إعداد الشيخ حامد العطار
بعد أن وصل حجم سوق عملة البيتكوين قرابة 70 مليار دولار! وبعد مرور أكثر من ثماني سنوات على التعامل بها، استشعرت دار الإفتاء المصرية أنها بصدد نازلة من النوازل الفقهية التي تقتضي منها البحث والدراسة للوصول إلى حكم شرعي بشأنها.
واستعانت الدار بعدد من الخبراء وأهل الاختصاص وعلماء الاقتصاد في عدة اجتماعات من أجل التوصل إلى حقيقة هذه العملة ومدى تأثيرها على الاقتصاد.
السبق في إصدار الفتوى
لكن دار الإفتاء وإن كانت قد تأخرت في دراسة هذه النازلة الفقهية والاقتصادية إلا أنه مما يُذكر لها أنها بإصدارها هذه الفتوى، تكون أول دا إفتاء تتصدى لهذه النازلة رسميًّا!
حيثيات التحريم
استندت دار الإفتاء في فتواها، التي حرمت بها التعامل بعملة (البيتكوين) إلى مجموعة من الركائز الفقهية والمعطيات الاقتصادية، منها :
أولا : أن التعامل بها يؤدي إلى إضعاف قدرة الدول على الحفاظ على عملتها المحلية والسيطرة على حركة تداول النقد واستقرارها وصلاحيتها في إحكام الرقابة، فضلًا عن التأثير سلبًا بشكل كبير على السياسة المالية بالدول وحجم الإيرادات الضريبية المتوقعة، مع فتح المجال أمام التهرُّب الضريبي.
عدم الرواج
ثانيًا :افتقادها إلى خاصية مهمة من خواص النقد، وهي خاصية ( الرواج) حيث إن التعامل بها وحيازتها يحتاجُ إلى تشفير عالي الحماية، مع ضرورة عمل نسخ احتياطية منها من أجل صيانتها من عمليات القرصنة والهجمات الإلكترونية لفَكِّ التشفير، وحرزها من الضياع والتعرُّض لممارسات السرقة أو إتلافها من خلال إصابتها بالفيروسات الخطيرة، مما يجعلها غيرَ متاحةِ التداول بين عامَّة الناس بسهولة ويسر، كما هو الشأن في العملات المعتبرة التي يُشترط لها الرواج بين العامَّة والخاصَّة.
عدم الإفصاح
ثالثًا: أن لها أثرًا سلبيًّا كبيرًا على الحماية القانونية للمتعاملين بها من تجاوزِ السماسرة أو تعدِّيهم أو تقصيرهم في ممارسات الإفصاح عن تفاصيلِ تلك العمليات والقائمين بها، وتسهيل بيع الممنوعات وغسل الأموال عبر هؤلاء الوسطاء، فأغلب الشركات التي تمارس نشاط تداول العملات الإلكترونية تعملُ تحت غطاء أنشطة أخرى؛ لأن هذه المعاملةَ غيرُ مسموحٍ بها في كثير من الدول.
بين النقدية والعرضية
رابعًا : تفتقد البيتكوين خصائص النقدية، وخصائص العرضية على حد سواء، فلا هي بالنقد، ولا هي بالعرْض ( أي السلعة)
وافتقادها للنقدية جاء كما سبق من عدم رواجها، ثم من عدم قدرتها على أن تكون وحدة للقياس؛ بالمعنى الاقتصادي المعتبر في ضبط المعاملات والبيوع المختلفة والمدفوعات الآجلة من الديون، وتحديد قيم السلع وحساب القوة الشرائية بيسر وسهولة؛ وشرط النقود ووظائفها أن تُتخَذُ في عملية “التقييس”
كما أن مما يباعد بينها وبين النقدية : صعوبة إمكانية كَنْزها للثروة واختزانها للطوارئ المحتملة مع عدم طريان التغيير والتلف عليها؛ فضلًا عن تحقق الصورية فيها بافتراض قيمة اسمية لا وجود حقيقي لها مع اختلالها وكونها من أكثرِ الأسواق مخاطرة على الإطلاق.
خارج سيطرة الدولة
خامسًا : أنها تقوم على أساسٍ مُنْفَصلٍ عن النظام النقدي المعتمَد في أغلب دول العالم، وأنها تتحدَّد قيمتُها بناءً على حجم المضاربات وإقبال الناس على تداولها والتعامل بها فيما بينهم كبديل للنقود العادية؛ التماسًا للاستفادة من مزاياها؛ حيث إنه لا يَغْرَم المتعامل بها أي رسوم أو مصروفات على عمليات التحويل، ولا يخضع لأي قيود أو رقابة، فضلًا عن صعوبة تجميدها أو مُصادرتها.
كما أنها لا تخضع لرقابة المؤسسات المصرفية بها والتي على رأسها البنوك المركزية المنوط بها تنظيم السياسة النقدية للدول وبيان ما يقبل التداول من النقود من عدمه -يجعل القائم به مفتئتًا على ولي الأمر الذي جَعلَ له الشرعُ الشريفُ جملةً من الاختصاصات والصلاحيات والتدابير ليستطيع أن يقومَ بما أُنيط به من المهام الخطيرة والمسئوليات الجسيمة. وجَعَل كذلك تطاولَ غيرِه إلى سَلْبِه شيئًا من هذه الاختصاصات والصلاحيات أو مزاحمته فيها من جملة المحظورات الشرعية التي يجبُ أن يُضرَب على يَد صاحبِها؛ حتى لا تشيعَ الفوضى، وكي يستقِرَّ النظامُ العامُّ، ويتحقَّقَ الأمنُ المجتمعيُّ المطلوب.
افتيات على الدولة
ومن الثابت فقهيا أن ضرْب العملةِ وإصدارها حقٌّ خالصٌ لولي الأمر أو من يقوم مقامه من المؤسسات النقدية، بل إنها من أخَصِّ وظائفِ الدولة حتى تكون معلومةً المصْرفِ والمعيارِ؛ ومن ثَمَّ يحصُل اطمئنانُ الناس إلى صلاحيتها وسلامتها من التزييف والتلاعب والتزوير سواء بأوزانها أو بمعيارها.
وهذا الذي استوعبه الفقهاءُ من الشَّرع الشريف وطبَّقوه في فتاويهم وأحكامهم هو عينُ ما انتهى إليه التنظيمُ القانوني والاقتصادي للدول الحديثة؛ حيث عمدت القوانين إلى إعطاء سلطة إصدار النقد وبيان ما يقبل منه في التداول والتعامل بين مواطنيها ورعاياها تحت اختصاصات البنوك المركزية وتصرفاتها، وفق ضوابطَ مُحْكَمةٍ ومُشدَّدة من: طبْعها في مطابعَ حكوميةٍ، واستخدامِ ورق وحبر ورسومات مخصوصة، وفحصها لمعرفة التالف منها، ورقْمِها بأرقام مُسَلْسَلة.
كما تقف الدولُ عاجزةً أمام الأضرارِ التي تقعُ على عملاتها من جرَّاء هذه الخسائرِ بالتعامل بها، بل يؤدي النظام الذي يُنَظِّم ممارسات استخدام هذه العملة حاليًّا إلى اتخاذها وسيلةً سهلةً لضمان موارد مالية مستقرة وآمنة للجماعات الإرهابية والإجرامية، وتيسير تمويل الممارسات المحظورة وإتمام التجارات والصفقات الممنوعة: كبيع السلاح والمخدرات، واستغلال المنحرفين للإضرار بالمجتمعات؛ نظرًا لكونه نظامًا مغلقًا يصعبُ خضوعُه للإشراف وعمليات المراقبة التي تخضع لها سائر التحويلات الأخرى من خلال البنوك العادية في العملات المعتمدة لدى الدول، والقاعدة الشرعية تقول أنه “لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ”.
الغرر والمقامرة
سادسًا : أنها مجهولةٌ غير مرئيةٍ أو معلومةٍ مع اشتمالها على معاني الغش الخفيِّ والجهالة في معيارها ومَصْرِفها، مما يُفْضي إلى وقوع التلبيس والتغرير في حقيقتها بين المتعاملين؛ فأشبهت بذلك النقودَ المغشوشة ونفاية بيت المال، وبيع تراب الصاغة وتراب المعدن، وغير ذلك من المسائلِ التي قرَّر الفقهاءُ حرمةَ إصدارِها وتداولها والإبقاء عليها وكنزها؛ لعدم شيوع معرفتها قدرًا ومعيارًا ومَصْرفًا، ولما تشتمل عليه من الجهالة والغش، وذلك يدخلُ في عموم ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من غشَّنا فليس مِنَّا)).
هذا، بالإضافة إلى أن التعامُلَ بهذه العملة يترتَّبُ
عليه أضرارٌ شديدةٌ ومخاطرُ عاليةٌ؛ لاشتماله على الغرر والضرر في أشد صورهما:
والغرر هو: (ما انطوت عنا عاقبته أو تردَّد بين أمرين أغلبهما أخوفهما)، كما عرَّفه العلامة البجيرمي الشافعي في “حاشيته على الإقناع” (3/ 4، ط: دار الفكر).
وقد اتفق الاقتصاديون وخبراء المال على أن هذه العملة وعقودها حَوَتْ أكبر قدر من الغرر في العملات والعقود المالية الحديثة على الإطلاق، مع أن شيوعَ مثلِ هذا النمط من العملات والممارسات الناتجة عنها يُخِلُّ بمنظومة العمل التقليدية التي تعتمدُ على الوسائطِ المتعددة في نقل الأموال والتعامل فيها كالبنوك، وهو في ذات الوقت لا يُنشِئُ عملة أو منظومة أخرى بديلة منضبطة ومستقرة، ويُضيِّق فرص العمل.
هذا وقد صدرت هذه الفتوى من دار الإفتاء المصرية بتاريخ 2-1-2018.
(المصدر: إسلام أونلاين)