءت الموعظة بقاعدة ذهبية ينبغي أن تكتب على أبواب المدارس والمعاهد والجامعات؛ ألا وهي التخلية قبل التحلية.
والحقيقة الناصعة التي لا ينكرها لبيب: هي أن الشرك جريمة شنعاء فيه ظلم لحقوق الخالق – سبحانه – وظلم للنفس بإخضاعها لغير الله، وظلم لحقائق الأشياء بإفسادها. فمنطلق العملية التربوية الناجحة هو تصحيح الاعتقاد وربط العباد بخالقهم – جل وعلا – في جميع أعمالهم قال النبي #: «إِنَ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوفُ عَلَى أُمتِي الإِشْرَاكُ بِاللهِ. أَمَا إِني لَسْتُ أَقُولُ: يَعْبُدُونَ شَمْساً، وَلا قَمَراً، وَلا وَثَناً، وَلَكِنْ أَعْمَالاً لِغَيْرِ اللهِ، وَشَهْوَةً خَفِيةً»[9].
فالبناء الأساس الذي ينبغي أن نبدأ به في العملية التربوية: هو بناء الإنسان المسلم الذي يؤمن بالله حق الإيمان، ويكون وثيق الصلة به، دائم الذكر له والتوكل عليه، يستمد منه العون مع أخذه بالأسباب[10].
لقد رفع الإسلام مقام الوالدين إلى مرتبة لم تعرفها الإنسانية في غير شريعة الرحمن؛ إذ جعل الإحسان إليهما والبِر بهما في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله والعبودية له. ورغم المقام العالي الذي وضع فيه المولى – عز وجل – الوالدين فإن أي تعارض بين مصالحهم وعقيدة التوحيد يعني عدم الخضوع لهما ولا طاعتهما بل برهما بدون أن يمس جناب التوحيد بسوء. وهذا ما يشير إليه قوله – تعالى -: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ 14 وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14 – 15].
ما يزال الجانب العقدي يشغل حيزاً وافراً في الموعظة اللقمانية، ولأهميته لذلك نجد الحكيم يبين لابنه علم الله الواسع والمحيط بجميع الكائنات أنَّا كانت – من العالم العلوي والعالم السفلي – والقدرة المحيطة بجميع الممكنات، وساق مثال الخردل كأدق الأجسام المختفية في أصلب مكان أو أقصاه؛ ليكون ما فوقَه أَوْلَى بأن يحيط به علم الله وقدرته.وهذه الطريقة في التعليم بالمثال، وبالمثال الأقل والأقرب، أنجع في تحصيل منافع كثيرة لدى المتعلم والسامع. وهو ما يسمى عند علماء الأصول دلالة فحوى الخطاب، وهو من الأساليب القرآنية كما قال – تعالى – في حق الوالدين: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]؛ ليكون ما فوق التأفف أَوْلَى بالتحريم.
تهدف هذه الوصية إلى زرع الرقابة الإلهية لدى الابن وإطلاعه على علم الله الواسع – سبحانه – الذي لا تخفى عليه الأشياء وإن دقَّت ولطفت وتضاءلت.
فإذا قمنا بتصحيح المعتقد لدى الأبناء ووجد الوازع الديني لديهم فإن الأمر يستوجب أن نتنقل بهم إلى الجانب العملي العِبادي، لذلك انتقل لقمان بابنه إلى موضوع جدير بوقفات؛ ألا وهو موضوع الصلاة، التي هي من أهم العبادات.
والصلاة التي أمر بها لقمان ابنه هي التي تكون بحدودها وفروضها وأوقاتها؛ لتكون صلة بين العبد وربه وطريقة مثلى لتربية النفس والمجتمع. والذي يُحسَب على الإسلام ويَنظُر إلى الصلاة بازدراء حَريٌّ أن ينعت بالسفه وألا يكون موضع ثقة لقضاء حوائج العباد؛ لأنه ضيَّع الفريضة عمود الدين، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
والصلاة هي أول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة من الأعمال؛ فإن صلحت صلح سائر عمله.
ينبغي على رجل التربية والتعليم في كل مراحل تلقين الناشئة العلوم الأبجدية والمعارف والآداب والأحكام: أن يكون لموضوع الصلاة فيها نصيب وافر بجانبيها (النظري والعملي). وأبارك جهود ثلة من الأساتذة الفضلاء تطبيقَهم لبعض أحكام الصلاة في مادة التربية الإسلامية لأقسام الإعدادية الثانوية.
إن من الأمراض الخطيرة في مجتمعنا الراهن الاستهانة بهذه الشريعة (الصلاة)؛ فأغلب الناس لا تصلي مع العلم أن العهد الذي بينهم وبين الإسلام هو الصلاة فمن تركها فقد كفر كفراً عملياً يقدح في انتسابه إلى الإسلام! ألا نخجل مِن تركنا للصلاة ونحن من المكلفين، ما عسانا نجيب به هذا الحديث؟
قال معاذ بن عبد الله بن خبب الجهني لامرأته: (متى يصلي الصبي؟ فقالت: كان رجل منا يذكر عن رسول الله # أنه سئل عن ذلك، فقال: إذا عرف يمَينه من شِماله فمُروه بالصلاة)[11].
والصلاة هي البوابة إلى حسن الخلق؛ فهي التي تنه عن الفحشاء والمنكر، وتعين على ذكر الرب سبحانه، فإذا أدَّاها العبد كما أُمر فإنه ينتقل إلى مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل. لهذا جاءت موعظة لقمان مشيرة إلى أن هذه الأشياء هي من عزم الأمور، بل هي التي تحيلنا إلى قضية مفادها: أن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه، يألف ويؤلف ويحتك مع بني جنسه يتبادلون النصيحة، فلا خير في قوم لا يتناصحون ولا خير في قوم لا يقبلون النصيحة، كما يقال.
والأمر في الموعظة للابن بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقتضي إتيان الأمر وانتهاءه في نفسه؛ لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم. ومن المفروض في نظر المتعلم – وهو الرأي الحق – أن يكون المربي متمثلاً لكل الضوابط الشرعية (عقدية وأخلاقية وسلوكية) وهو يؤدي المهمة المنوطة به؛ مهمة الرسالة المتمثلة في بناء الفرد المسلم بناءً سليماً مثمراً، لكن ولخيبة الأمل فإننا نجد أغلب المشتغلين بالحقل التربوي أبعد مَن تمثَّل القيم التي نحن بصدد دراستها في هذا المقال.
نحن في هذا الوقت في أمسِّ الحاجة إلى هذه الآداب والأخلاق التي جاءت بها الموعظة؛ لتحسين سلوكيات أفراد المجتمع؛ لا سيما التلاميذ، ولن نجد أفضل فضاء نستقي منه هذه الآداب مثل القسم والفصل الدراسي. والمسؤولية ملقاة على عاتق المربين من الأساتذة الشرفاء، الذين يمثلون شخص لقمان الحكيم في العملية التعليمية التعلُّمية.
فمن جملة ما جاء في الموعظة من الآداب في معاملة الناس: النهي عن احتقار الآخرين والافتخار عليهم، والأمر بإظهار المساواة مع الناس وعدِّ الشخص نفسه واحداً منهم.
وبينت الموعظة أمثلة لهذه الأمراض التي تعيق صفاء القلوب والمحبة والإخوة بين أفراد المجتمع: كالإعراض عن المخاطَب أثناء المحادثة، وهو ما عبَّر عنه اللفظ القرآني بالصَّعار أو الصَّعر، فمن يفعل ذلك لا يجد قبولاً لدعوته ولا صدى لتعليمه. فكم كان عزيزاً علينا أن نلقى أساتذة اتَّصفوا بأحسن الخِلال يتقربون من طلبتهم ويتوددون إليهم: إقبال، حنو، تواضع يزيدهم كلُّ هذا في أعيننا رِفعَة وشموخاً على عكس نماذج لا يَحسُن بهم أن يتقلدوا تلك المناصب الشريفة في التربية والتعليم؛ لأن هذا الأمر من مهام الأنبياء والرسل – عليهم صلوات الله أجمعين – لذلك عبر النص القرآني في الموعظة بعزم الأمور تشبيهاً بأولي العزم من الأنبياء والمرسلين.
وبالرجوع إلى لغة العرب نقف على حقيقة الكلمة، يقال: صاعر خده، صعره: إذا أماله عجباًص وكبراً. والصعر: داء في العنق لا يستطاع معه الالتفات[12]؛ فكأنه صيغ له صيغة تكلُّف بمعنى تكلف إظهار الصعر، وهو تمثيل للِاحتقار؛ لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقِر المستخِف في غالب الأحوال. والاحتقار بالقول والشتم أَوْلى بالنهي.
وشمل النهي كذلك المشي الذي يوحي بالتكبر والخيلاء. والمأمور به إذن، هو القصد فيه وهو الوسط بين السرعة المفرطة والدبيب، وكم عهِدنا أن نسمع وصفاً بالتشبيه يُشين التماوت في المشي فيقال لك: هل تمشي على البيض؟
والمشي القصد من الآداب المرتبطة بحالة الشخص الخاصة، وينضاف إليه الكلام، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه؛ فغض الصوت في حقيقة الأمر من الآداب العالية التي ينبغي أن نراعيها في الكلام مع الآخرين، والمراد بالغض هو الكلام المسموع الذي يكون دون الجهر الفاحش ولا السر الخافت. ووجه النكارة في الصوت أن يكون عالياً فاحشاً يشبه إلى حد بعيد نهيق الحمار، لذلك ورد تشبيهه به في موعظة لقمان الحكيم.
والحمار عند العرب مثَلٌُ في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهيقه. ومن استفحاشهم لذكره مجرداً فإنهم يكنُّون عنه ويرغبون عن التصريح باسمه، فيقولون: طويل الأذنين.كما يكنى عن الأشياء المستقْذَرة، وقد عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أُولِي المروءة.
ما أجملها وأقومها من قيم تضمنتها هذه الموعظة، وهي السبيل إلى تنمية بشرية حقيقية بأبعادها الإيمانية والمادية.ومثل هذه الموعظة البليغة الجامعة والمانعة لا يمكنها إلا أن تنتج نموذجاً صالحاً متقياً يخدم الصالح العام، واثقاً بنفسه لا يَهاب أحداً إلا مولاه، حكيماً بليغاً وفاعلاً ومؤثراً في مجتمعه وقدوة للآخرين.
وإليك هذا النموذج الفذ تقربه إليك هذه القصة[13]، لنجعلها خير ما نختم به هذا المقال:
قحطت البادية في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت القبائل إلى هشام ودخلوا عليه، وفيهم (درواس بن حبيب) وعمره أربع عشر سنة، فأحجم القوم وهابوا هشاماً، ووقعت عين هشام على درواس فاستصغره، فقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إلى إلا وصل، حتى الصبيان. علم درواس أنه يريده، فقال: يا أمير المؤمنين! إن دخولي لم يخلَّ بك شيئاً، ولقد شرفني، وإن هؤلاء القوم قدموا لأمر أحجموا دونه، وإن الكلام نشر، والسكوت طي، ولا يُعرَف الكلام إلا بنشره، فقال هشام: فانشر لا أبا لك! وأعجبه كلامه، فقال يا أمير المؤمنين! أصابتنا ثلاث سنين: فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة نقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، إن كانت لله ففرقوها على عباد الله المستحقين لها، وإن كانت لعباد الله فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، واعلم – يا أمير المؤمنين – أن الوالي من الرعية كالروح من الجسد، لا حياة للجسد إلا به. فقال هشام: ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عُذراً، وأمر أن يقسم في باديته مئة ألف درهم. وأمر لدرواس بمئة ألف درهم. فقال: يا أمير المؤمنين! أرددها إلى أعطية أهل باديتي فإني أكره أن يعجز ما أمر لهم به أمير المؤمنين عن كفايتهم؟ فقال: ما لك من حاجة تذكرها لنفسك؟ قال: ما لي من حاجة دون عامة المسلمين. فانظر إلى ثقة هذا الغلام وجرأته في الحق. واجعله – يا ربنا قدوة – لشباب المسلمين، آمين.
[1] صفحة: 56 بتصرف من كتاب نحو تربية إسلامية راشدة من الطفولة حتى البلوغ، لمحمد بن شاكر الشريف، ط، الأولى 2006م.
[2] الإحالة المفردات كتاب: الراء (ربب).
[3] انظر كتاب نحو تربية إسلامية راشدة مرجع سابق.
[4] للمزيد من البيان انظر: كتاب: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية ص 8، دارالكلمة مصر المنصورة، ط، الأولى 2002م للدكتور فريد الأنصاري الخزرجي المغربي، رحمه الله.
[5] والحكمة هي وضع الشيء في محله. أما الحكيم فهو المعلم والمرشد الناصح.
[6] انظر كتاب نحو تربية إسلامية راشدة من الطفولة حتى البلوغ لمحمد بن شاكر الشريف، ط، الأولى 2006م ص 108
[7] انظر تفسير ابن كثير: 3/427، وأحكام القرآن لابن العربي المعافري المالكي:3/426 تحقيق رضا فرج الهمامي، المكتبة العصرية، صيدا، ط، الأولى 1424هـ – 2003م.
[8] التحرير والتنوير دار سحنون، عدد15/30جزء الدار التونسية للنشر.
[9] سنن ابن ماجة عن شداد بن أوس رضي الله عنه
[10] انظر كتاب شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة لمحمد علي الهاشمي وكالة المطبوعات والبحث العلمي –وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد-المملكة العربية السعودية 1425هـ-1995م
[11] أخرجه أبو داود كتاب الصلاة، رقم: 419.
[12] سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، دار الفكر دمشق – سورية ص212 – 213.
[13] راجع هذه القصة وفوائد أخرى في الوجيز في التربية بقلم: يوسف محمد الحسن، ص 22.
(المصدر: مجلة البيان)