متابعات

داعية بريطاني درس في الأزهر وأصبح من أبرز علماء أوروبا.. هذه رحلته الغامضة التي قادته إلى الإسلام

عندما أصبح تيم وينتر مسلماً عام 1979، كان الإسلام لا يزال شيئاً غامضاً بعض الشيء بالنسبة للغرب. وكان وقتها طالباً جامعياً يبلغ من العمر 19 عاماً في جامعة كمبردج، ويصف نفسه بأنَّه “مُوحِّدٌ مُستقل”.

واليوم، يُواجه وينتر، أحد سكان لندن، ويبلغ من العمر 57 عاماً، ويُعرَف أيضاً باسم الشيخ عبد الحكيم مراد، حقيقةً مختلفةً تماماً. فالإسلام نما تدريجياً ليصبح واحداً من كبرى الديانات في أوروبا، وتصاعدت معه الإسلاموفوبيا كذلك، بحسب ما نشرته النسخة الأميركية من هاف بوست.

ويتعامل وينتر، الذي يدرك الواقع الجديد جيداً، مباشرةً مع ذلك. وباعتباره واحداً من أبرز علماء الإسلام في أوروبا، وعميد كلية كمبردج المسلمة، فإنَّه يقضي أيامه في تدريب خريجي أكبر المعاهد الإسلامية ببريطانيا؛ من أجل تحسين عملية التحرُّك في المجتمع البريطاني والانخراط فيه.

وباعتباره رجلاً إنكليزياً تحوَّل إلى الإسلام، يقف وينتر في وضعٍ فريد لسد الفجوة بين الإسلام والغرب، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير بسبب الرحلة التي أوصلته إلى ما هو عليه الآن.

فترة اختبار ديني

وقد كانت فترة أواخر السبعينات فترة اختبارٍ ديني للعديد من الشباب البريطاني، ولم يكن وينتر بعيداً عن ذلك. فقد كانت لديه رغبةٌ قوية في فهم طبيعة الله والإنسانية، وهكذا وجد نفسه غارقاً في دراسة أديان العالم.

وتحوَّل نظره حينها إلى ديانات “الشرق الأقصى”، ثم إلى اليهودية؛ بحثاً عن شيءٍ “يهدف في نهاية المطاف إلى احتواء العالم”. ولكنَّ هذه المذاهب لم تف بتطلعاته، وكان قد ثَبُتَ لديه بالفعل أنَّ المسيحية التي كان يدين بها في ذلك الوقت معيبة، وكان ذلك جزئياً يرجع -على حد قوله- إلى “فشل كاهن المدرسة في أن يفسر لعقولنا الشابة المتشككة التعاليم الأساسية للمسيحية والتجسيد والثالوث، وتكفير الخطايا بالدم.. ولم يكن لأيٍ من ذلك معنى، وقد اعترف الكاهن بأنَّه شيءٌ ينبغي مجرد الإيمان به، وليس له أي أساس في الكتاب المقدس أو أي أساس منطقي”.

وأخيراً، صادف وينتر الإسلام، الذي كان في ذلك الوقت “شيئاً قد تواجهه عندما تعمل في المكتب الاستعماري (وهي الوزارة التي كانت تقوم على شؤون المستعمرات البريطانية)، أو كمُبشِّر، ولكن بخلاف ذلك لم يكن معروفاً على الساحة البريطانية أبداً، سواءٌ بالخير أو بالشر”. وكان على دراية بالعقيدة الإسلامية بسبب دراسته العربية، وعندما بدأ في دراسة الإسلام “بدأت الأمور تتطور مع الوقت”، ووجد وينتر الدين الذي يمكنه، كما وصفه، “ملء الفراغات” التي عجزت عن ملئها المسيحية، حتى جعله الإسلام يشعر بأنَّه أقرب إلى يسوع من أي وقتٍ مضى كمسيحي.

وقد ذهب وينتر آنذاك، كمسلم، إلى بلاد الشرق الأوسط، وعاش في عددٍ قليل من البلدان الإسلامية، ودرس بجامعة الأزهر الشهيرة في مصر، قبل أن يعود أخيراً إلى الوطن بعد أكثر من 5 سنوات.

العودة لأوروبا

وعندما عاد إلى إنكلترا في الثمانينات، واجه أوروبا مختلفة، لكنَّه كان أكثر راحة مع هويته الجديدة عن ذي قبل.

وقال لصحيفة الإندبندنت البريطانية عام 2010: “على الرغم من أنَّ كل الصور النمطية عن الإسلام هي نموذج معاكس للحياة في الغرب، فإنَّ التحوُّل إلى الإسلام لم يكن كشعور الهجرة خارج الوطن، ولكنَّه كان كشعور العودة إليه”.

ولكن، لم يكن يشعر الجميع في موطنه بالطريقة نفسها تجاه المسلمين، ووجد المسلم المعتنق حديثاً للإسلام أنَّه ملزمٌ بتعريف المجتمع البريطاني والمجتمع الإسلامي البريطاني، على حد سواء، أنَّ كونه بريطانياً ومسلماً ليسا أمرين متعارضين.

وبدأ وينتر العمل كواعظ في المساجد الإنكليزية، ثم أنشأ شركة إنتاج سينمائي خاصة به، تُنتج محاضراتٍ لمحطات التلفزيون الإسلامية، وأخيراً عاد إلى كمبردج كأستاذ. وأسس لاحقاً كلية كمبردج المسلمة، حيث يدرس الطلاب تاريخ الدولة البريطانية، وأنظمتها القانونية، والأدب البريطاني، ويتعرفون على الديانات الأخرى. وهدف وينتر من ذلك هو التأكد من أنَّ الخريجين قادرون على “ربط الدين بالعالم الحديث” وإقامة جسر بين “التقاليد الإسلامية و مرحلة ما بعد الحداثة الغربية”.

وبدايةً من ملحمة بيولف ومؤلفات شكسبير، وصولاً إلى رحلاته إلى الفاتيكان، بالإضافة إلى اجتماعه السنوي مع البابا، لا يمكن لدروسه أن تكون أكثر أهمية مما هي عليه اليوم، وخاصة في مواجهة عالمٍ يتزايد فيه التفرق وكراهية الأجانب.

ويعزو وينتر الوضع السياسي الحالي إلى القلق وأزمة الهوية التي تجعل البريطانيين أكثر تشوشاً تجاه الغرباء. وكان هناك ما سماه “تفكك ما بعد الإمبريالية” للهوية البريطانية. فكلمة “بريطاني” هي “بناء سياسي” لا يمكن تعريفه بعد الآن في غياب الإمبراطورية القديمة. وقال وينتر: “أولئك الذين يُصرون على أنَّ الأقليات المسلمة أو غيرها يجب أن يُصبح انتماؤها أكثر بريطانية، عليهم أن يصمتوا قليلاً؛ لأنَّهم لا يملكون أي تعريفٍ مقنع لما يعنيه ذلك”.

وقال إنَّ أزمة الدين في المجتمع البريطاني تزيد من تعقيد الأمور. وأضاف: “هناك مشكلاتٌ فلسفية عميقة” تجعل ماهية القيم البريطانية الحالية محل شك. فالدولة تعكس هويةً مسيحية، “ودستورنا التقليدي ثيوقراطي، والافتراض التشريعي مبنيٌ على أنَّ الكتاب المُقدَّس والمسيحية هما حجر الزاوية الذي تُبنى عليه القيم”، ولكنَّ المجتمع علماني بدرجةٍ كبيرة، وهناك عددٌ من البريطانيين لم يعودوا يذهبون حتى إلى الكنيسة.

وتابع وينتر: “تتمثل إحدى المناقشات الأساسية التي يجب طرحها على مدار الأعوام الخمسين المُقبلة، في السؤال عن مصدر القيم إن لم تعُد تنبع من المسيحية”.

وقال إنَّ الفراغ المتروك في الإجابة عن هذا السؤال حتى الآن، والذي ازداد بسبب تزايد المساواة في الدخل وتآكل الهوية الأوروبية على أيدي العولمة- مكَّن زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين من الصعود؛ إذ يرى هؤلاء الزعماء في المسلمين “كبش فداء يمكن لومه بسهولة” على ما يحدث لـ”السكان الأصليين” هنا، ويميلون في ذلك إلى التركيز على المسلمين المختلفين اختلافاً واضحاً، والذين هاجروا إلى أوروبا في العقود الأخيرة.

وعلى الجانب الآخر، هناك مناقشات الهوية الصعبة التي يحتاج المسلمون إلى إجرائها هنا كذلك.

وقال وينتر بنبرة أسى: “الرسالة التي تُقدَّم في المساجد ليست مثاليةً دائماً”؛ لأنَّ الأئمة مُدرَّبون وفقاً لمناهج عفى عليها الزمن، ولا تتفق مع ثقافة بريطانيا الحديثة، “ولذلك، هناك شعورٌ بالانقطاع ووجود فجوةٍ بين خطاب القيادة واحتياجات الجماهير الفعلية”. لذا، “تتحول الجماهير تحوُّلاً متزايداً نحو المنح الدراسية الدينية، ولا سيما وهم يرون أنَّ الثقافة السائدة تصير أكثر عدائية”.

الشباب المسلم

وأضاف وينتر أنَّه لسوء الحظ، “يأتي معظم تمويل الإسلام، والدعم الأكاديمي الخاص به في المملكة المتحدة من مصادر أصولية خارج البلاد”. وأكَّد وينتر ضرورة إيجاد مصادر بديلة، قائلاً إنَّ المجتمع الإسلامي “يحتاج إلى تعبئة موارده الخاصة، والانخراط أكثر (في الجانب السياسي)؛ للمحاولة والحد من خطر خوض المزيد من المغامرات العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط، والتي عادةً ما تؤدي إلى عدم الاستقرار، وتزايد تجنيد المتطرفين”. ولكنه ذكر أنَّ “إنكلترا ليست بها مساجد تدعو إلى التطرف؛ إذ ينمو التطرف عبر الإنترنت، وغيره من الأدوات الخاصة”.

ويشعر وينتر بالقلق على الشباب تحديداً؛ إذ قال إنَّهم “غالباً ما يشعرون بالتشويه، والحرمان، والتخويف، والتهميش في العديد من الأشياء التي تفعلها الدولة”.

وقال وينتر لإحدى القنوات الإذاعية بهيئة الإذاعة البريطانية، وهو يصف الأحاديث التي تدور في خلد الشباب المسلمين، إنَّهم يقولون: “لماذا ينبغي لنا الاندماج في مجتمع يكرهنا كرهاً شديداً وواضحاً؟ ولماذا ينبغي لنا الاندماج في مجتمع لا يحترم أي شيء خاص بالإسلام؟”، وأضاف أنَّ حجتهم مقبولة، ثم رد عليهم قائلاً: “لا تهتموا أبداً برأي المجتمع عنكم، ثقوا بالله، فالإسلام دينٌ يحث معتنقيه على النجاح، وعلى أن يكونوا جيراناً إيجابيين، وجزءاً من المساعي الوطنية، بصرف النظر عمَّا إذا كان الأشخاص في مكان العمل مثلكم أم لا، وبغض النظر عمَّا إذا كنتم تتعرضون لمضايقاتٍ في مراكز الشرطة أو الجيش، كل ما عليكم هو أن تثقوا بالله، وينبغي أن يُمكِّنكم إيمانكم بالله -إذا كان إيماناً حقيقياً- من التعامل مع أي عقبات تعترض طريقكم”.

ومع كل هذه التحديات، قال وينتر: “يُمثِّل المجتمع المسلم البريطاني قصة نجاح في جوانب كثيرة، فالمساجد مليئة بالمصلين في كل مكان، ويتزايد عدد المسلمين البريطانيين بسرعةٍ فائقة، ويؤسس المجتمع المسلم نفسه اقتصادياً، ويخلق علاقةً إيجابية تتوطد يوماً تلو الآخر مع المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية الموجودة داخل المجتمع”.

وفي ضوء هذه الجوانب، يرى وينتر بصيصاً من الأمل في أنَّ تهميش المسلمين قد يصبح شيئاً من الماضي في نهاية المطاف. ويُمثِّل التاريخ جزءاً آخر من تفاؤل وينتر، ويمنحه منظوراً هو في أمسِّ الحاجة إليه.

إذ يقول وينتر: “أعتقد أنَّه ليس من قبيل المصادفة أنَّ الفضل في وجود النقاط المضيئة وسط ظلام القارة (الأوروبية) يرجع على مر التاريخ إلى المسلمين”، وضرب أمثلةً بذكر الحقبة الإسلامية في إسبانيا، والعصور العثمانية. وأضاف: “أما بالنسبة لمعظم فترات التاريخ الأوروبي الأخرى، فسنجد أنَّها كانت مُظلمة. وعلى مدار التاريخ، كان الشرق الأوسط أكثر تسامحاً من أوروبا القديمة، وكذلك كانت الصين القديمة، والهند القديمة. لطالما اعتنقت أوروبا فكرة إجبار المرء على اتِّباع الدين، أو الملك، وإلَّا كان مصيره الشنق، والسحب، وتقطيع جسده إلى 4 أجزاء، وهو أمرٌ لم يؤمن به الصينيون، ولا الهنود، ولا المسلمون على مدار التاريخ”.

وغالباً ما ينظر وينتر إلى أوائل المتحوِّلين البارزين إلى الإسلام في التاريخ القديم، أمثال اللورد ستانلي، الذي صار أول عضوٍ مُسلم في مجلس اللوردات البريطاني عام 1869، وعبد الله كويليام، الذي أسَّس أول مسجدٍ مُسجَّل في إنكلترا بمدينة ليفربول عام 1889، على أنَّهم مصدر إلهام.

وأوضح وينتر أنَّ هؤلاء الرواد “وضعوا أُسس الإسلام في بريطانيا. وكان خَلق هويةٍ بريطانية مسلمة مُخلِصة في أثناء عهد الملكة فيكتوريا في عصر الإمبراطورية أصعب بكثير من التحديات التي تواجهنا اليوم، وأعتقد أنَّهم فعلوا ذلك بعبقريةٍ غير عادية”.

ومن أجل مواصلة هذا التراث، وتحسين العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الأخرى في عالمنا المُنقسم، يقول وينتر إنَّ المسلمين بحاجةٍ إلى الدفاع عن أنفسهم، والنظر إلى قيم الإسلام الأساسية. ويعتقد وينتر أنَّ فعل ذلك سيساعد أوروبا على إعادة اكتشاف قِيَمها.

وأضاف: “الموارد الأخلاقية في التعاليم الإسلامية غير محدودة، بالنظر إلى حُب الجار، وحب الآخرين، والقيم الأسرية الصلبة، واحترام الكبير، كل هذه الأشياء التي بدأت أوروبا تفقدها، موجودةٌ في تعاليم الإسلام الأخلاقية”.

وقال وينتر إنَّ المسلمين في الحقيقة يُحدِثون تأثيراً كبيراً بالفعل. وأضاف: “انظروا فقط إلى حصاد الزيتون الإسباني” الذي سيفشل دون وجود عُمَّال مسلمين، أو فكَّروا في احتمال “انهيار الخدمة الصحية الوطنية هنا في إنكلترا لولا الأطباء والمُمرِّضون المسلمون”.

وأضاف: “نحن بالفعل جزءٌ لا غنى عنه من المُحرِّك الذي يُدير أوروبا. إذا استطعنا زيادة جهودنا كي نصير أعظم المُبشِّرين بالأخلاق، والرحمة، وحُسن الجوار في أوروبا التي تعاني زيادة التفكك والأنانية والمادية، أعتقد أننا سنتمكن حينئذٍ من تبرير وجودنا هنا”.

(المصدر: هافنغتون بوست عربي)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى