مركز تأصيل للدراسات والأبحاث
كثيرة هي الأسئلة التي تراود الباحث وهو يقرأ في كتب ومؤلفات أتباع المذهب العقلاني، وهم يتحدثون عن الإسلام، ويتناولون أحكامه وقضاياه العقدية والتشريعية. ولعل من أهم تلك الأسئلة: الطريقة والأسلوب الذي اتبعه هؤلاء في معالجة قضايا الإسلام؛ ونوعية الأدلة التي استندوا عليها ومصادرها, ومدى علمية وموضوعية هذه الأدلة وتلك المصادر… الخ. والحقيقة أن دراسة متأنية لما كتبه أتباع المذهب العقلاني عن الإسلام, وقراءة واعية لما أودعوه في الكثير من مقالاتهم وأبحاثهم، تكفي لبلورة حكم عادل على طريقة تلك الدراسة, ورؤية واضحة عن ذلك المنهج الذي اتبعوه.
إن الواضح في ذلك المنهج أنه تجاهل الأدلة الشرعية, وأعرض عن الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة, واتبع طريقة انتقائية غريبة وعجيبة في الأخذ ببعض تلك النصوص وترك بعضها الآخر، وتعتمد على اتباع الهوى والمزاجية؛ ناهيك عن تأويل النصوص -التي لا تنسجم مع أفكارهم- تأويلا لا يحتملها النص القرآني أو النبوي.
ويمكن استعراض أهم وأبرز أصول منهج المذهب العقلاني في دراسة الإسلام فيما يلي:
تقديم العقل والهوى على النص الشرعي: وهي في الحقيقة من أهم أصول منهج المذهب العقلاني في دراسة قضايا وأحكام الإسلام. فمن المعلوم أن تحكيم العقل وتقديمه على النصوص الشرعية منهج ثابت في تعامل العقلانيين مع دين الله. بالإضافة لتحكيم الهوى في أصول العقيدة ومقررات الدين الثابتة.
وكمثال على ذلك يقول أحدهم -الشيخ عبد المتعال الصعيدي: “لا شك أن إخضاع دليل النقل لدليل العقل فيه من الحرية العلمية بكل ما تتسعه هذه الكلمة من معنى, ومما يعطي العلماء سلطة واسعة أمام الجامدين من رجال الدين فلا يكون لأولئك الجامدين سلطان عليهم أصلا, ولا يكون لهم أن يسلكوا سبيل التعسف معهم, إنما هو قرع الدليل بالدليل, وما أضعف دليل الجمود أمام دليل التجديد”[1]. ويرى أنه لا بد أن يكون للعقل سلطان على النقل حتى يهيئه الحكم الذي يسعد الناس.[2]
والحقيقة أن تأويلات العقلانيين لقضايا عقدية غيبية، كتأويل معجزات الأنبياء وقصص القرآن والملائكة والجن وما شابه، إنما كان بسبب منهجهم في تحكيم العقل في كل شيء، وتقديمه على النص الشرعي والنقل.
ومن مفارقات المذهب العقلاني وانتقائيته وعدم منهجيته في قواعد الاستدلال أنه في الوقت الذي يرد فيه حديثا صحيحا لمجرد معارضته أهواءهم, فإنه في الوقت نفسه يستدل بحديث ضعيف أو حتى موضوع يوافق أهواءهم، ويدعم مذهبهم. ومن أبرز أمثلة ذلك استدلالهم بحديث ينسبونه للرسول -صلى الله عليه وسلم، وهو منه براء: (الدين هو العقل)[3].
الانحراف والخلل في منهج الاستدلال والتلقي في العقيدة: ومن أبرز مظاهر الانحراف في منهج الاستدلال على العقيدة وأصول الإسلام وثوابته الاستدلال بنصوص التوراة والإنجيل المحرفة على أنها أدلة ثابتة صحيحة، وفي منزلة القرآن والسنة؛ ناهيك عن استدلالهم بالأحكام والقوانين البشرية الوضعية -كالنظريات الفلسفية، وإعطائها قوة الأدلة الشرعية, بل ربما تتقدم الأدلة الوضعية الظنية على نصوص الكتاب والسنة.
فها هو أحدهم يستدل على ضرورة التسامح الديني بين أتباع الأديان بما ورد في التوراة والإنجيل المحرفين, معرضا عما جاء في كتاب الله وسنة رسوله في هذا الموضوع, وغير آبه بما ورد من نهي فيهما عن طاعة اليهود والنصارى وتصديقهم.[4]
وكذلك فعل علي عبدالرزاق، حين أراد الاستدلال على فصل الإسلام عن الحكم, فزعم أن عيسى -عليه السلام- تكلم في حكومة القياصرة، ومع ذلك أمر بأن يعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر! مدعيا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- حين تكلم عن الحكم في ذكره للإمامة والخلافة, فلا يعني أنه أمرنا بأن نلتزم ذلك في الحكم.[5]
لقد قاس أحكام الإسلام على ما في الانجيل المحرف. وهو انحراف واضح في منهج الاستدلال, فشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أشمل وأبقى، ومتضمنة لما جاء به عيسى -عليه السلام- من عند الله, ناهيك عن حقيقة وقوع التحريف في الإنجيل بينما القرآن محفوظ بحفظ الله.
وإذا تحدثنا عن الخلل والانحراف في التلقي عند العقلانيين فحدث ولا حرج, فالمذهب العقلاني يتلقى من الغربيين أكثر مما يتلقى من مصادر الإسلام أثناء دراسته لهذا الدين. ولعل أكثر ما يتلقى هؤلاء عن المستشرقين, ثم عن الإرساليات التبشيرية، والجامعات والمؤسسات الغربية التي تعنى بالدراسات الإسلامية, ناهيك عن الجامعات العلمانية في الدول العربية.
وبناء على ذلك قد لا يعجب القارئ إذا علم أن أحد العقلانيين -د. محمد حسين هيكل- يرد روايات البخاري ومسلم وكتب السنة المعتمدة التي تتناول المعجزات النبوية وأحداث السيرة؛ ويعتمد روايات المستشرقين في السيرة, ويفضل نصوصهم على نصوص كتب السيرة والسنة, بل ويدافع عن هذا النهج المنحرف بقوله: “ذلك قولهم أنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة وكتب الحديث, ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها, ولقد كان يكفيني ردا على هذا أنني أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية الحديثة, وأكتبه بأسلوب العصر”[6]. والطريقة العلمية بزعمه هي طريقة العلم التجريبي القائم على الحس والمشاهدة!
التهويل من شأن العلم المادي: حيث إن العقلانيين يقدسون العلم الحديث القائم على التجربة والحس, ويجعلونه حكما على الدين والغيب, ولا يعيرون أمامه اعتبارا لقول الله تعالى في القرآن الكريم، أو قول رسوله -صلى الله عليه وسلم- في السنة النبوية. فقول ورأي العلم الحديث أو أحد أقطابه من المستشرقين في أي قضية إسلامية عقدية أو تشريعية مقدم على المصادر الإسلامية الأصلية -الكتاب والسنة.
وتأكيدا لهذا المنهج وهذا الانحراف يقول أحدهم بشكل جازم وقاطع: “لقد أصبح القول الفصل للعلم -يقصد العلم الغربي المادي الحديث، العلم الذي اتفق قادة الفكر الإنساني على تسميته بهذا الاسم, وهو جملة المقررات اليقينية على الوجود وكائناته, مما سرت عليه أصول الدستور العلمي, فكل قول لا يحصل على تأييد هذا العلم, أو على الأقل لا يماشي أسلوبه ويرتسم حدوده, لا ينال من العقلية العصرية المكانة التي يراد أن تكون له. وقد رفض هذا العلم كل ما عرض عليه من أساطير الأولين, حتى العقائد التي بادت في سبيل الدفاع عنها أمم برمتها. وهذا العلم واقف لها بالمرصاد, ليفعل بعقائدنا مثل ما فعل بعقائد الذين سبقونا إليه, والأمم الإسلامية اليوم محفوزة إليه بحكم التربية العصرية”[7].
بل إن بعض العقلانيين يقدس العلم الحديث، ويقارنه بدين الله الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من عند الله؛ بل ويطالب المسلمين ينزع كل عقيدة سابقة ودراسة أي قضية على أساس العلم الحديث! وهي قمة المغالاة فيما يسمى “العلم الحديث”, وفي ذلك يقول: “فهذه الطريقة -العلم الحديث- تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة لك في هذا البحث”[8].
والحقيقة أن هذا الغلو انحراف شديد في منهج دراسة الإسلام عند العقلانيين. إذ هو في الحقيقة مبدأ علماني جاهلي, فماذا سيبقى للمسلم إذا محا من نفسه كل رأي وعقيدة سابقة؟! ثم من قال: إن الإسلام ونصوص الكتاب والسنة تتعارض مع ما يسميه هؤلاء العلم الحديث؟! إن من خصائص دين الله الخاتم أن نصوصه النقلية الصحيحة لا تتعارض أبدا مع العقل الصريح.
التنكر للتراث الإسلامي: والانقطاع المتعمد عن كتب الشريعة الإسلامية، من عقيدة وسنة وتفسير وفقه وأصول, ووصفها بأوصاف مذمومة للتنفير منها: كـ”الكتب الصفراء”. واتهامها بأنها لم تعد صالحة ومسايرة لعصر التقدم والعلم الحديث -حسب زعمهم، وهو ما يعتبر في الحقيقة تنكر للإسلام بحد ذاته.
وتبعا لذلك يرى الدكتور زكي نجيب محمود، في كتابه “تجديد الفكر العربي”، أن “التقيد بالتراث الإسلامي بمثابة سلطان للماضي على الحاضر, وسلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة التي يفرضها الموتى على الأحياء, وقد يبدو غربيا أن يكون للموتى مثل هذه السيطرة, مع أنه لم يبق لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامته”[9].
وهكذا يعتبر المذهب العقلاني التراث الإسلامي بما فيه كتب تفسير كتاب الله تعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالعقائد والأحكام الشرعية, وكتب السلف الصالح الذين نقلوا لنا الدين وفسروه, بل ووضعوا لحفظه من التبديل أو التغيير علم الجرح والتعديل وعلم دراية السند، يعتبرون ذلك كله صفحات مرقومة صامتة!
والحقيقة أن الصدمة تكمن في البديل الذي ارتضاه أتباع المذهب العقلاني عن التراث الإسلامي, والمتمثل بأقوال المستشرقين وآراء الغربيين وأفكار العلمانيين, التي يزعمون أنها تعتمد المنهج العلمي الحديث -المادي التجريبي, وهي لا تقارن بمنهج المسلمين من قريب أو بعيد.
التركيز على إبراز الجوانب السلبية والبدع والانحرافات العقدية في تاريخ الأمة, ومحاولة اختزال الإسلام ببعض الآراء الشاذة والمذاهب المنحرفة, ومن ثم الحكم على دين الله الخاتم من خلال ذلك.
وإن من يقرأ في كتب من يسمون أنفسهم “المذهب العقلاني” يلاحظ تركيزهم على الفتنة التي وقعت في زمن الصحابة الكرام, ومحاولة التهويل من هذه الأحداث لتكون منفذا للطعن بالصحابة والتابعين والإساءة إليهم, وهو ما فعله طه حسين في كتابه “الفتنة الكبرى”، وكما فعل العقاد في كتابه “معاوية في الميزان”، وغيرهما كثير.
كما أن من سمات منهج العقلانيين في دراسة تراث الإسلام تمجيده للفرق الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة قديما وحديثا, والسعي لإحيائها من جديد, وتبني آرائها تحت شعار حرية الفكر والبحث والاعتقاد. ومن هنا يعتبر رموز المذهب العقلاني المعتزلة أبطال الحرية والفكر العقلاني, ويزعمون أنهم الجديرين بالبقاء, وأن انقراضهم وانحسار أفكارهم وبدعهم يعتبر خسارة للأمة الإسلامية وللإنسانية جمعاء, ولذلك تراهم يحاولون إحياء هذا الفكر وتلك البدع, ويعتبرون ذلك هدفا ساميا وعملا مجيدا.[10]
هذه أهم وأبرز نقاط المنهج الذي يتبعه أتباع المذهب العقلاني في دراستهم للإسلام, وهو في الحقيقة منهج منحرف عن أصول منهج أهل السنة والجماعة, كما أنه لا يخلو من التناقض مع العقل الذي يزعمون أنهم يقدسونه ويبجلونه, فإقحام العقل فيما لا مجال له فيه انتقاص منه ومن مكانته, وهو ما فعله العقلانيون في كل المسائل الغيبية العقدية الإسلامية.
[1] حرية الفكر في الإسلام: ص32.
[2] المرجع السابق: ص30.
[3] المدنية والإسلام، محمد فريد وجدي: ص52.
[4] دين الله واحد، محمود أبو رية: ص69.
[5] الإسلام وأصول الحكم: ص45.
[6] حياة محمد: ص47.
[7] مجلة الأزهر، مجلد 10، ج1/15، عدد محرم- 1358هـ.
[8] حياة محمد: ص150.
[9] تجديد الفكر العربي: ص51.
[10] انظر “المعتزلة” لزهدي حسن جار الله ص “ك” في المقدمة , وهذا هو الإسلام لفاروق الدملوجي ص39