درعا.. المعركة التي تحدث القرآن عنها
بقلم أمير سعيد
هناك في تلك المنطقة الفريدة كانت المعركة، في أدنى الأرض، في أول الحشر.. اصطف الجيشان، واندلعت واحدة من أهم معارك التاريخ، حيث غُلبت الروم، وكان التمدد الأكبر الذي لم يعرف الفرس له مثيلاً، ولا وارثو امبراطوريتهم الكسروية.
درعا، المدينة الصغيرة في جنوب الشام، وأقرب الشام إلى مكة، التي كانت تُسمى في الماضي أذرعات، وفي التوراة كانت تسمي إذرعي كما ورد في سفر التثنية 3: 10″ اليهود هزموا عوج، ملك مقاطعة باشان الجبار، وقتلوه في إذرعي”، هي كانت ميدان معركة تاريخية فريدة – على المشهور من أقوال المفسرين -، استأسد فيها الفرس على الروم، وألحقوا بهم هزيمة منكرة، وانساحوا في بلادهم حتى بلغوا القسطنطينية عاصمة العالم حينئذ، وأوقدوا فيها نيرانهم.
هذه المعركة كانت من الجدارة والأهمية بحيث إنها تفردت بذكرها في القرآن كمعركة بين جيشين ليس فيهما طرف مؤمن، لأكثر من سبب وغير ما معنى. ﴿ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) ﴾.
كانت معركة مفصلية، ولم يكن المسلمون في قلب الصحراء بعيدين عن مراقبة الواقع العالمي، ولا استشراف مستقبله، مستقبلهم؛ فهم القادمون لريادته واستنقاذه، المبتعثون لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، كما قال التابعي ربعي بن عامر. حقاً، لم يكن المسلمون يحملون شعار “مكة أولاً” ولا “يثرب أولاً”، بل كانوا يتطلعون لما بعد الأفق، لا تحدهم جغرافيا ولا توقفهم حدود، حتى وهم بعدُ بين أخشبي مكة، محاصرون بجبالها وبكفارها وأصنامها على حد سواء. والحق أيضاً أن المشركين لم يكونوا من ناحيتهم نائين بأنفسهم عن متابعة الصراع الدولي حينئذ؛ فأبهجهم غلبة الوثنيين المجوس أمثالهم على أهل الكتاب الروم، الذين يعتبرونهم أشباه المسلمين أو أقرب إليهم لجهة كونهم أهل كتاب كذلك.
على أن نظرة المسلمين لما بعد الحدود “العربية” في “أدنى الأرض” إليهم، لم تكن كنظرة أولئك الذين يتابعون الأحداث مثلما يتابعون مباريات كرة القدم! أو كمتابعة المشركين حينها لمعركة درعا تلك بقصد المكايدة والتفكه لا الاسترشاد والتطور، إنما كانت رؤية المسلمين تحمل أملاً لغد هم مالئوه وشاغلوه، واستعباداً لطريق طويل يبدأ في صعيده الحربي من استكناه قدرات الأعداء، وتقوية الذات، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: “ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر: لأنه أيسر مؤونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله تعالى عز وجل الذي بعثه به، وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه”، [تفسير ابن عطية]. فغلبة الفرس واحتلالهم لمعظم أملاك الدولة البيزنطية (الرومية) كان مما يجعل مهمة المسلمين الفاتحين أكثر صعوبة، أما حينما يحصل التكافؤ النسبي بين الفرس والروم، وينهك بعضهم بعضاً، وينال الأضعف من الأقوى ذاك مما كان يزيد الأمل لديهم، مثلما استخلص القاضي أبو محمد رحمه الله.
في تفاصيل المعركة، كما يقول الطاهر بن عاشور: أن “هذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة ( 615 ) مسيحية ، وذلك أن خسرو بن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين ، وهي من البلاد الواقعة تحت حكم ” هرقل ” قيصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق ، وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحادة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية بأدنى الأرض أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب”.
وفي لواحقها أن الآيات لما نزلت حاكمة بأن الروم سينتصرون وبلغ المشركين ذلك، استصعبوا أن يهزم الروم الفرس بعد هذه الهزيمة الكبرى التي لم يكن رأى الروم مثلها (قبل الفتوحات الإسلامية) على الإطلاق، وأن يصدق ما يقوله المسلمون، ولهذا راهن بعضهم أبا بكر رضي الله عنه – كما هو مشهور وصحيح فيما رواه الترمذي – (قبل أن يحرم الرهان) على حدوث ذلك، فحقت كلمة الله.
وفي الآثار المترتبة، أن هذا القرآن المعجز الذي كانت حكاية هذه المعركة وتحول حال الفريقين “في بضع سنين” هي إحدى دلالات إعجازه، تناول كذلك آثار معركة كبرى في التاريخ على واقع المسلمين البعيد جغرافياً، القريب استراتيجياً، إذ انقلبت المعايرة والتحدي الذي مارسه كفار مكة على المسلمين، وحربهم المعنوية إلى فاجعة لهم وفرحاً للمؤمنين، الذين سرعان ما تحولت الهزيمة للروم في بضع سنين إلى نصر للمؤمنين، وغلبة للروم. إذ كانت المعجزة الأخرى في هذا السياق أن عبارة “نصر الله” أشير بها، فيما ذهب إليه بعض المفسرين إلى نصر الله للمسلمين يوم بدر أو يوم الحديبية الذي وافق أحدهما انكسار الفرس وغلبة الروم، قال القرطبي: “وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر، حكاه القشيري. قلت: ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا، وبإنجاز وعد الله”. وزاد القرطبي: “روى أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر، كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي، وروى أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان، قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين”. وتفرد الرازي بترجيح بديع في أن فرح المؤمنين إنما كان لانتصارهم على كفار مكة بقوله: “الأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر، ولو كان المراد ما ذكروه لما صح؛ لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر، فلا يكون فرحهم يومئذ، بل الفرح يحصل بعده”.
وفي ذكر الحادثة الكبرى تلك، كان ثمة أكثر من مغزى ومعنى والتفاتة، فالنصر إنما هو من عند الله، وقدرته مطلقة في ملكه، ولا يكون فيه إلا ما يشاء، ولو كان على غير ما تقود إليه الأحداث بالتقدير البشري، يقول الرازي: “الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله ; لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى”.
كذلك، فالمؤمنون عينهم ترقب ببصيرة ما يجري حولهم، واهتمامهم بهم ذو فعالية وتطلع، وهو تطلع لا يجافيه كونهم ما زالوا في قلب مكة ومظاهر الشرك فيها لم تزل موجودة، وكذا؛ فإن إدراكهم للتأثيرات العالمية ليس ترفياً؛ فهم يزنون القوى الدولية، بوعي بحقيقة الدور المنتظر لهم في ريادة هذا العالم، وهذا بعيد جداً عن حالتنا التي نعيش، حيث تجري المعركة في ذات المكان، ولا يأبه لها كثير من المسلمين على الرغم من أن أحد طرفيها هم مسلمون مقاومون، ويقع العدوان الرهيب من الروس وحلفائهم على المدنيين الآمنين، حيث يلجأ نحو مائتي مسلم باتجاه حدود تعاديهم من جميع جنباتها، دونما غضب إسلامي ولا إدراك، مجرد إدراك، لمغبة هذا التغيير الهائل الذي يجريه الروس ويفتح له الأمريكيون له الطريق، ويمرره آخرون، تغيير في اللون السكاني، وفي إيجاد فراغ استراتيجي بالقرب من الحدود مع الكيان الصهيوني، قد يملؤه ذلك الكيان الغاصب، لاسيما أن له أطماعاً في درعا تعود إلى ما يزعم “الإسرائيليون” أنها “حقوق تاريخية” لهم، تعود إلى ما تقدم مما ورد في سفر التثنية، وإلى لجوئهم إليها حينما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير من المدينة فقصدوا درعا التي يتطلعون إلى ضمها لكيانهم الغاصب أو إلى ضمان وقوعها تحت حكم أقلوي علوي أو إيراني (إمامي).
إن ما يحصل في درعا اليوم له أبعاده المهمة، والتي كان ينبغي للمسلمين الالتفات إليها ليس فقط من دافع الإخوة الإيمانية الغائبة، وإنما أيضاً تأسياً بالأجداد أصحاب هذا الوعي الإيماني العميق الذين إن كانوا قد افتقروا إلى وسائل التواصل النافذة التي تتوفر لمسلمي اليوم؛ فإنهم لم يفرطوا في عنايتهم بتموضع المسلمين في عالمهم، لحد الالتفات إلى معركة بعيدة ليسوا طرفاً فيها، ما جعلهم أكثر حظاً في نيل هذا النصر بعد سنوات قليلة؛ فكانوا في قلب الحدث منتصرين على كفار قريش ثم متأهبين لغزو فارس والروم على حد سواء، بعد ذلك أيضاً بـ”بضع سنين”، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فهو مانح النصر لمن يستحق، وهم أولئك المؤمنون الذين يحق لهم حقاً أن يفرحوا بالنصر وينعموا بفتوحاته.
لم يكن المؤمنون إذ ذاك يملكون صاروخ “أبي بكر” الذي يملكه مقاومو درعا اليوم، لكنهم كانوا يملكون إيمانه، وكانوا لا يتعلقون سوى بمنزل النصر، فلم يكن لأحد منهم – وحاشاهم – أن يتعلقوا أو يأملوا خيراً من غرفة الموك أو غيرها، لقد كان توكلهم حاديهم للنصر، إيمانهم رائده، ولهذا كانوا جديرين بتنزل النصر، “ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”، “وهو (العزيز) بانتقامه من أعدائه (الرحيم) لأوليائه”، كما قال أبو حيان الأندلسي.
﴿ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ﴾
(المصدر: موقع المسلم)