درس التمكين في الهجرة النبوية
بقلم أ. د. فؤاد البنا
كانت الهجرة النبوية تحولا استراتيجيا ومنعطفا أساسيا في تأريخ الدعوة الإسلامية، في سبيل تحقيق ما يصبو إليه النبي صلى الله عليه وسلم من حراسة دعوته بقوة اجتماعية وتوسله بدولة قوية تمنع عنه البغي وهو يوصل دعوة الله إلى أسماع الناس ليؤمن من يشاء ويكفر من يشاء، متحملا عواقب ما يختار بملء إرادته ومن دون إكراه أحد!
وبعد أن شددت مكة قيودها على حركته وأحكمت أغلاق أبوابها أمام دعوته، ومارست التعذيب والفتنة لأصحابه، لم يقعد الرسول يندب حظه مواصلا الطرق على الأبواب المقلقة بل انتقل إلى الأبواب المفتوحة التي ظل يبحث عنها طيلة ثلاث سنوات، وبعد بيعة العقبة الثانية اتخذ قرار الهجرة إلى الحاضنة الشعبية التي بإمكانها حماية الدعوة وإقامة الدولة التي تحمي من يبلغون رسالة الله إلى البشر جميعا، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وتخبرنا الهجرة النبوية بأن عقبى الدار والاستخلاف في الأرض، ليس عطية مجانية للذين يؤمنون بالله من دون عمل أو هدية ربانية لمن يقيمون الشعائر التعبدية من غير اجتهاد وجهاد، وإنما هو ثمرة لمن يبذرون أسباب الحياة الكريمة، ويجترحون الأفعال التي ترتقي بأصحابها بين الأمم، ويستكملون إعداد القوى الممكنة في كافة نواحي عالم الشهادة، وبطريقة صارمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة منها بحيث لا يردهم إلا استنفاد الطاقة، وكأنهم بهذا الصنيع يتفقون مع من لا يؤمنون بعالم الغيب من عُباد الأسباب، لكنهم في ذات الوقت يستوفون توكلهم على الله وكأنهم لم يفعلوا شيئا في عالم الشهادة (المادة)!
وها هي أحداث الهجرة النبوية تخبرنا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد استوفى الأخذ بالأسباب عند اتخاذه قرار الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث:
– خرج في وقت الظهيرة من الباب الخلفي لبيت أبي بكر الصديق،
– ومضى في الاتجاه المضاد للوجهة المقصودة،
– وسار في طريق غير منسلك أو غير معهود لدى المسافرين،
– ولم يكتفِ بذلك بل كلّف من يقوم بإخفاء آثار الأقدام،
– ثم تخفّى في كهف مهجور لمدة ثلاثة أيام، مع تكليف من يأتيهما بالأخبار والطعام، من أجل أن يبني قراراته على معلومات دقيقة وليس على أماني أو أضغاث معلومات!.
ورغم ذلك كله فقد لحقهما المشركون في الطريق المضاد؛ لعلمهم بعبقرية تفكيره وتدبيره، ولإدراكهم بأنه سيتوسل بأسباب الحذر والمخاتلة، وعندما وصلوا إلى باب الكهف، همس أبو بكر في أذنه نتيجه خوفه عليه: “لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، لكن الرسول الذي استكمل ما ينبغي عليه، بدا متسلحاً بالثقة المطلقة بربه وهو يقول: {لا تحزن إن الله معنا}. وهذا الجمع المتسق بين التسبب والتوكل، هو منطلق النهوض وقاعدة التقدم نحو عاقبة التمكين.
ولم يمتلك الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الطمأنينة بربه إلا بعد أن أدى كامل ما عليه، وتوسل بكل سبب وتسلح بكل أسلوب، بمعنى أن الله لا يقف مع من فرطوا في الأسباب أو بعضها، كانت مادية أو معنوية، تربوية أو اجتماعية، سياسية أو عسكرية، اقتصادية أو إعلامية!