داعية يؤسس لمذهب فقهي جديد
بقلم د. عبدالحي يوسف (خاص بالمنتدى)
السؤال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما رأيكم فيما تفضل به أحد الدعاة بالرغبة في إنشاء مذهب فقهي جديد؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومن أبرع الردود وأكملها وأطيبها رد الشيخ أبي عمر الفوتي من نواكشوط؛ حيث قال جزاه الله خيرا وبارك فيه: الأمر الأول : يظهر لي عدم تصور الداعية – على حسن الظن فيه – لمفهوم المذاهب ونشاتها وتطورها، فالمذاهب لا تنشأ قصدا ولا لمجرد أن عالما فلانيا أراد ان يؤسس لنفسه مذهبا فصنع مذهبا، وإنما تنشأ على سبيل الحاجة (الأسئلة والنوازل) ومن خلال ممارسة الفقه (بالبحث والدرس والإفتاء)، فتجتمع للعالم المؤهل من طول ممارسة الفتيا اختيارات في مسائل الفقه إذا تُنوقلت وانتظمت في أبواب الفقه سُمي مذهبا، فإذا عَمل به أهل بلد أو طائفة معتبرة سُمي مذهبا متبوعا كالمذاهب الأربعة، فإذا انقطع العمل به سُمي مذهبا مندرسا او مندرجا في غيره كحال مذاهب الأوزاعي والثوري، فإذا بقيت تلك الاجتهادات في بطون الكتب دون تناقل ولا عمل سُمي اختيارا فقهيا كحال اختيارات أكثر الفقهاء وقد يسمى مذهبا على التوسع، وهكذا نشأة المذاهب وسيرها.
وكل ذلك لا دخل لصاحب المذهب فيه، وإنما صاحب المذهب يؤدي فتياه واجتهاده فيكتب الله له القبول فيتناقل الناس قوله ويعملون به وينتشر مذهبه.
الأمر الثاني : ظنُّ الداعية انه بتأسيس مذهب فقهي جديد ستتلاشى الخلافات الفقهية وتنسد الثغرات العلمية وتجتمع الأمة الاسلامية، وهذا ظنٌ أقل ما يقال عنه ساذج لا يصدر ممن مارس الفقه وعرفه، فإن الفقه نوعان: ظاهر قد حسمه النص، ودقيق اجتهادي لم تحسمه النصوص، فالأول يقل اختلاف العلماء فيه، وإن وجد فيه خلاف سُمي شاذا أو ضعيفا، والثاني هو محل نزاع الفقهاء، وذلك مسائل الفقه الإجتهادية التي لا يمكن أن يحسمها قول عالم او اختيار مجتهد، ولم يزل المجتهدون منذ عهد الصحابة يختارون ما يرون الأصوب والأقرب دون أن يدعي أحد منهم أن قوله يحسم الخلاف أو أن مذهبه “سيتلاشى ما فات وستنسد به الثغرات” وذلك لعلمهم أنها محل نظر ومورد فهوم.
الأمر الثالث : أن الداعية بسعيه لتأسيس مذهب جديد خاص به قد أنزل نفسه منزلة الاجتهاد بل أعلى رتب الاجتهاد (الاجتهاد المطلق) بل قرن نفسه بكبار المجتهدين أصحاب المذاهب كمالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأحمد وأمثالهم ممن أطبق المسلمون على إمامتهم في الدين، وهذه الرتبة (رتبة أرباب المذاهب) لم يدعها كبار المحققين ممن جاء بعد القرون الثلاثة، لا ابن جرير ولا الدار قطني ولا ابن عبد البر ولا ابن قدامة ولا النووي ولا ابن دقيق العيد ولا ابن تيمية ولا الشاطبي ولا ابن حجر… وكل من هؤلاء وأمثالهم أصحاب اختيارات في الفقه ولم يكونوا أرباب مذاهب، ونعلم قطعا أن منزلة صاحبنا الداعية في العلم والفهم والديانة دون منزلة هؤلاء أصحاب الاختيارات، فإن كان لا بد صاعدا بنفسه فليصعد إلى رتبة أصحاب الاختيارات.
الأمر الرابع : أنه لو فُتح هذا الباب للداعية لم ينغلق ولما عجز اي واحد أن يخرج ويدّعيَ لنفسه مذهبا جديدا في الفقه “يتلاشى ما فات وتنسد به الثغرات”، وعندئذ سنسمع بما لم نعهد من المذاهب كالمذهب الشحروري والمذهب الكيلاني والمذهب العدناني.. وبذلك يتهدم بنيان الفقه على رأسه.
الأمر الخامس : أن حاجة الأمة إلى تسهيل الفقه وضبط الإفتاء أهم من حاجته لتأسيس مذهب جديد، ففي ما وصلنا من المذاهب غنية، وليست المذاهب وكثرتها مقصودة بذاتها، وإنما المقصود انتشار العلم وانتفاع الأمة. والله أعلم