مقالاتمقالات المنتدى

داوود (عليه السلام) … “رمز الحِكمة والفصاحة في الخطاب القرآني”

داوود (عليه السلام) … “رمز الحِكمة والفصاحة في الخطاب القرآني”

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

امتن الله سبحانه وتعالى على عبده داوود (عليه السلام) بنِعمٍ كثيرة، ذُكر بعضها في هذا الموضع في ختام قصة الملإ من بني إسرائيل وطالوت وجالوت، وذكر بعضها في مواضع أخرى، مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سبأ: 10-11]. وقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 79-80]. وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ]ص: 17-20].

وجاء ذكر هذه النعمة العظيمة (الملك، والنبوة، وتعليم العلم) داوودد (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]، تعقيبًا على جهاده في سبيل الله، وبلائه البلاء الحسن في تلك المعركة التاريخية من معارك الإيمان والكفر، والتي قتل فيها داود عليه السلام رأس الكفر والطغيان جالوت، فكان ذلك بمنزلة المكافأة له على صبره وبلائه وجهاده.

ولهذا قال المفسرون: جمع الله تعالى لداوود الملك، أي السلطان والحكمة، وهي النبوة، ولم تكن تجمع لأحد قبله، بعد ما قتل جالوت، فقد وعده طالوت أن يزوجه ابنته، ويشركه في ملكه، إذا قتل جالوت، فوفى له بوعده، وآل إليه الحكم بعد وفاة طالوت. [الحكمة في إيتاء الحكمة لداوود، إسلام ويب، 2004م].

قال الله تعالى: وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة: 251].

شدَّ الله ملك داود وقواه وثبته، ومنحه كل ما يحتاجه ملكه من وسائل القوة والتثبت، من المال والرجال والعتاد والسلاح والدروع والتشريع، كما قال الإمام ابن كثير: ﴿شددنا ملكه﴾؛ أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك. ومن مظاهر شد الله لملكه ما آتاه من الحكمة وفصل الخطاب.

ب- ﴿وآتيناه الحكمة﴾: قال بعض العلماء: الفهم والعقل والعدل والصواب، وقالوا: كتاب الله واتباع ما فيه. وقال البعض الآخر: الحكمة: التوراة.

وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة، وهي من الحكمة فالنبوة من الحكمة، وكتاب الله من الحكمة، واتباع وتطبيق ما فيه من الحكمة، وأوتي داوود  (عليه السلام) الزبور، ومن الله عليه بالشريعة (القصص القرآني، 3/440).

ونتج عن النبوة والشريعة وكتاب الله فهم داود (عليه السلام)، وفطنته وحكمه بالعدل وقوله الحق والصواب. وإن الحكمة هبة ومنحة من الله تعالى لبعض الناس، وخاصة الأنبياء والمرسلين، وعلى الأخص عند اجتماع النبوة والملك والقضاء، لمعرفة الحق، وإقامته، والقضاء به وتنفيذه والالتزام به، وهذا ما وهبه الله تعالى داوود (عليه السلام). (شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م، 3/441)

قال تعالى: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً﴾، وبما أن الله آتى داود (عليه السلام) الحكمة، فقد كان حكيماً في نفسه يتمتع بالفطنة والفهم والذكاء والفقه والعلم، وكان حكيماً مع قومه يقضى بينهم بالحكمة، ويحكم فيهم بالحق والصواب، وقد كان حكمه وقضاءه يمنع الفساد، ويحقق الخير والصلاح.

ج. ﴿وفصل الخطاب﴾؛ القطع والجزم، تقول: فصل كذا إذا منعه، وأما الخطاب هو الكلام والجدال والخصام بين الطرفين المتخاصمين.

والفصل هو: الكلام والجدال والخصام بين الطرفين المتخاصمين.

وتبين هذه الآية الكريمة بأن الله تعالى آتى داود (عليه السلام) فصل الخطاب، وكان هذا ثمرة للحكمة التي من الله عليه بها: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾.

وهذه شهادة من الله تعالى لنبيه داود (عليه السلام) بموهبته في الحُكم والقضاء، حيث كان يحكم بين الناس بشرع الله ويقضي بين المتخاصمين والمتنازعين بالحكمة التي آتاه الله إياها.

وكانت أحكام داود وأقضيته (عليه السلام) صائبة صحيحة، كيف لا وهو النبي المؤيد من الله تعالى، وهو المعصوم بعصمة الله له، وكانت أحكامه وأقضيته تؤدي إلى فصل الخطاب، وقطع الخلاف، وإنهاء النزاع. (القصص القرآني، 3/441)

قال مجاهد والسدي: فصل الخطاب هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وكان يساعده في أقضيته وأحكامه ابنه سليمان  (عليه السلام)، الذي آتاه الله الحكمة والعلم أيضاً، فأضاف حكمته إلى حكمة أبيه وعلمه إلى علمه، وإذا دعت الحاجة إلى الاستدراك على أبيه في حكمه كان يفعل، وكان أبوه يتقبل ذلك برضى، ويمضي حكم ابنه وقضاءه. (القصص القرآني، 3/442)

إن هذه النتيجة: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ من أسباب تحقيق مفهوم العبودية الشامل في التسبيح والذِكر والطاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل، والحرص على تنفيذ شرعه والتصدي للموبقات والمنكرات والكبائر… إلخ.

 

 

ملاحظة هامة استفاد المقال مادته من مسودة كتاب: ” الأنبياء الملوك داود وسليمان عليهما السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م، (3/441).
  • قصص الأنبياء، عمرو خالد.
  • أسماء الأنبياء ودلالاتها ومعانيها، خالد محمد، نور حوران للنشر والتوزيع، دار العرب للدراسات، الطبعة الأولى، 2016م.
  • زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى