دراسة توثيقية لأحداث أفغانستان من الجهاد إلى الإمارة (1من2)
قراءة وعرض بسام ناصر
الكتاب: “صيف أفغانستان الطويل.. من الجهاد إلى الإمارة”
المؤلف: الدكتور أحمد موفق زيدان
عدد الصفحات: 500 صفحة
الناشر: دار لبنان للطباعة والنشر 2021
ليس أقدر على تقديم دراسة توثيقية وتحليلية لأحداث ضخمة ووقائع مهمة، كتلك التي كانت أفغانستان مسرحا وميدانا لها منذ سبعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، ممن عايشها وواكبها وكان شاهدا عليها، بل كان قريبا من بعض أطرافها الفاعلين والمؤثرين، ما أهله للتواصل المباشر معهم، واستقاء المعلومات من مصادرها الموثوقة.
وهذا ما تحقق للكاتب الصحفي والباحث السوري، الدكتور أحمد موفق زيدان، في كتابه الأخير “صيف أفغانستان الطويل.. من الجهاد إلى الإمارة” الصادر حديثا عن دار لبنان للطباعة والنشر، إذ تهيأت له الظروف لمعايشة التجربة ومواكبة أحداثها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى عام 2015، فعمل كاتبا ومراسلا صحفيا لمجلات وصحف كـ”الجهاد” و”الشرق الأوسط” و”المسلمون”، ومراسلا لإذاعات الشرق والكويت، وصوت ألمانيا، ثم مديرا لمكتب قناة الجزيرة في باكستان.
إقامة زيدان الطويلة في باكستان منذ 1983 إلى 2015، وزائرا متنقلا في مناطق مختلفة من أفغانستان، أتاحت له نسج شبكة علاقات قوية ومتينة مع صناع الأحداث، من قادة الجهاد الأفغاني السياسيين، والقادة الميدانيين، والساسة والعسكريين الباكستانيين، وزعيم تنظيم القاعدة وقادة التنظيم المعروفين، ولاحقا زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر، وقادتها السياسيين والميدانيين، فكانت له لقاءات ومقابلات مع كثير منهم، تضمنت معلومات هامة ومؤثرة في تجلية ما وراء الأحداث، وكاشفة لما يجري في الكواليس.
احتوت مادة الكتاب بفصولها السبعة على رصد دقيق لأحداث الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي، وتجربة حركة طالبان منذ بدايتها مرورا بسقوط دولتها ونهوضها بعد ذلك لمقاومة الاحتلال الأمريكي والحكومة الأفغانية، كما أنها تضمنت رؤى تحليلية للمؤلف وكتاب وباحثين مختصين بالشأن الأفغاني، إضافة لحضور النزعة النقدية والمراجعات لبعض السياسات والقرارات الهامة نقلها المؤلف عن زعماء ومسؤولين سياسيين، وقادة ميدانيين، وعلماء دين كان لهم حضورهم وتأثيرهم في المشهد الأفغاني.
روايتان لنشأة الحركة الإسلامية
تتبع المؤلف بدايات وظروف نشأة الحركة الإسلامية في أفغانستان، فأطال النفس في بحث ورصد العوامل المؤثرة في نشوء الحركة، وظهور قواها وأحزابها الفاعلة والمؤثرة في المشهد الأفغاني، فكان للتعليم دور مهم في ذلك، وقد قسم المؤلف “التعليم الأفغاني إلى تعليم خارجي وآخر داخلي، أما الخارجي فيخص العلماء الأفغان ممن درسوا في بخارى قبل الثورة الشيوعية في أكتوبر/تشرين الأول 1917، وغالبية المشايخ والعلماء خميرة الإسلاميين الأفغان لاحقا فقد درست غالبيتهم في مدرسة ديوبند بالهند قبل انفصال باكستان عنها عام 1947، إذ غدت الأخيرة بعد هذا التاريخ بديلا عن الهند وتكأة تعتمد عليها أفغانستان بتعليمها الديني، ولاحقا انتقلت وجهة علماء أفغان التواقين للدراسة في الخارج إلى جامعة الأزهر والجامعات الإسلامية بالسعودية”.
أما القسم الثاني، يتابع زيدان، “فهو القسم الديني الداخلي الأفغاني، وينقسم إلى قسمين تعليم ديني حكومي، وآخر غير حكومي يتمثل في الكتاتيب والمدارس الدينية”.. ويصف التعليم الداخلي بأنه “كان أقرب ما يكون إلى التعليم المشتت المتناثر، تعليم الجزر حيث كل مدرسة أو كل كتّاب يعمل بمعزل عن الآخر إدارة وتمويلا وهو ما انعكس بشكل مباشر على المحتوى العلمي، عزز ذلك طبيعة أفغانستان اللامركزية وطبوغرافيتها الجبلية الصعبة مع افتقار المدن والقرى لطرق مواصلات تربط بعضها بعضا، ويمكن تقسيم التعليم الديني الأفغاني إلى تعليم خاص بعيدا عن الحكومة وهو ما عُرف بالكتاتيب، وتعليم آخر أقرب إلى الحكومي وتمثل بالمدارس الدينية الحكومية التي كانت تمولها وتشرف عليها الحكومة ولكن بقبضة متراخية”.
يتميز الشعب الأفغاني باعتزازه بقوميته، ويتعذر عليه قبول الدخيل عليه بسهولة، وعرفت أفغانستان بأنها “ممر للإمبراطوريات، فالكل مر منها وعبر، إلا الإسلام فقد مرّ واستقر، حتى إن كابل تاريخيا انتفضت وتمردت أكثر من مرة حتى على الفتح الإسلامي كتعبير عن صعوبة إخضاع الأفغاني بسهولة ويسر. وحين سعى الإسكندر المقدوني ومن بعده المغول والبريطانيون ثم السوفييت والأمريكيون إلى غزوها واحتلالها، فقد دفع الجميع ثمنا باهظا لمغامراتهم، بل كانت نهاية بعضهم في أفغانستان، حتى أطلق عليها البعض ’مقبرة الإمبراطوريات العظمى‘”.
بدايات الحركة الإسلامية
يُرجع المؤلف بدايات نشأة الحركة الإسلامية في أفغانستان إلى روايتين، رواية الكبار والتي يرون فيها أن الحركة إنما بدأها غلام محمد نيازي، الذي نال درجة الماجستير من الأزهر، وتأثر بحركة الإخوان المسلمين، فعاد إلى كابول عام 1958 وتسلم فيها عمادة كلية الشريعة، ثم تسلم رئاسة الجامعة، وقد سانده في عمله الحركي كل من الأستاذ برهان الدين رباني، والشيخ عبد رب الرسول سياف وآخرون، أما الرواية الثانية فهي رواية الشباب، وأكثر من يجسدها المهندس قلب الدين حكمتيار، الذي روى للمؤلف أن بداية تشكيل الحركة كانت عام 1968 بعد اجتماعه مع اثني عشر شخصا في جامعة كابول، بعد ما لمسوه من ضرورة تشكيل الحركة لمواجهة الفكر الشيوعي المتنامي حينذاك في أفغانستان.
وينقل المؤلف عن محمد ياسر رئيس اللجنة الإعلامية في الاتحاد الإسلامي بزعامة الشيخ سياف رأيا توفيقيا بين الروايتين، فيقول: “أتفق مع الذين يقولون إن بداية الحركة عام 1969 فهي بداية الحركة العلنية، كما أتفق مع الذين يقولون إن بدء الحركة كان منذ عام 1957 وهذه هي بداية المرحلة السرية، وكلا الرأيين على حق، لأن كل واحد منهما يوضح بدء عمل الحركة، فالحركة لم تأت من الفراغ أو فجأة، بل كانت هناك خلفيات لها”.
وعن مدى تأثر الحركة الإسلامية في أفغانستان بحركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، نقل المؤلف آراء وشهادات من عاصروا تلك المرحلة، وغالبها تصب في تأثر الحركة سواء بإخوان مصر أم الجماعة الإسلامية إنما كان تأثرا فكريا، ولعبت أفكار البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي دورا إلهاميا للحركة، إضافة لتأثرها بشخصيات دينية من آسيا الوسطى، أمثال بشر الله طرزي، وسيد عالم بخاري وإبراهيم بك.
وبعد استعراضه لما وقع تحت يديه من آراء وشهادات حول بدايات الحركة الإسلامية الأفغانية، فقد أكدّ المؤلف “تعذر وضع إطار محدد لنشوء الحركة الإسلامية الأفغانية وتأسيسها، حيث الجامع المشترك بين الجميع هو أن بِدْأها كان ردة فعل على الوافد الشيوعي الأفغاني، وربما هنا تصدق نظرية توينبي التاريخية في التحدي وقبوله، لتفسر كثيرا من نشوء الحركة الإسلامية وظهورها وتناميها، فهذا الوافد الشيوعي الأجنبي استهدف دينها وعاداتها وتقاليدها ومألوف حياتها، ولذا فقد كان المتضرر من ظهور الشيوعية شرائح أفغانية كبيرة وواسعة”.
الحركة الإسلامية بعد الانقلاب على الملكية
بعد أن تخطت الحركة الإسلامية الأفغانية مرحلة الكمون في بداياتها، ثم مرحلة التحفيز متوسلة بذلك بالمشاركة عبر الحفلات والمهرجانات، والمظاهرات والاحتجاجات، وتوزيع المنشورات الليلة والمجلات، والكتاب الإسلامي، والانتخابات الجامعية، فقد وجدت نفسها في مواجهة مرحلة جديدة ما بعد الانقلاب على الملك الأفغاني محمد ظاهر شاه، الذي كان مشغولا في آخر أيامه بملذاته بعيدا عن هموم الشعب ومشاغله، فبينما كان الملك مع زوجته في إيطاليا يقضون عطلتهم، كان السردار محمد داود ابن عمه ينفذ انقلابه عليه في 17 يوليو/حزيران من عام 1973.
ووفقا للكتاب فقد “لعب الضباط الشيوعيون الأفغان دورا محوريا وأساسيا في انقلاب محمد داود، فكان الاعتماد الرئيسي بنجاحه عليهم”.. لافتا إلى أن “الدرس الواضح والجلي من الانقلاب وما بعده أن الشيوعية والسوفييت فشلوا في استراتيجيتهم القاضية بالتحضير لثورة شعبية عارمة في أفغانستان تأتي بالشيوعية والماركسية، وتسحق المد الإسلامي المتنامي نخبويا وشعبويا، فغير السوفييت تكتيكهم باللجوء إلى الجيش وقطع الطريق على الإسلاميين ونشاطهم المتنامي، وفرض الفكر الشيوعي من فوق عبر هذا الانقلاب، وهو ما أفقدهم تعاطف الكثيرين..”.
ونتيجة لما أحدثه الانقلاب من تحول كبير في الاستراتيجية السوفييتية عبر الواجهة الشيوعية والقوى الانقلابية، وهو ما يوحي بالتكشير عن الأنياب وأن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة اجتثاث للحركة الإسلامية، وبشراسة تذكر بالاستراتيجية الروسية السابقة في آسيا الوسطى والقوقاز التي لا تزال ذاكرة الأفغان طرية حولها، أدركت معه الحركة الإسلامية المخاطر والتهديدات فغيرت استراتيجيتها وشرعت باللجوء إلى العمل السري البعيد كل البعد عن استهدافات الانقلابيين، وكان التحرك للعمل السري قد بدأ بعد ثلاثة أشهر فقط من الانقلاب وتحديدا في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973، فأوقفت الحركة عملها الجماهيري ومظاهراتها ومهرجاناتها..”.
وتحدث المؤلف بعد ذلك عن توجه شباب الحركة الإسلامية الأفغانية لاقتحام معترك العمل الانقلابي، فحسموا اختيارهم بالأغلبية للتحضير لانقلاب عسكري مضاد ردا على انقلاب محمد داود، فكانت محاولة الانقلاب الأولى التي نظمها المسؤول العسكري للحركة المهندس حبيب الرحمن، إلا أن تلك المحاولة التي كان الموعد المفترض لتنفيذها هو شهر شباط (فبراير) من عام 1974 باءت بالفشل لوجود ضابط جاسوس بين الضباط الانقلابيين، وهو ما أدّى إلى اعتقالات وهروب الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية إلى الجنوب الأفغاني المحاذي لباكستان.
عن مدى تأثر الحركة الإسلامية في أفغانستان بحركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، نقل المؤلف آراء وشهادات من عاصروا تلك المرحلة، وغالبها تصب في تأثر الحركة سواء بإخوان مصر أم الجماعة الإسلامية إنما كان تأثرا فكريا، ولعبت أفكار البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي دورا إلهاميا للحركة
وكذلك كان حال المحاولة الانقلابية الثانية، بعد أن تولى قيادة العمل العسكري خلال تلك الفترة المهندس قلب الدين حكمتيار بعد اعتقال المسؤول العسكري حبيب الرحمن.. مصيرها الفشل، وعلى إثرها لجأ زعيم الحزب الإسلامي حكمتيار إلى بكتيا المجاورة لباكستان، معقل قبيلته (كوتشي) البدوية، وبعد مباحثاته مع مولوي حبيب الرحمن اتفقا أن يتجه الأخير إلى باكستان للالتقاء بحكومة ذو الفقار علي بوتو وشرح الموضوع له، للاستفادة من الخلاف الأفغاني الباكستاني الذي كان قد بلغ ذروته، وهو ما حدث كما روى الجنرال الباكستاني المتقاعد نصير الله بابر، المفتش السابق لفيلق بيشاور حينذاك، للمؤلف، بأنهم استقبلوا حبيب الرحمن وبدأوا بالتعاون معه، وتقديم الأسلحة والذخائر والخبرات الباكستانية في حرب العصابات والقتال”.
وبعد الانقلاب الذي قام به الجنرال ضياء الحق في الخامس من تموز (يوليو) من عام 1977، والذي أطاح بحكومة ذو الفقار علي بوتو المنتخبة، ساد الفتور في العلاقة بين الحكم الجديد وجماعات المجاهدين الأفغان أملا في أن يتمكن الحكم الجديد من تحسين علاقاته مع أفغانستان، وهو ما تغير بعد وقوع الانقلاب الشيوعي على الرئيس الأفغاني محمد داود، بدا الانقلاب أنه يستهدف ضياء الحق بمثل ما كان يستهدف محمد داود، وفي نيسان (إبريل) 1979 كلف ضياء الحق الجنرال أختر عبد الرحمن بإدارة المخابرات العسكرية إلى جانب مسؤوليته كرئيس لهيئة الأركان، وطلب منه تقريرا عن كيفية التعامل مع الوضع الأفغاني، فأشار عليه بدعم المجاهدين ونقل المعركة إلى داخل أفغانستان لمواجهة السوفييت فيها، وتحويلها إلى مقبرة لهم، وهو ما كان يُطرب آذان ضياء الحق..
الغزو السوفييتي.. سنوات الجمر
شهد عام 1979 انتفاضة شعبية أفغانية واسعة ضد الحكومة الشيوعية، خاصة انتفاضة هيرات الدامية، بعد أن ثار أهالي المدينة، وكانت أطراف البلاد تغلي كالمرجل في هيرات وجلال أباد ضد السياسات والأساليب الشيوعية المتناقضة مع طبيعة الشعب الأفغاني المحافظة والتقليدية، وكانت شعبية الرئيس الأفغاني محمد طراقي تتراجع بشكل خطير، ففي هيرات كان الشيوخ والعلماء يحرضون الناس ضد الشيوعية، وفجأة بدأ التحريض في الساحات العامة عبر مكبرات الصوت، داعين للانتفاضة ضد الحكم الشيوعي، وكان على رأس المتمردين العقيد إسماعيل خان والرائد علاء الدين.. وامتدت بعد هيرات شرارة الثورة والانتفاضة إلى المناطق المجاورة لها، فوصلت لولاية بادغيس وغيرها من الولايات المجاورة، وتشجع الناس ودبت فيهم الحماسة بعد تمرد أهالي هيرات.
ويتابع المؤلف رصد انتشار حمى المقاومة والانتفاضة في ولايات أفغانية أخرى، والتي وصلت على الفور إلى جلال آباد بوابة باكستان إلى آسيا الوسطى، فتمردت وحدة عسكرية، وتبع هذا تمرد وحدة عسكرية أخرى بولاية غزني، فكان ذلك كله يزيد من ثقة الحركة الإسلامية بنفسها، وأنها بدأت تنجح في نقل جهادها من جهاد نخبة وجهاد فصائل، إلى جهاد شعبي كحال كل الانتفاضات والثورات الأفغانية التاريخية ضد كل المحتلين والغزاة.
ويلفت الكتاب إلى أن الخلافات بين الرئيس الأفغاني طراقي ورئيس وزرائه حفيظ الله أمين كانت تتعاظم في 14 أيلول (سبتمبر) من عام 1979، وصلت إلى تدخل السفير السوفييتي في كابول إلكسندر بوزانوف ليطلب من أمين المجيء إلى القصر للقاء الرئيس بحضوره وبضماناته، تردد أمين في البداية ليوافق في النهاية على المجيء، فاصطحب معه كبير حراسة داود ترين، وما إن وصل إلى القصر واعتلى الدرج حتى أُمطر هو والوفد المرافق له بالرصاص ما أسفر عن مقتل داود ترين على الفور، لكن تمكن أمين من الإفلات من الكمين، وتحركت وحدات عسكرية موالية لأمين وحسمت الموقف بعد أن قتلت الرئيس طراقي، واعتلى أمين السلطة..”.
ويذكر المؤلف أن الرئيس الجديد حفيظ الله أمين بدأ على الفور بتعديل سياسة من سبقه فرفض زيارة موسكو التي طالبها بسحب سفيرها المخادع على حسب وصفه، فكانت النتيجة أن سُحب السفير لكن على مضض سوفييتي، واتجه أمين بالمقابل نحو الداخل لتعزيز شعبيته المفقودة لمواجهة ضغوطات موسكو الخارجية، فكشف عن سجلات مقتل أكثر من 120 ألف أفغاني خلال فترة حكم سلفه طراقي، وبدأ معها سياسة الإفراج عن المعتقلين وكان من ضمن من أُفرج عنهم عبد رب الرسول سياف وآخرون، أما على صعيد العلاقة مع باكستان فقد أرسل إشارات قوية باتجاهها داعيا لتحسين العلاقات معها، وهو ما قوبل من قبل الرئيس الباكستاني ضياء الحق بزيارة كابل والترتيب لعقد قمة مع الرئيس الأفغاني الجديد.
ويتابع رصد الأحداث وسردها لافتا إلى أن شكوك السوفييت بدأت تتصاعد بحق أمين وعلاقاته مع المعسكر الغربي، وانقلابه على حلفائه السوفييت بتقربه من الباكستانيين، لا سيما مع إرسال أمين رسائل عدة للأمريكيين عبر وسائل إعلامهم برغبته في تغيير موقفه وسياساته.. ونتيجة لذلك فإن موسكو كانت ترى الخيوط تنسال أمامها من بين أصابعها، فحسمت خيارها بالغزو، وهو ما كان في كانون أول (ديسمبر) 1979، وتجزم الوثائق السوفييتية التي أُفرج عنها بعد الغزو أنه بينما كان الرئيس المنصب لاحقا بابرك كارمل يبث خطابه من طشقند المنفي فيها، داعيا القوات السوفييتية لدخول كابول ومساعدته فيما اعتبره تهديدا خارجيا، كانت قوات سوفييتية قد سبقته بالفعل إلى أفغانستان، وقامت بتصفية الرئيس الشيوعي الأفغاني حفيظ الله أمين داخل القصر الرئاسي، ليتدفق بعدها عشرات الآلاف من الجنود لحماية الشيوعية الأفغانية.
وبعد الغزو السوفييتي لأفغانستان بدأت واشنطن سياسة الحشد والتعبئة ضده، ففي الرابع من شباط (فبراير) 1980 طار زبيغينو بريجنسكي مستشار كارتر مع نائب وزير الخارجية وارن كريستوفر إلى الرياض لمناقشة التعاون العسكري مع السعودية، وإطلاعهم على نتائج المحادثات التي أجرتها البعثة الأمريكية في باكستان بهدف تقديم اقتراحات عن مساعدة عسكرية لباكستان.. وكانت أول مساعدة عسكرية ترسلها المخابرات المركزية الأمريكية إلى المجاهدين الأفغان عن طريق باكستان دون معارضة من الكونغرس بتاريخ 9/10/1980…
وركز المؤلف في رصده وتحليله لسنوات الغزو من 1979 إلى شباط (فبراير) من عام 1989 على الحديث عن أكثر ما ميز الاستراتيجية السياسية والعسكرية لكل عام من الأعوام التي عاشتها أفغانستان إبان سنوات جمر سياسية وعسكرية في غاية الصعوبة والتعقيد، وعاشت معه ليلا طويلا، وكابوسا أطول، مع أن الآلام والآمال التي غصت بها كل تلك السنوات لا يمكن اختزالها ولا اختصارها بوريقات، لكن ذاك هو عمل المؤرخ يختصر ويختزل ويسعى ما وسعه الجهد إلى تصوير تلك السنوات بوريقات ينجح أحيانا ويخفق أخرى.
(المصدر: عربي21)