مقالاتمقالات مختارة

دراويش توكل كرمان.. ويوتوبيا “الديمقراطية المعلمنة” (3)

دراويش توكل كرمان.. ويوتوبيا “الديمقراطية المعلمنة” (3)

بقلم حسام شاكر

أطلقت السيدة توكل كرمان سلسلة التغريدات في آب/ أغسطس 2018 عن مشروع “دولة ديمقراطية معلمنة قادمة لا ريب فيها”، وهذه الدولة الحتمية و”المنشودة”، كما كتبت، تبدو مشحونة بوعد سابغ بأنها ستأتي بحلّ نهائي لأمّة العرب وأقطارها لا بديل عنه. يواصل الجزء الثالث والأخير من هذه المقالة فحص نصوص كرمان، المقتضبة والمحيِّرة، عطفاً على الجزئين الأول والثاني من هذه الثلاثية.

 

“ديمقراطية” الإقصاء والإسكات

ثمة أسئلة منطقية ومبدئية وأخلاقية تستثيرها خطابات تنادي بالإقصاء والإسكات بحق مكوِّنات مجتمعية معيّنة؛ وهم عند توكّل كرمان من سمّتهم “الدراويش” على الأقل.  نعود هنا إلى “لحظة نوبل” مثلا. هل كان على خطيب الجمعة في “ساحات التغيير” التي برزت منها السيدة توكّل، أن “لا يخوض في السياسة”، وفق ما تنادي به اليوم، خلال موعظته الأسبوعية للجماهير التي انتفضت ضد مسلك الحكم وأمور الدولة، أم أنها رخصة “علمانية” مؤقتة لزمن الاستبداد؛ لا ينبغي التساهل معها في زمن “الديمقراطية”؟ وإن كانت هذه رخصة؛ فمن ذا الذي أفتى بها أساساً وبأي معيار صِيغَت، ومَن أولئك الذين نحتوا المعيار واتخذوه حجّة على ما قد ينطلق على الألسن؟ ومن أخبر السيدة توكّل بحتميات غيبية عن “دولة ديمقراطية معلمنة قادمة لا ريب فيها” ستشهد هذا الصنف المُتذاكي من القهر الرمزي وتكميم الأفواه؟

إنها وجوه من تناقضات الخطاب الذي يفترض أنّ السياسة قابلة للتحديد والحصر في حيِّز لا تُجاوِزه، أو أنّ الدين والتديّن والوعظ ممّا يمكن تعليبه أساساً، أو أنّ حرمان المواطنين أيا كانوا من حقّ التعبير العلني عن شواغل تتّصل بالسياسة وأمور الدولة هو خيار واقعي.

وإن جاز تنزيل هذه المقولات بأقدار نسبية وبمشقّة بالغة مع سلطات الكهنوت المُهَيْكلة؛ فكيف يتصوّر القوم فرصة التنزيل في واقع لا يعرف سلطوية كهنوتية؛ كما في الحالة الإسلامية تحديداً، وإليها يُنسَب “الدراويش” أساساً؟ ألم يكن من الإنصاف المبكِّر أن تلتمس السيدة كرمان من “الدراويش” الذين انخرطوا ضمن جماهير ساحات التغيير (2011) العودة إلى منازلهم كي يتفرّغوا للوعظ والإرشاد دون أن يتطرّقوا إلى “السياسة” أو أن يجترئوا على “أمور الدولة”؟

 

غنيّ عن البيان أنّ بعض محاولات إقصاء “الديني” عن “السياسي” كانت ذريعة لهيمنة “السياسي” على “الديني”. وحتى في ديمقراطية الياسمين التي أعلنت فيها “النهضة” فصل “الدعوي” عن “السياسي”؛ اجترأت دعاوى متذرِّعة بالعلمانية والحداثة على مصادرة مساحة “الديني” ذاته. ثمة ما يشير إلى نخبةً مدينية محظيّة ضيقة تتستّر خلف ثلة من الناشطات النسويّات من الطبقة الرقيقة ذاتها، وتجد في مقولات العلمانية والحداثة وأيديولوجيا “حرية التصرّف في الجسد” مفتاحاً لفرض اختيارات متعالية على المجتمع وعموم الشعب، نساء ورجالاً، تحت شعارات ديمقراطية لا تستشعر شرائح شعبية عريضة ومناطق بعيدة عن المركز حظوةً فيها.

ولا مبالغة في الاستنتاج بأنّ النصوص قيد المناقشة التي أطلقتها توكّل كرمان، تقضي بإلزام أهل “الوعظ الديني” بكبت ما يرونه من رأي وموقف؛ حتى إزاء ما أعلنه رئيس الجمهورية التونسية مثلا بقوله “لا علاقة لنا بالدين والقرآن”. لا مشكلة هنا على ما يبدو في اقتصار خطب الموسم على أحكام الطهارة مثلاً، وللدراويش أن يتحدّثوا عن النظافة شرط ألا تتّصل بشواغل سياسية أو بأمور الدولة والبلديات ومشروعات الحكومة للخدمات العامة أو بأحكام المواريث ذاتها ربما.

يتغافل القائلون بحظر التعبير في الشأن السياسي عن تحوّل تاريخي فرضه التطوّر التشبيكي، ملّك المجتمع منصّات فعّالة للتواصل الجماهيري، فصار الفرد المستقلّ قادراً بذاته على مضاهاة جماعةٍ بحيالها في فضاءات الحضور العام والتأثير المجتمعي. أصبح التعبير الجماهيري مادة يومية للناس لا تتطلّب مقرّات ولا قنوات تلفزة كالتي تتعهّد توكّل كرمان بضمانها لأولئك “الدراويش” الذين لن يكونوا بحاجة إلى ضماناتها “السخية” على الأرجح؛ خاصة وأنها مشروطة باقتصار المضامين على الوعظ وحده.

هل يمكن، إذن، تطبيق مقولاتها من هذا الوجه أيضاً؟ ومن بوسعه أن يحظر على أي “درويش” من أحدهم أن يبوح بتعليق أو رأي أو موقف في شأن من شؤون “السياسة” أو أمر من “أمور الدولة” كما يفعل ترمب في تغريداته الفجّة عن شؤون الدنيا والدين؟ إنّ الديمقراطية التي تتعهّد باستئصال شأفة أطياف مجتمعية من الفضاء العام ستكون ستالينية على الأرجح، ولمثل هذا تطبيقات عدّة بائسة في واقع العرب الراهن تحت عناوين الاستئصال والاجتثاث وبالتصنيفات الفضفاضة بالتطرف والإرهاب.

دراويش التايتانيك

ما لا يصحّ غضّ الطرف عنه، أنّ هذا الخطاب يلتقي، عملياً، وإن لم يشأ ذلك، في نقطة وسيطة مع برامج دؤوبة متعدِّدة الأطراف والمستويات تنهمك في إنتاج خطاب ديني انسحابي يُفضي إلى التزام البيوت وطأطأة الرؤوس ومفارقة شواغل الأمة وأقطارها وشعوبها ومواطنيها.

إنهم يريدون إسلاماً لا يُسائِل طغيان الداخل ولا تُزعجه هيمنة الخارج؛ بل يعمد إلى رسم الابتسامات العريضة التي يمتثل فيها وعّاظُ الشاشات والشبكات لتوصيات أساتذة العلاقات العامة الأمريكيين بافتعال البهجة والسعادة والإنجاز، والانزواء إلى روحانيات فردانية، ففي الانقلابات العسكرية “بشرى خير” تستحق إطلاق الأغاني والمعزوفات البهيجة، وعلى الخطاب الديني أن ينهض بنصيبه من ثقافة البهجة التي يطلبها الاستبداد لتصريف بواعث الغضب الجماهيري. يتزايد “دراويش التايتانيك” عدداً وعدّة، ويتمّ حملهم على ظهرها كي يواصلوا مقولاتهم الحالمة بلا هوادة، كما قامت فرقة العازفين بدورها الوظيفي بإخلاص حتى لحظة الغرق الأخيرة.

نضجت الحالة العلمانية بأقدار متفاوتة دون أن تنقطع التداخلات والتنازعات والوشائج بين “الديني” و”السياسي” بصيغ شتى حسب البيئات والمراحل

مأزق التصنيف المعلمن

يُفترَض بتنزيل المقولة العلمانية في الواقع أن يفترق “الديني” و”الدنيوي” بدرجة ما من التمايز الواضح، أو أن تتحدّد نطاقات قابلة للتوصيف بين المجال الديني ومجال السياسة والشؤون العامة، كي يتأتّى رسم خطّ فاصل بين رقعتين أو فرض منطقة عازلة بين فضائيْن.

وقد نشأت المقولات العلمانية في بيئات انطوت أساساً على قابلية للفرز ولو بصفة نسبية بين ما زعم القوم أنه “للربّ” من جانب وما هو “لقيصر” من جانب آخر. كانت للدين مؤسسة قائمة ابتداءً؛ بكهنوتها وهياكلها وسلطوياتها ونظم تشغيلها واقتصاداتها الخاصة ومساحات نفوذها المباشرة، وهو كهنوت زعم تمثيل الربّ على المسكونة. كانت نطاقات “الديني” في تلك البيئات متاحة نسبياً لمحاولات التوصيف والتحديد والضبط إزاء “السياسي”، ومع ذلك فقد تبلورت العَلْمَنة في الخبرات الأوروبية عبر مخاضات شاقة ودروب وَعِرة وتحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية ودولية متضافرة، وكان لكل علمانية منها تاريخ وقصة ومسار بما لا يطابق نظيرتها.

نضجت الحالة العلمانية بأقدار متفاوتة دون أن تنقطع التداخلات والتنازعات والوشائج بين “الديني” و”السياسي” بصيغ شتى حسب البيئات والمراحل. لم تنضج الحالة، إذن، بالتقمّص الجاهز في دورات “التثفيف على الديمقراطية والحكم الرشيد” كالتي تقيمها منظمات غير حكومية للنخبة العربية الصاعدة، متحاشية التثقيف على السيادة ومناوأة الهيمنة الخارجية والتحرر من التبعية مثلاً.

تفترض بعض التغريدات الرشيقة اتضاحَ مفهوم “الديمقراطية المُعلمَنة” أو الاتفاق على مواصفاتها ابتداءً، رغم اتساع قائمة التطبيقات الماثلة للعيان في بيئات موصوفة بأنها كذلك. ولو صدّقنا واشنطن دي سي فإنّ ما تتباهى بأنها “دولة يهودية” في فلسطين؛ هي أيضاً حالة “ديمقراطية معلمنة”، حتى وإن شغل الحاخامات قسطاً من مقاعدها التشريعية والتنفيذية (ومن أحزابهم الممثلة في الكنيست ما يحمل أسماء دينية صرفة مثل “يهدوت هتواره” أي “وحدة التوراة”) وإن جعل “علمانيوها” الحليقون السياسةَ العدوانية ديناً والاحتلال التوسعي عقيدة. هي حالة احتلال استعماري عنصري مشينة أيضاً، لكنّ “معاقل العلمانية” في عالمنا لا تستثنيها من الوصف “الديمقراطي العلماني” الهلامي.

وما العمل أيضاً في التصنيف مع كبرى “الديمقراطيات المعلمنة” التي تتكثّف فيها نزعة الهندكة منذ أواخر القرن الماضي مع صعود “بهارتيا جاناتا” إلى الحكم؟ وهل تكون الولايات المتحدة ذاتها نموذجاً مقبولاً للدولة “الديمقراطية العلمانية”، حسب شعارات عربية فضفاضة، رغم تسييس الديني وتديين السياسي في الخبرات العملية المتراكمة تحت الشعار التقليدي “ليبارك الربّ أمريكا” الذي يستعمله بعضهم على نحو يوحي بأنّ السماء موجودة لأجل الرقعة المسماة أمريكا دون سائر الأمم؟

 

من مآزق الانجراف الحتمي والنزعات المؤدلجة إغفال التبايُنات الجوهرية والتفاوتات النسبية بين البيئات التي تتنزّل فيها المقولة الواحدة. توحي نصوص كرمان بأنّ “الدولة الديمقراطية المعلمنة” هي نموذج أحادي جبري لا تبديل له، فلا تمضي بحماستها العقائدية للمشروع إلى تفصيل في النموذج أو مصارحة بتعدد النماذج ذات الصلة في منشئها الأوروبي – الغربي. ويتجاوز الأمرُ تعدّدَ الأنظمة السياسية إلى هوامش الافتراق الماثلة بين التجارب الديمقراطية ذاتها؛ علاوة على تعدّد “العلمانيّات” وتبايُنها في مستويات المفاهيم والنظُم والتطبيقات، وهي حقائق لا يطيب لبعضهم التنويه إليها خشية انقشاع هالة يُضفونها على الوعود الحالمة. وبهذا الإطلاق الجارف تبدو مقولات توكّل كرمان موضع المناقشة؛ شعاراتٍ حالمة وغير محددة أيضاً؛ وهي تشبه ما يردِّده بعضهم في كل محفل من أنّ “العلمانية هي الحلّ”.

ومن عادة المقاربات الحالمة أن تبزغ فيها الشعارات وتتضخّم فيها المزاعم حتى تأخذ بألباب القوم فتزيغ أبصارهم عن وعودها الواقعية. ومن عجب أن اعترض بعضهم على مقولة “الإسلام هو الحلّ” التي صعدت في ثمانينيات القرن الماضي، لأنها عندهم شعار مُختزَل وغير محدد ويستعمل الدين، ثم رفعوا بدلاً منه “العلمانية هي الحلّ” وكأنه يبرأ مما رَمَوْا به الشعار السالف، ومع كرمان تتجلّى الوصفة الاختزالية بالشعار ذاته بقولها الحازم إنّ “دولة علمانية ديمقراطية هي الحلّ”.

لكنّ الأمر لا يبدو عائماً تماماً. فتوكّل كرمان تميل في فحوى النصّ إلى نسخة صارمة من بين النسخ العلمانية المُحتملة، كما يظهر في رفضها القاطع أن يُدلي ما قد يُعدّ عندها الوسط الديني أو “الدراويش” حسب تعبيرها؛ بأي حديث في شؤون “السياسة” أو “أمور الدولة”، وكأننا إزاء نموذج فرنسي صارم أو تقليد أتاتوركي متقادم سيقع تركيبه جاهزاً في اليمن وبلاد العرب على نحو حتمي “لا ريب فيه”.

تطلّ ثقافة الحظر برأسها في مشروع كرمان، تارة فيما نَسَبَته إلى “مشروع دستور” وتارة أخرى فيما دفعت به تحت تصنيف “الدراويش”. في موضوع الدستور كتبت مثلاً: “لدينا الآن مسودة دستور توافقنا عليها تؤسس للدولة الديمقراطية ذات المضامين العلمانية، بدلالة أنها نصّت على عدم جواز إصدار أي قوانين أو إجراءات حكومية تتعارض مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان وبقية المواثيق، وحظرت تشكيل الأحزاب على أساس ديني، وحظرت على المساجد الخوض في السياسة”.

تضطرب التعبيرات في نصوص مشروع كرمان المبثوثة؛ بين شعار “الدولة الديمقراطية المعلمنة” وتعبير “الدولة الديمقراطية ذات المضامين العلمانية”. والمضامين تعبير سخيّ على أي حال يتّسع بدوره لمزيد من التعبئة الأيديولوجية؛ دون أن يتوقف عند حدود علمانية “التنظيم والتشغيل” ومقولة “الحياد” بين الأطراف والمكوِّنات، كما تقول بذلك بعض الأدبيات الرائجة.

إنّ المضامين هي قيم وأفكار وثقافة وتعبئة تفيض بها دولة حديثة تتحكّم بالعملية التعليمية والمناهج وتضبط الفضاء الإعلامي وتفرض محددات على الفضاء المجتمعي، وتملك بالطبع توزيع الأعطيات وأولويات الدعم والإبراز والإضاءة والإعتام، وممارسة العنف الرمزي بحق المكوِّنات والاتجاهات والمشارب أيضاً؛ زيادة على احتكارها العنف المادي. ولمَ لا تكون المضامين العلمانية في مقام أيديولوجيا دولة ونظام فتفوق في سطوتها الناعمة أيديولوجيات القرن العشرين الفظّة في تمظهرها، وستكون هي ناظمة الإيقاع في المداولات السياسية والمجتمعية والنقاشات العامة؟

إنه ليس مشروعاً لليمن وحسب؛ بل لعالمه العربي أيضاً، كما توحي بذلك كرمان عندما تتحدث عن “إقامة الدولة الديمقراطية المعلمنة في بلداننا المنكوبة بالكهنوت الديني والاستبداد السياسي”، ثمّ تتحدث بحتمية يقينية في موضع آخر من نصوصها عن “ديمقراطية معلمنة قادمة الى كل شعوبنا كقدر حتمي لاريب فيه”.

أما اعتبار “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” (1948) مرجعية لا يصحّ التعارض معها، فيبدو أنه لم يلتفت إلى الطابع الأدبي العام والمُقتضَب والفضفاض لهذا الإعلان الذي تم إخضاعه لقيود وضوابط واشتراطات متعددة في مواثيق أكثر أهلية لأن تكون مرجعية للدول والحكومات. ثمة خلط واضح، في نص كرمان هذا، بين المبادئ العامة التي يُفترض أن تكون موجِّهة ومُلهِمة؛ والالتزامات التشريعية الضابطة والمقيِّدة بدقّة والتي لا يصحّ انتهاكها.

وعلى سبيل المثال؛ فإنّ الإطلاق المبدئي المتعلِّق بحرية التعبير بلا أي قيود أو ضوابط، مثلاً، كما ينصّ عليه إعلان الحقوق ذاته، وقع تقييده وتحديده في مواد “العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية” (1966) الذي يمثل وثيقة مرجعية أكثر تفصيلاً قياساً بطبيعة “الإعلان” القائمة على المبادئ بخطوطها العريضة التي تستعصي من هذا الوجه على أن تكون مرجعية تشريعية ضابطة، ومثل هذا ما فعلته “الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان” (1950) أيضاً بفرض قيود واشتراطات شبيهة، وهو ما جعلها هي وليس إعلان الحقوق مرجعية لأمم أوروبا وهي حافلة بالقيود والضوابط والتحديدات التي لا تأتي في “الإعلان”.

وتبدو كرمان أكثر سخاء في حديثها عن إلزامية “بقية المواثيق” الدولية، في صيغة سابغة لا تجرؤ دول مصنّفة “ديمقراطية معولمة” على الأخذ بها جملةً على هذا النحو، وهو ما يضع أوروبا الموحدة ذاتها في موضع انتقادات مستمرّة في “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة، على خلفية انتهاكات منسوبة إليها تمسّ ببعض المواثيق والإعلانات الدولية ذات الصلة، ولا تسألنّ عن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترمب وبعض أسلافه.

هل هو مشروع ناضج بحقّ، هذا الذي تعد به كرمان بكل هذه الحماسة، أم أنّ مقولاتها تعبِّر عن منحى رغبوي لما ترجوه هي أو من معها من أمانيّ لدول عربية “آتية لا ريب فيها”؟ وهل وقع تمحيص النصوص واختبار الوعود والتدقيق في المعايير والضوابط حقاً قبل بثها على هذا النحو في فضاءات الحيْرة والتشظِّي العربية؟

 

في مقولات توكل كرمان نزعة إطلاقية مشبّعة بتعبيرات شعبوية ينطوي عليها الخطاب، بما لا يقتصر على لغة التنابز بالألقاب في مفردة “الدراويش” مثلا

نزعة إطلاقية وتعبيرات شعبوية

تُراهِن بعض الخطابات المتذرِّعة بالعلمانية على إزاحة الدين وملامح التديّن من الحيِّز العام، لكنها تتقمّص في رهانها هذا تعبيراتٍ ارتبطت تقليدياً بالخطابات الدينية، مثل تأكيد حتميات مستقبلية “لا ريب فيها”، مع التعبير عن نبوءات الخلاص الكبير في نهاية الزمان، وهذا مع تبديل في الأدوار وتغيير في المضامين. تأتي المقولات “الديمقراطية المعلمنة” عند السيدة توكّل، مشفوعةً بروح عقائدية في مبناها اللغوي ونزعتها اليقينية، خاصة عندما تتحدث عن الدولة “الديمقراطية المعلمنة المنشودة والقادمة لا ريب فيها”، بما يمنح الانطباع بأنّ اليمن سيعود سعيداً إلى الأبد، ومعه بلاد العرب المثخنة بالجراح، وستنقشع المتاعب المزمنة إلى غير رجعة، وكأننا إزاء نسخة “مهدوية مُعلمَنة” أسوةً بخطابات التأسيس الحوثية مثلاً.

وفي مقولات توكل كرمان نزعة إطلاقية مشبّعة بتعبيرات شعبوية ينطوي عليها الخطاب، بما لا يقتصر على لغة التنابز بالألقاب في مفردة “الدراويش” مثلا، فهي توحي بأنّ تصوّراتها هي خيار “اليمنيين” الذي لا تبديل له بلا ريب، فهل استُشير اليمنيون حقاً في فحوى مقولات تنسجها نخبة تهترئ وشائجها مع الميدان؟ وكيف تبدو أصالة الروح الديمقراطية لدى مصادرة امتياز الحديث باسم الذات الجمعية وعموم الشعب، كأن يُطلِق أحدهم تغريدةً باسمه متحدثاً بلسان بلد كبير وأمّة عريضة؟

من القسط الإقرار بأنّ الثقافة الديمقراطية ظلّت أمانيّ تصوّرية في أوساط عربية ترفع شعاراتها وتبالغ في وعودها؛ كما يأتي في “أوراق عمل” متراكمة لا تجد سبيلها إلى الواقع. تضافرت في إنتاج الحالة بواعثُ وملابسات؛ منها أنّ طبقة النخب والناشطين التي تشبّعت بالمقولات التعليمية التي أمْلَتها برامج “التثقيف على الديمقراطية والحكم الرشيد” لم تُصارَح ابتداءً بالحقائق كاملة، بل رُسِمَت في وعيها صورةٌ فردوسية لا تطابق واقع التجارب البشرية. وحتى برامج التغيير والضغط والتكتّل والقيادة المجتمعية وكسب التأييد؛ فقد انشغلت بالتكتيكات الميدانية المحلية قصيرة الأمد كالتي تقترحها أدبيات جين شارب المتوفى هذا العام (2018) ومعهد ألبرت أنشتاين مثلاً، ولم ينفتح ذكاء البرامج على ما يتجاوز مساحات التحريك الموضعي إلى مقاربات التغيير والثورة والإصلاح بأبعادها السوسيولوجية والتاريخية وبشروطها الدولية والإقليمية.

وحتى السيدة توكّل ذاتها لم تستنكف عن الاستجابة لدعوة نادي مُسعِّري الحروب ودهاقنة استراتيجيات الهيمنة الذي ينعقد في ميونيخ لتجالسهم بابتسامة مُشرِقة، فاحتواها “مؤتمر الأمن” رغم أنها محسوبة على ثوار الميادين من جانب، وعلى “نوبل للسلام” من جانب آخر. وقد انزلقت وجوه من مشهد “الربيع العربي” إلى شباك القوى الناعمة حتى صارت نخبة من شبان الميادين الرائعين وشابّاتها الرائعات يتحدّثون مع الوقت بخطاب منفصل عن جماهيرهم ويتملّقون مفردات منظومة “بريتون وودز” بحذافيرها التي تشي بنشوء أواصر اعتمادية على الخارج ودعمه وتعاقداته وفرص الظهور على منصّاته، تكون عادة على حساب التصاقهم بواقع الشعوب ووشائجهم مع الجماهير.

يبدو مفهوماً من هذا الوجه أيضاً لماذا تركّز نقد هذه الطبقة على الداخل و”دراويشه”، مع تآكُل جرأتها على مناقشة السياسات الدولية بوضوح أو فتح ملفات الهيمنة الخارجية التي تستعمل بدورها بعض الداخل وبعض “الدراويش” وغيرهم. وما فاقم المعضلة نضوج مدونة عرفية للخطاب والسلوك يكرِّسها هؤلاء الرموز ضمن ما يُرجَى أن يكون جيل التغيير والانعتاق والتحرّر العربي؛ علاوة على تأثيرات متضافرة تدفع بها العلاقة الاعتمادية الناشئة على المانحين الدوليين التي تتطلّب انخراط منتفضي الأمس في منظمات غير حكومية تعقد ألسن “موظفيها” وتنعكس على ترتيب أولوياتهم.

معضلة النخبة وخطاباتها

عندما تستولي نزعة مركزية أوروبية على نخب عربية فقد ترضخ سريعاً لإغراء إسقاط قرون من التاريخ الأوروبي على سنين من الحاضر العربي بإغراء من وجوه الشبه في بعض الأعراض السطحية مع إغفال السياقات، فتندلق استنتاجات زائفة تتعسّف في تحليل المعضلات وتقدير خيارات الاحتواء والمعالجة. وما عليه الحال أنّ بعض النخب تفرّ من مأساوية الواقع الضاغط على وعيها بالإلحاح على رؤى حالمة وشحنها بنبوءات الخلاص الكبير؛ التي تحاكي مفاهيم الفردوس الأرضي في لبوس وعود الدولة “الديمقراطية المعلمنة” ومقولات “العلمانية هي الحل”، فتفعل غوايةُ الشعار فعلَها بشعوب ألهبتها الحرائق التي لا تطفئها رهانات حالمة، وفتك بها التهجير الذي لا تمنحه المقاربات المضطربة ضِفافاً آمنة.

من المآزق المنهجية في هذا الخطاب اختزاله مأساة اليمن أو فواجع العرب الراهنة بغياب التوافقات الداخلية على “العلمنة”، أو بحديث “الدراويش” المنفلت على عواهنه في أروقة المجتمع المدني وحوارات النخب. أين تقع مسألة “الدراويش” قياساً بأولويات الاحتراب والدمار والتجويع والحصار والمسألة السيادية ومعضلة الهيمنة الخارجية وأطراف الخيوط الممسكة بالمشهد وغير ذلك كثير؟ لكنه عالم عربي متوتِّر، تتأجّج فيه الحرائق التي تُذكي الهوَس والتشنّج وسوء التقدير. إنه واقع عربي مشدود بين أقطاب متطرِّفة، فيختزل بعضُهم الواقعَ بمنطق مثنوي متعسِّف؛ فإما تسليم المقاليد لأولئك “الدراويش” السذّج؛ أو الإذعان لسطوة “الديمقراطية المعلمنة”.

ومَن يحصرون المعضلات بالتعبير الديني أو بالخطاب المشيخي؛ إنما يرضوخون لأحكام أُحادية تعميهم عن جوهر العلل وتشعّب الملابسات للخروج باستنتاجات محبوكة عن حتمية الحل “المُعلمَن” الذي “لا ريب فيه”. وإن احتجّ القوم بسلطان الدين على المجتمع، بما يفرض، عندهم، درءَ استعماله في الشأن السياسي؛ فما يصنعون مع سلطان القبائل والانتماءات الجهوية مثلاً؟ وهل من سبيل إلى “ديمقراطية مُعلمَنة”، وفق اليوتوبيا إيّاها، مع نفوذ منقطع النظير يملكه زعماء عشائريون أغفلت النصوص ذكرهم؟ إنها تفريعة وجيزة في هذا الباب، على سبيل المثال فقط لمن يشأ أن يتفكّر فيه أو يتدبّر.

تطفح المرحلة بخطابات منتفخة الشعار تنطوي في جوهرها على هشاشة فكرية ووعي زائف. وما يُذكي الحالة أنّ أصحابها ما عادوا يُطالَبون بأكثر من تغريدات موجزة أو مقاطع خاطفة دون تفصيل القول أو تمحيص مقتضاه، وهي كفيلة في فحواها هذه بأن تحظى بالذيوع والإعجابات. وفي منعطفات التشظِّي والافتراق والخنادق والاحتراب تعلو المزايدات في النعت والتصنيف، والتسطيح في التأويل والتحليل، والتعسّف في الأحكام والمقاربات.

تستسهل نخب عربية ترويج سرديات الخلاص الكبير، بتشخيصَ العلل المعقّدة بمنطق اختزالي لا يرى سوى باعث فريد هو أسّ المعضلات دون سواه، بما يسوِّغ انسياقَ الجمهرة الذاهلة إلى حلّ نهائي محتوم لا بديل عنه سوى الدمار الشامل، إنه حلّ يعلن أفول التاريخ بضربة واحدة؛ دون أن يتطوّع أصحابه بفكّ الطلاسم أو استشراف العواقب أو فحص الملابسات. تقول كرمان: إنّ “الديمقراطية المعلمنة هي الحل من التشظي الطائفي، من الاحتراب المناطقي والجهوي، ومن كل الصراعات ما دون وطنية، ‏هي الحل، وماعداها ليس أكثر من شعارات زائفة (…)”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى