مقالاتمقالات مختارة

دبلوماسيو البابا!

بقلم د. زينب عبد العزيز

 

تحت هذا العنوان اللافت للنظر، “دبلوماسيو البابا”، والذي تكشف عنه محطة التليفزيون الفرنسية آرتي (ARTE Tv)، إذ من الطبيعي ان يكون للبابا قساوسة بكافة الرتب، أما أن يكون له دبلوماسيون متخصصون أكثر احترافا من الدبلوماسيين المدنيين، يقودون في العلن وخاصة في الخفاء مهام سياسية على أعلى مستوى في جميع أنحاء العالم، فذلك هو الغريب في الأمر وذلك هو ما نطالعه في هذا الفيلم الوثائقي الذي أذاعته محطة آرتي الفرنسية يوم 9 يناير 2018 الساعة العاشرة وعشرون دقيقة مساء. والفيلم من اخراج الصحفية المتخصصة في الشئون الفاتيكانية كونستانس كولونّا تشيزاري، ولها العديد من الأبحاث، آخرها كتاب بعنوان “في خبايا الدبلوماسية الفاتيكانية”، الصادر سنة 2016.

والغريب اللافت للنظر أيضا أن نطالع اجماعا في العديد من الصحف الفرنسية حول كشفها للجوانب الدبلوماسية للكرسي الرسولي وللفاتيكان، الذي تعد امكانياته الاستخباراتية تفوق بمراحل إمكانيات المخابرات المركزية الأمريكية والروسية والبريطانية والفرنسية والصينية بل والصهيونية. وهو ما كشف عنه الأمريكان في تسريبات ويكيليكس الشهيرة. وقد غاصت الصحفية في متاهات وخبايا الكرسي الرسولي المسئول عن الجانب السياسي، مثلما غاصت في خبايا الفاتيكان، المسئول عن الجانب الديني، وكلاهما وجهان لعملة مغرضة واحدة يترأسها حاليا البابا فرنسيس الذي زار مصر العام الماضي.

وليس سرا على أحد ان السمة التي أرادها البابا فرنسيس، منذ انتخابه في مارس 2013، وأن تكون ظاهرة معلنة للجميع، هي ميله الشديد للفقراء والضواحي المهمشة، وخاصة قضية اضطهاد المسيحيين في الشرق الأوسط وما يتعرضون له بصورة متكررة، لا يخفي على أحد أنها مفتعلة أو تتم بالاتفاق، ويتم استغلالها إعلاميا بطريقة فجة مصطنعة لتحفيز وتبرير عمليات التنصير التي تتم شكلا وموضوعا في ذلك الشرق الأوسط المغلوب على أمره. والقضايا التي يتناولها دبلوماسيو الكرسي الرسولي بمساندة الجانب الديني في الفاتيكان والحوارات التي يرتبون لها تمتد من سوريا الى كوبا، مرورا بالعراق واليونان وجمهورية إفريقيا الوسطي والشرق الأوسط أو كولومبيا..

وترجع قوة الفاتيكان حاليا إلى اتفاقيات لاتران التي وقعها سكرتير البابا بيوس الحادي عشر مع موسوليني، وأعادت للكنيسة الكاثوليكية استقلاليتها المدنية التي كانت قد فقدتها سنة 1870. وبذلك حصل الفاتيكان زورا على كيان دولة مستقلة ذات سيادة، وسرعان ما اعترفت به الدول الغربية المسيحية والمؤسسات الدولية وانساقت في ركابها الدول الإسلامية.. والفاتيكان يقيم حاليا علاقات ديبلوماسية مع 183 دولة، أي أكثر من الولايات المتحدة باثني عشر دولة.

وما يكشف عنه هذا الفيلم التسجيلي أن الكرسي الرسولي لديه قساوسة/مخبرين في جميع أنحاء العالم حتى في قلب أبعد القرى النائية في غابات وصحاري افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فحيثما توجد كنيسة يوجد بها قساوسة/مخبرين سياسيين وخاصة في الكنائس المحلية وجميعها تابعة لهذا التنظيم. وبذلك فان مخابرات الكرسي الرسولي تعد أكبر مكتب استخباراتي في العالم وأكثرها تنظيما ونشاطا.

ومما يكشف عنه أيضا هذا الفيلم الوثائقي أن مدرسة تخريج القساوسة في روما تقوم بفرز طلابها بدقة فائقة لإلحاقهم بالكلية الدبلوماسية للفاتيكان، التي لا يدخلها سوى النخبة المختارة من الكلية الإكليريكية، وهي معروفة باسم “أكاديمية النبلاء الكنسيين”، التي تم تأسيسها سنة 1701، أي انها أول مدرسة دبلوماسية في التاريخ. وهذه الأكاديمية تعد نموذجا لمختلف الأكاديميات الديبلوماسية في أوروبا. ويتم الاختيار منها لمنصب المندوب الرسولي للفاتيكان عامة وخاصة في أهم البلدان أو تلك التي تمثل وضعا سياسيا معينا بالنسبة لتلك المؤسسة الفاتيكانية وكرسيها الرسولي، وذلك من قبيل بلدان الشرق الأوسط التي تمثل الأهمية القصوى حاليا وما يتعللون بما يطلقون عليهم “مسيحيو الشرق” للعبث بها سياسيا.

وفي مؤتمر فيينا سنة 1814 تم اعتبار رئيس “أكاديمية نبلاء الكنسيين” عميدا للسلك الديبلوماسي في العالم، وتم تجديد هذا الاختيار في مؤتمر فيينا 1963 بمساندة كافة الدول بما فيها الدول الإسلامية. وكأننا نتفنن أو نتبرع بتتويج أعداء الإسلام لمحاربته.. كما ان مثل هذا الوضع الدبلوماسي غير الطبيعي يكشف من جهة أخرى السبب الرئيسي الديني المتعصب في مساندة دول العالم لهذا الكيان الألعوباني النزعة.

ومن أهم ما يكشف عنه أيضا هذا الفيلم الوثائقي تلك الملفات الساخنة التي يتعامل معها وبها الفاتيكان وجهازه الاستخباراتي المتفرد في العالم. ومن هذه الملفات دوره السياسي في سوريا، وهي البلد الوحيد الذي ظل فيه، من كافة السياسيين الأجانب، المندوب الرسولي للفاتيكان والكرسي الرسولي !! وكذلك دوره في كلا من فنزويلا وكوبا، ودور البابا فرنسيس وتأثيره على كلا من راؤول كاسترو وباراك أوباما لإخراج كوبا (المسيحية) من عزلتها الشديدة المفروضة عليها سياسيا من الولايات المتحدة.

أما أهم القضايا التي يتدخل فيها الفاتيكان والكرسي الرسولي والتي أنشأ لها معهدا تدار منه أحداثه في باريس، برئاسة المونسنيور باسكال جولنيش، فهي قضية الشرق الأوسط التي تحاك وتدار تحت أسم حركي تمويها هو قضية “عمل الشرق” (L’Œuvre d’Orient) للقضاء على الإسلام. وهو نفس الترتيب الذي اتخذته كل تلك الدول الأوروبية وفاتيكانها لاقتلاع الخلافة العثمانية والإسلام من تركيا تحت مسمى مشابه، تداوله كافة الدبلوماسيين فيما بينهم هو “مسألة الشرق” (La Question d’Orient)، ونحن في ثُباتنا نائمون..

ومجرد إضافة توضيحية حول هذا الفيلم والذي يكشف موقف فرنسا المتواطئة في نفس المخطط وتزعم في العلن أنها دولة صديقة : عند إذاعة الفيلم على قناة أرتي الفرنسية يوم 9 ينار الحالي حاولت مشاهدته لأكتب عنه، فظهرت لي اللافتة الواضحة في الصورة التالية والتي تنص بكل جبروت وتحكم : “هذا الفيلم غير متاح في بلدكم”.. ثم تم طبعه على اليوتيوب مع حذف اسمه من صورة البداية، وهو الواضح قفي الصورة بعاليه..

مجرد تعليق ساذج وليتنا نعي الدروس..

 

 

(المصدر: مجلة الأمة الالكترونية)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى