دراويش توكل كرمان.. ويوتوبيا “الديمقراطية المعلمنة” (2)
بقلم حسام شاكر
تأتي توكل كرمان في سلسلة التغريدات التي أطلقتها في آب/ أغسطس 2018 بمفاهيم تتعسّف في تأويل المصطلحات، فلا تتردّد في القول مثلاّ إن “الديمقراطية المُعلمَنة تعني دولة علمانية ديمقراطية ومجتمعاً متديناً”، فهل هذا التقرير الجازم مقطوع به حقاً؟ إنّ المسألة ليست سياسية فقط كما توحي بذلك السيدة كرمان، بل هي مجتمعية أيضاً، وهو ما يتأكد مثلاً في بعض التفاصيل الواردة، على مستوى المصطلحات والألفاظ التي اختارتها، وعلى مستوى المرجعيات القانونية والإجرائية التي ألمحت إليها. إنها تقول مثلاً: “في دولتنا العلمانية المنشودة سوف نصدر قانوناً يجرم تجارة الجنس باعتبارها انتهاك كبير للمرأة وعدوان صارخ على الكرامة الانسانية”. قد يستحق مصطلح “تجارة الجنس” نقاشاً في موضع آخر، وهو مصطلح إشكالي على أي حال ويتشبّع برؤية “مُعلمَنة” (بفتح الميم الوسطى) أيضاً للحياة و”معلمِنة” (بكسرها) للواقع؛ ينبغي تنزيلها على “مجتمع متدين” كما تقول.
لكنّ الأهم في هذا السياق أنّ التجريم المرتقب لن يأتي هنا إلاّ بحجيّة علمانية في تعبيراتها ومضامينها. لا يجرؤ هذا الافتعال التلفيقي حتى على استعمال مفردات تعكس أي قدر من الخصوصية الدينية أو الحضارية أو المجتمعية، رغم أنّ أنظمة سياسية وتشريعية تُعَد عريقة في “علمانيتها” تسامحت مع إشارات إلى خصوصيات كهذه. ستجرّ هذه العقدة في الخطاب تبعات وخيمة محتملة على هوية البلاد بالأحرى وعلى ثقافة الأجيال؛ علاوة على مفعول صدمات الواقع المُثخن بالجراح الغائرة.
مع هذه الاندفاعة المتحمِّسة للمشروع، تقع السيدة كرمان في تناقض موضوعي ومنطقي في هذا الصدد. فقد باشرت الحديث عن تفاصيل تشريعية وقانونية صادرت بها دور البرلمان ذاته، فما الذي أبقته للسلطة التشريعية فضلاً عن السلطة التنفيذية التي قد تقترح مشروعات القوانين على البرلمان؟ وأي ديمقراطية هذه التي تجزم بما سيكون؛ عبر تغريدة يطلقها أحدهم حتى قبل أن تتشكّل الأطر الدستورية: “سوف نصدر قانوناً..”؟ ولا تدع هذه النزعة “الإمامية المُعلمَنة” مجالاً لاحتمالات أخرى، منها أنّ التأويلات العلمانية ذاتها لا تُلزِم بهذا التجريم أساساً، وأنّ المواقف “العلمانية” في هذا الصدد متعددة ومتشعِّبة، ولن تكون الأدبيات “المُعلمنة” قادرة وحدها بمنطقها النسبي ومعاييرها المتحركة على حسم الوجهة الفلسفية المفاهمية للحالة بصفة ثابتة مقطوع بها، ومثالها مطالبات متصاعدة في أوساط عربية “معلمنة” برفع أي قيد في هذا الاتجاه مثلاً تحت مقولات “حرية التصرف بالجسد”، وهي مقولة ذرائعية يؤتى بها أيضاً لشرعنة خنق الأجنّة في بطون أمهاتهم.
لا تقضي الأدبيات العلمانية، من حيث المبدأ، بتجريم البغاء، أو ما تسمِّيها “تجارة الجنس”، وهي إذ عُدّت في هذه الأدبيات “تجارة” فقد انفتحت على تأويلات غير منضبطة تتيح شرعنتها في العاجل أو الآجل ضمن “شروط وضوابط”، وهذا ما عليه الحال في معظم ما تُعَدّ “ديمقراطيات معلمنة”. وبمعزل عن أي مرجعية دينية – ثقافية للأمّة أو الشعب ومجتمعه سينبغي على جماعة “الديمقراطية المعلمنة” أن تنحت مبررات التفافية بديلة كي تنتصب في مقام المرجعية الدينية والثقافية، لكنها ستبقى بالتالي سائلةً ونسبية وخاضعة لاتجاهات السيولة والتحوّل وفق ما يأتي من الأمم التي تصوغ مرجعيات هذا الخطاب العلماني في مراكز أوروبية وغربية، ومن ذلك أدبيات وبرامج تدريب مكرّسة لتحسين مواصفات الكسب لدى “عاملات الجنس”، حسب ما يأتي في بعض أدبيات المجتمع المدني العالمي. سينكشف مجتمع الدولة الموعودة لتأثيرات ثقافية خارجية متزايدة، علاوة على مفعول المقولات التي ستدفع بها المرجعية/ المرجعيات العلمانية المعولمة التي تتأسس عليها أيديولوجية “الدولة الديمقراطية المعلمنة”، وهو ما يعني أنّ ما تعهّدت به السيدة توكل كرمان في تغريداتها المبكِّرة لا ضامن له في مستقبل هذه الدولة المفترضة ومجتمعها.
قد يُفهَم أيضاً أنّ المناهج التعليمية الرسمية في اليمن وبلاد العرب لن تجرؤ على استعمال وصف “حرام” أو “لا يجوز شرعاً” بحقّ الموبقات والكبائر، وهذا وفق منحى الخطاب الذي علّلت به الناشطة المدنية حظر البغاء، بل سيتم تنحية أي تعبير ديني كي ينشأ ناشئ الفتيان في بلاد العرب على نصوص “مقدّسة” بديلة متمثلة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة ومقولات منظومة بريتون وودز. إنّ محاولات الطمأنة المجتزأة التي دفعت بها السيدة توكّل في هذا الملف تحديداً، تؤكد بحدّ ذاتها هشاشة المشروع في مفهومه ومبناه، وتكشف المبالغات الظاهرة في وعوده ورهاناته، علاوة على انقطاعه عن واقع اليمن وبلاد العرب من جانب؛ وانفصامه عن أحوال “الديمقراطيات المعلمنة” من جانب آخر.
ما قرّرته السيدة توكّل في نصوصها الموجزة، المقتضبة والمحيِّرة، هي نسخة بائسة للغاية من خطابات شعاراتية وأيديولوجية؛ تمنح الانطباع بأنها تتوعّد التديّن بالتضييق عليه ومطاردته كي ينزوي عن الفضاء المجتمعي العام ومنصّات الأمّة والمجتمع، على نحو يضطرّه إلى التزام مساحة مسيّجة بالخطوط الحُمر. وما يعزِّز هذا الانطباع المُقلِق أنّ الناشطة المدنيّة أبدت كرماً بإعلان استعدادها للتطوّع في الدفاع عن حقوق “الدراويش”؛ فأوحَت بهذا أنهم في “دولتها” سيكونون مُطارَدين بالمساءلة المجتمعية والتضييق السياسي. لكنّ الحقوق التي تقصدها كرمان هي في “الوعظ” فقط؛ وليس في المواطنة المتكافئة والمشاركة المجتمعية والسياسية الفعّالة. وقد كتبت في هذا الشأن: “في هذه الدولة الديمقراطية المُعلمَنة سأدافع عن حق الدراويش في التعبير (…) فقط عليهم أن لا يخوضوا في شؤون السياسة ولا في أمور الدولة”.
تخلط صاحبة النص بين الدولة وموقفها الشخصي بعد قيام النموذج المُعَدّ للتركيب الجاهز؛ كما يُفهَم من كلامها. وفي بناء النماذج السياسية بعد تحوّلات كبرى لا قيمة تُرجَى لإشارات تعاطف شخصية كهذه، لكن ما قد يُفهَم من مغزى مقولاتها بكل ما فيها من نبرة إقصاء ونزعة انتقاص من المواطنة؛ أنّ هذا كلّه هو رأي حمائم الجناح المعتدل في النظام “الحتمي المنشود”، فما الحال مع الصقور المفترضين إذن؟ ألا يحقّ لأنصار حرية التعبير في “دولة كل مواطنيها” أن يساورهم قلق عميق على المشهد “الديمقراطي” الموعود الذي ترسمه كرمان بتغريداتها هذه، سواء أكانت مدروسة أم غير مدروسة؟ إنّ مشروعها هذا بإطلاقيّته الصارمة ومعاييره الفضفاضة يختطّ وصفةً مثالية لتجاوزات منهجية جسيمة. ومَن سيُحسَب على “الدراويش” هؤلاء؛ ستنتفي عنه حقوق المواطنة بما تقتضيه من المشاركة في التفاعل مع الشؤون العامة، وفق مغزى النصّ.
توكّل كرمان تتحدث عن قيود فضفاضة يَصعُب أن تقبل بها ديمقراطيات راسخة؛ لكنها الناشطة العربية تمتلئ إصراراً وتصميماً على تنزيلها بمنطق الحلّ الخلاصي النهائي على اليمن وأقطار أمّته
ومن تناقضات الحالة أنّ بعض الذين يروِّجون مقولات كهذه كانوا في مقامات أخرى يهاجمون من يسمّونهم “مشايخ اللحية والسواك” بدعوى انكفاء أصحاب المنابر أولئك عن هموم المجتمعات وشواغل الشعب وقضايا العصر، وقد يستعملون بحقّ “الدراويش” أوصافاً مُسيئة – نعفّ عن ذكرها – مستوحاة من الاشتغال الفقهي بأحكام الطهارة. ثمّ يأتي القول برؤى تدفع أهل “الوعظ والإرشاد” دفعاً لأن يصبحوا “دراويش” بحقّ، وأن يُحظَر عليهم التعبير عن آرائهم وضمائرهم والحديث في الشأن العام، وأن يحذروا من البوْح بما يدخل في بعض فقه المعاملات مثلاً، فكيف بهم إن اقتربوا من أبواب “السياسة الشرعية”؟ جدير بالملاحظة أنّ ما تقرره النصوص ذاتها، سواء أقصدتها السيدة توكّل أم لم تقصدها، يتجاوز الضوابط الشائعة التي تقيِّد الاستعمال الديني في أسماء الأحزاب ومواصفاتها، أو حتى في خطابات الترويج الحزبي في دور العبادة، وهي ضوابط لم تعتمدها دول كثيرة تعدّها الخطاباتُ الرائجة “ديمقراطيةً معلمنة”، ومنها قاطرة أوروبا التي يتقدم مشهدها السياسي والبرلماني والحكومي حزبا الاتحاد “المسيحي” الديمقراطي والاجتماعي، بزعامة أنغيلا ميركل.
ومن لطائف المثال أنّ السيدة ميركل ذاتها هي ابنة “درويش” لوثري، مات في سنة “الميادين العربية” الأولى (2011) وفاتته مقترحات نخبة التغيير “الديمقراطي المُعلْمَن” التي تحظر عليه مناقشة سياسة ابنته المستشارة وحكومتها، فقد كان عليه أن يتحلّى بفضائل الصمت وأن يتنازل عن امتيازات المواطنة في الجمهورية الاتحادية. واقع الحال أنّ توكّل كرمان تتحدث عن قيود فضفاضة يَصعُب أن تقبل بها ديمقراطيات راسخة؛ لكنها الناشطة العربية تمتلئ إصراراً وتصميماً على تنزيلها بمنطق الحلّ الخلاصي النهائي على اليمن وأقطار أمّته.
تصعد الشعارات المُختزَلة في هذه المرحلة العربية المضطربة بديلاً عن تقديم مفاهيم واضحة قابلة للفحص ومقاربات وافية مُتاحة للتمحيص، خاصة عندما تبثّها النخب بتغريدات موجزة ومقاطع مُجتزأة في مواقع التواصل الاجتماعي. وما يجدر البوْح به أنّ حظر الدول الحديث في “السياسة وأمور الدولة” كما يقضي بذلك مشروع كرمان، لا ينتمي إلى الثقافة الديمقراطية أساساً، التي تغلِّف السيدة توكّل مقولاتها بها، بل هو من موروث ثقافة إمساك اللسان التي استبدّت بمجتمعات عربية ولا زالت ذيولها تتفاعل أو تعيد إنتاج ذاتها، مسلّحة بمقولات تزعم أنها علمانية حيناً؛ أو متذرعة بهالة دينية مُفتعلة حيناً آخر.
وإن كان الباعث هو الخشية من التحيّز السياسي الذي قد يُبديه “الدراويش”، كما سمّتهم هي بتعبيرها المُرمّز وغير الصريح؛ فما ينبغي إدراكه أنّ التحيّزات لا تكون بالحديث وحده؛ بل تتحقّق بالامتناع عن الإدلاء بموقف أحياناً، كما فعل بعض “دراويش” الانقلابات العسكرية الذين أخذوا ينثرون الابتسامات وسط المذابح، ويحدِّثون الناس عن كل شيء سوى السياسة؛ يوم أن كان الصدع بكلمة الحقّ موقفاً شرعياً. إنّ إسكات “الدراويش” هو بحدّ ذاته موقف سياسي يجعل الدين مكرّساً في خدمة اتجاهات مصلحية وسياسية محددة، ويفرض عليه أن يتمظهر في لبوس معيّن ينشده اليوم برنامج الاستبداد العربي المدعوم من قوى الهيمنة الخارجية، بالتواطؤ مع نخب تتذرّع بالعلمانية أو تسعى إلى “علمنة الإسلام”.
يزعم بعض أهل “الوعظ والإرشاد” امتناعهم عن “الخوض في السياسة”؛ وهم غارقون فيها حتى آذانهم، وانزلق بعضهم إلى خنادق السياسة بأصواتهم المتحشرجة أو ابتساماتهم العريضة، بعمائمهم أو ربطات عنقهم، وبتغريداتهم المجرّدة في ظاهرها عن التعبير السياسي، وهكذا أخذت السياسة تخوض بهم معاركها على الوعي وتتّخذ من عمائهم ولحاهم كسوةً للظلم وتبريراً للهيمنة، كما فعلت بأطياف من المتذرِّعين بالعلمانية أيضاً. ألم يتحدّث بعض المشايخ عن قيمة الحبّ في زمن الثورة، وعن روح الوئام في موقف الانتفاض، وعن فضائل الصبر على المكاره تحت سياط الظلم والقهر؟ ألم يبارك بعضهم “المرحلة الكونية الجديدة” المكلّلة ببشائر السلام العالمي؛ عندما هبط ترمب المتغطرس على بلاد العرب ليمتصّ أقوات أجيالهم القادمة؟ ثمّ إنّ الاعتدال الديني والانفتاح القيمي ومكافحة التطرف ونقد الموروث؛ هي وغيرها من مفردات التداول السياسي الصاعدة عربياً وعالمياً؛ فأين تبدأ السياسة هنا وأين تنتهي، وفي أي رقعة مُسيّجة يمكن للدين أن يُحصَر؟
قد يكون السكوت موقفاً سياسياً؛ وليس الحديث وحده. وقد يتحقّق التفاعل السياسي بالإيحاء أحياناً أو بالهمس، وهو ما يُتقِنُه المنبريّون الحاذقون بتضرّعهم المهيب بدعاء مخصوص إزاء جمهرة ترفع أكفّها وأصواتها، بما يطوِّر لغة تفاهم خاصّة بين “الدراويش” و”مريديهم”. وقد يأتي حديثهم عن قيمة إنسانية “محايدة” فعلاً سياسياً وشجاعة أدبية وتثويراً مدنياً، وهو ما يدركه بطش السلطة فيزجّ بأولئك “الدراويش” في السجون لكلمة منطوقة أو لدعاء مسموع أو لتغريدة مبثوثة أو لصمت عن قَوْل يُرجى منهم. فأين تبدأ السياسة، هنا أيضاً، وأين تنتهي؟
وأعجب من هذا كلِّه أنّ الحظر الذي تبشِّر به رؤى النخبة المتذرِّعة بما يسمى “الديمقراطية المعلمنة”، يشمل التعبيرَ عن كلِّ ما يتعلّق بما تسميه كرمان “أمور الدولة”. لكنها الدولة الحديثة يا قوم، التي تُهيْمن على العناوين وتُمسِك بالتفاصيل وتشتقّ المسارات وتخالج الثنايا. تصرّمت العهود الغابرة التي احتملت دولاً في نطاق مدينة أو ضمن أسوار قلعة، وما عادت دول الحاضر مقتصرة في اشتغالها على المركز دون الأطراف، أو تختزل أدوارها في شؤون سيادية تاركة للمجتمع تدبير أموره والنهوض بشؤونه وتشغيل أوقافه.
وإذ تبشِّر كرمان بحظر التعبير عن “أمور الدولة”، فما يفوتها أنها أمور المجتمع بالأحرى، وهي شواغل الشعب أيضاً وهموم الأجيال. ومقتضى هذا الكلام أن تُصادِر نخبةٌ سياسية ضيِّقة ومنطوية على أروقتها الخاصة ديمقراطيةَ الشعب لصالح أولويّاتها ومصالحها، فهذا هو التطبيق المحتمل للمقولات حتى لو التقَط سياسيو الدولة “الديمقراطية المعلمنة”، الأنيقون منهم والأنيقات، صوراً ذاتية مكلّلة بالابتسامات مع مواطنيهم؛ بحضور ناشطي “المجتمع المدني” الذين لم ينتخبهم الشعب أساساً.
للكنائس منظماتها وتشكيلاتها وأذرعها الفاعلة في المجتمعات المدنية الأوروبية علاوة على جماعاتها وروابطها الأخوية التي تتخلّل المجتمع والنخب والدولة ذاتها وقد تمارس نفوذاً غير مرئي ضمن آليّات صناعة القرار
إنّ أي محاولة للتدقيق في نصوص كهذه لن تزيد النظر الفاحص إلاّ رهقا. تقول السيدة توكّل، مثلا، بصفة إطلاقية؛ إنّ الخوض في الشؤون السياسية وأمور الدولة هو “شأن السياسة والأحزاب السياسية؛ لا الدراويش”. فهل يسري القيد على “المجتمع المدني” أيضاً، الذي تُحسَب عليه كرمان أساساً؟ وما الذي يبقى للمجتمع المدني إن حُرِم، مثل “الدراويش” البؤساء، حقّ الخوض في الشؤون السياسية وأمور الدولة؛ أم ستقع محاباته بفكّ قيد المقولة الصارمة عنه، ربما تحت تأثير ضغط الدول الغربية ومنظمات حقوقية عالمية تحابيهم دون “الدراويش” الذين لا بواكي لهم؟ أغفلت كرمان، في النصوص الموجزة التي بين أيدينا على الأقل، مسألة المجتمع المدني، وهو الذي حظي باعتراف عالمي بدوره الشريك للمؤسسات العامة وصانعي السياسة. ولم تتطرّق النصوص بالتالي إلى موقع أولئك “الدراويش” من المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية، بما هي عليه من أدوار تتفاعل مع الشأن السياسي.
ورغم أنّ النصوص موضع المناقشة لا تأتي على موضوع المجتمع المدني، فإنها تعبِّر ضمناً عن معضلة المشاركة الشعبية واضطراب مفهوم “المجتمع المدني” ذاته. فهل المنظمات الأهلية التي يشكِّلها المجتمع هي جميعاً مصنّفة ضمن المجتمع المدني فيكون لها حق التداول السياسي على قدم المساواة؛ حتى لو حضر “الدراويش” فيها أو اتخذوا منها منصّات عمل مدني للتأثير على صناعة القرار السياسي مثل غيرهم؟
تحافظ كرمان على نزعتها الشعاراتية المُطلَقة ولا تفيد مبدئياً إلاّ بحظر سابغ. وسنجد “تأصيلاً” لهذا المنحى في مفاهيم نظرية، كما عند سعد الدين إبراهيم مثلاً، وفي وفرة من تقاليد الممارسة والتطبيقات العملية غير المدوّنة التي استبعدت الصفة الدينية عن منظمات المجتمع المدني، والنتيجة أن تشكّلت صورة انطباعية رائجة عن المجتمع المدني تستبعد معظم الجمعيات الأهلية أحياناً بافتراض أنه ينبغي أن يكون “مُعلمَناً” أيضاً، رغم أنه لا يوافق حال الديمقراطيات العريقة الموصوفة بالعلمانية. لا مجال في المجتمع المدني، وفق نصوص كرمان، لحضور “الدراويش”، كما تسميهم. وتبقى هذه قراءة محتملة للمشروع الذي تبشِّر به مقولاتها.
إنّ علمنة المجتمع المدني، بمعنى استبعاد المؤسسات الدينية منه، تسري نسبياً على الكهنوت المؤسسي التي تجسِّده الكنائس مثلاً في البلدان الأوروبية، والتي تحظى بأطر تشريعية وتنظيمية خاصة مع امتيازات معيّنة وسلطة رعوية على منتسبيها، وهذا مُنتَفٍ في الحالة الإسلامية في الأساس. ومع ذلك؛ فإنّ للكنائس منظماتها وتشكيلاتها وأذرعها الفاعلة في المجتمعات المدنية الأوروبية علاوة على جماعاتها وروابطها الأخوية التي تتخلّل المجتمع والنخب والدولة ذاتها وقد تمارس نفوذاً غير مرئي ضمن آليّات صناعة القرار.
يحقّ لبعض التأويلات أن تستشرف المآلات التي يَعِد بها المشروع؛ بفرض الحظر والترهيب والرقابة الذاتية على منابر “الوعظ الديني”؛ مع إخلاء الساحة لمنابر “الوعظ العلماني” التي ستستحوذ على الشأن العام وتستبدّ بالمداولات السياسية مستفيدة من محاباة عقيدة الدولة ونخبتها السياسية “المعلمنة” لمرجعيّاتها وأطروحاتها. ومن يدقِّق النظر سيكتشف أنّ بعض “الوعظ العلماني” يأتي مسلّحاً بحتميات خلاصية ومشبّعاً بأفكار نهاية التاريخ وبأحلام الفردوس الأرضي؛ وإن بصفة إيحائية تدغدغ الوجدان وتُهَيْمن على الأذهان.
ولِمَ لا؟ أليس لدى “الوَعظ العلماني” ما يكفي من النصوص المنقوشة في الألواح والمحفوظة عن ظهر قلب، ومن المدوّنات المرجعية التي تزيح الكتب المقدسة لتشغل حيِّزها في الوعي، ومن الأيقونات النجومية التي ستصادر مساحات “الدراويش” بعد أن تسترق الأضواء وتحظى بالجوائز وتُمنَح أفضل أوقات البثّ؟ ها هم “أنبياء الزمن الجديد” يحتكرون الحقيقة، ويصادرون المُطلَق، ويجودون بوعود نهاية العالَم، ويتذرّعون بالعقل والإنسان والحرية والحقوق، بينما يبشِّر بعضهم باستعلاء منطق إقصائي يؤسِّس لثقافة الحظر ومجتمع الرقابة الجديد المتذرِّع بالقيم البازغة والمقولات الذرائعية.
ومن بوسعه أن يزعم أنّ “الديمقراطية المُعلمَنة” تعمل في فراغ أو بمعزل عن شروط الاجتماع البشري بكل استقطاباته وتحيّزاته؟ وهل ينتظم هذا الاجتماع بلا قيم عليا يتخذها مرجعية ويحتكم إليها ويتذرّع بها، وهي إن مرقت من الدين فإنها قد تصير ديناً تحاكيه في وزنها وحجّيتها، وقد تنهض لها معابد ومدارس ومتاحف ومزارات بأسماء شتى، وينتصب للحديث باسمها خطباء ووعاظ ومبشِّرون وحاملو مباخر.
ثم إنّ أفكار المجتمعات ومشاربها المتعددة ترقى لأن تكون في وعي قادتها وجمهورها عقائد صلبة؛ منها ينطلقون وعنها يعبِّرون. حتى أنّ الشيوعية ذاتها تمظهرت عند بعض ناسها في هيئة الدين، وصار كتابها المقدس هو “المانيفست”، أما فقهه وشروحه ففي “رأس المال” و”الأعمال الكاملة” مثلاً، أو كتب ماو ومقولاته على الجبهة الصينية. وقد نحتت الحالة أصناماً انتصبت في الميادين، وقالت بعض مذاهبها بالتثليث، فجاء عند بعض طوائفها أنه مخصص لماركس وإنجلز ولينين، فجُعلت لهم مزارات ومواسم حجّ في مواقيت معلومة أو أضرحة ومراقد تتوافد عليها الجمهرة بخشوع للتبرّك بها والتمسّح بأعتابها، كما فُعِل مع جثمان لينين المحنّط في الميدان الأحمر.
إنها خبرة ممتدة إلى حاضرنا، فمن أعلنوا الإلحاد أو اللاأدرية، أخذوا يتكلّسون مع الوقت في هيئة طائفة لها مقولاتها المقدّسة وأنبياؤها المنتصبون في وعيهم، إيماناً منهم بما هم به مؤمنون. لهؤلاء جماعاتُ ضغطٍ ومنظمات مجتمع مدني تعبِّر عنهم، ولهم أيضاً “معابد” مكلّلة بالوقار الديني والنصوص المنقوشة، ومن يهبط في العاصمة الأوروبية الموحدة، مثلاً، سيجد في مطار بروكسيل قاعة “للإنسانيين والأخلاقيين” بين قاعات الصلاة المخصصة للطوائف الدينية، وقد يحظى بجلسة “وَعظ وإرشاد” أيضاً لا يؤمن الواعظ فيها بالله ولا باليوم الآخر. فهل سيكون هؤلاء، إذن، على تنوّع مشاربهم؛ مشمولين بمنطق الحظر السياسي وقيود التعبير في الشؤون العامة الذي يقترحه مشروع الدولة “الديمقراطية المعلمنة”، أم أنّ القيود مكرّسة لنفي “الدراويش”، “دراويشنا” نحن حصراً؟ سنواصل المناقشة في الحلقة الثالثة من هذا المقال إن شاء الله، لفحص ممكنات الديمقراطية الموعودة في مشروع مكلّل بالوعود المطلقة والمزاعم الحتمية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)